
حيدر المكاشفي
في الانباء ان تجمعاً هلامياً خلع على نفسه بوضع اليد مسمى (تجمع السودانيين الشرفاء بالخارج)، اوفد مندوبون عنه الى مقر حكومة الامر الواقع النازحة ببورتسودان، والتقى هؤلاء المندوبون احد اعضاء مجلس سيادة حكومة بورتسودان، وسلموه مذكرة قيل انها تضمنت أبرز الرؤى والمشروعات التي يعتزم التجمع تنفيذها..ولا عجب ففي أزمنة الاضطراب والانقسام، تكثر الكيانات التي تدّعي تمثيل الحقيقة أو الدفاع عن القيم المطلقة، سواء كانت دينية أو وطنية أو أخلاقية. وفي سياقنا السوداني الراهن، حيث تتشابك السياسة بالحرب، والهوية بالخوف، والسلطة بالدم، لا غرابة ان يظهر كيان جديد يُدعى (تجمّع شرفاء السودانيين)، وهو اسم مثير للانتباه، لا من حيث طبيعته التنظيمية أو نشاطه السياسي فحسب، بل من حيث ما ينطوي عليه من دلالات رمزية خطيرة، تضرب في عمق مفهوم المواطنة والانتماء الوطني. فهذا الاسم، الذي يوحي بأن أصحابه ينتمون إلى فئة أخلاقية أو سياسية متعالية، يستبطن ــ من حيث لا يدرون أو يدرون ــ نزعة إقصائية تتجاوز حدود السياسة إلى حدود تصنيف البشر بين شريف وغير شريف، وهي سابقة مقلقة في الوجدان السوداني الذي لطالما حاول ــ رغم الأزمات ــ أن يحافظ على قسط من احترام التعدد والاختلاف. فالاسم شرفاء السودان ليس بريئاً فهو يستخدِم الاصطفاف الأخلاقي كسلاح سياسي، إذ ان منح النفس صفة (الشرف) هو في جوهره فعل سلطوي وإن تغلف بشعارات الوطنية. هو لا يكتفي بالحديث عن مواقف سياسية أو انتقادات ظرفية، بل يصنع إطاراً أخلاقياً مُغلقاً يُحشر فيه المنتمون إلى هذا التجمع بوصفهم (الصفوة) أو (الطليعة الأخلاقية) للمجتمع، فيما يُترك الآخرون خارج هذا القوس، بلا تصنيف أو في خانة (غير الشرفاء).. هذا النوع من الاصطفاف الأخلاقي ليس جديداً، فقد عرفته الحركات الشمولية عبر التاريخ، حيث كانت تُطلِق على نفسها مسميات تعكس النقاء والطهارة، مثل الطليعة الثورية أو جبهة الصمود أو حماة العقيدة الخ، وكانت هذه التسميات تُستخدم في شيطنة الخصوم أكثر مما تُستخدم في التعبير عن الذات وفي سياقنا السوداني، يكتسب الأمر خطورة مضاعفة، لأن البلد يعيش لحظة تَشظٍّ غير مسبوقة، تتخلّق فيها الكيانات السياسية والعسكرية والمليشية والإعلامية بلا ضابط قانوني أو مؤسسي، وفي هذه اللحظة بالذات تصبح الألقاب الرمزية أدوات خطيرة للتفتيت لا للتوحيد، وللإقصاء لا للاحتواء. فمن أين يستمدون شرعية هذا (الشرف) المدعى؟.. أخطر ما في هذا النوع من التجمعات ليس لأنها تتخذ موقفاً سياسياً معيناً، فهذا حق مكفول لأي جماعة، بل لأنها تلبّس هذا الموقف بلبوس أخلاقي مطلق. وبدلاً من أن تقول نحن نرى كذا وكذا، تقول نحن(الشرفاء)، أي نحن الصواب المطلق، والآخرون ــ بالضرورة ــ ليسوا كذلك. لكن من الذي فَوَّض هؤلاء؟ ومن منحهم سلطة تصنيف السودانيين بهذا الشكل؟ هل حصلوا على تفويض شعبي؟ هل اجتمع الناس وأجمعوا على أنهم هم وحدهم أصحاب الضمير الحي؟ بالطبع لا. إنها سلطة رمزية زائفة تُنتج من داخل الاصطفافات لا من خارجها، وهي
تسعى إلى إنتاج (هوية فوقية) تَسِم الذات وتَنبذ الآخر. هذه النزعة تؤسس لخطاب شبيه بخطاب (الطهرانية السياسية)، حيث تُمجّد الذات وتُشيطن الغير، وهو خطاب غير قابل للنقاش لأنه لا يتحدث عن البرامج بل عن (النيّات)، ولا يُناقش الوقائع بل يوزّع الصفات.
في تشابه خطير مع (علماء السلطان) ففي الفقه السياسي الإسلامي، يُستخدم مصطلح علماء السلطان لوصف رجال الدين الذين يسخّرون خطابهم الديني لخدمة السلطة الحاكمة، ويبرّرون ظلمها أو يعطونها غطاءً شرعياً. وهؤلاء (العلماء) ــ رغم تلبّسهم بلباس الورع، كانوا في حقيقتهم أدوات سياسية لإسكات الناس، تحت دعوى الطاعة أو درء الفتنة. والخطاب الذي يتبناه ما يسمى (تجمع شرفاء السودانيين) ــ على نحو ما يبدو من بياناته وتصريحاته ــ يشبه من حيث البنية خطاب علماء السلطان، لا من حيث اللغة الدينية، بل من حيث الوظيفة. فهم لا يكتفون بموقف سياسي، بل يمنحون أنفسهم حق تصنيف المجتمع، ويتحدثون من موقع أخلاقي متعالٍ، ويُلمّحون ضمناً إلى أن من ليس معهم فهو ضدهم، بل ضد الوطن نفسه. إنهم، في هذا المعنى، يقومون بما كان يقوم به علماء السلطان، ولكن بلغة مدنية وطنجية عوضاً عن الفقهية، يبررون الاصطفاف، يمنحون الشرعية، يشككون في المخالفين، ويمنحون (صكوك الوطنية وقلادة الشرف) لمن يشبههم. ويتسببون بذلك في تداعيات خطيرة على الخطاب العام حيث تكمن خطورة هذه الكيانات في أنها لا تمزق المجال السياسي فحسب، بل تُفسد الخطاب العام والنقاش المجتمعي. فهي تُنتج خطاباً مغلقاً لا يحتمل النقد، وتُربّي جيلاً جديداً على فكرة أن الوطن ليس للجميع، بل لفئة محددة هي التي تملك تعريف الشرف والوطنية. وهذا يقود إلى عسكرة الوعي المدني، حين يتحول كل اختلاف في الرأي إلى خيانة، وكل نقد إلى إساءة، وكل اعتراض إلى عمالة. وهي بيئة مثالية لزرع بذور القمع، والترويج للرقابة الذاتية، وبناء نظم استبداد ناعمة تتخفى وراء شعارات الأخلاق والوطن. بينما السودان بوضعه الراهن لا يحتاج إلى (شرفاء).. بل إلى (عقلاء) في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان، لا حاجة لنا إلى كيانات تطلق على نفسها ألقاباً فوقية، بل إلى جماعات تؤمن بالحوار، وتقبل بالاختلاف، وتحترم المواطنة، ولا تُلخّص الوطن في شخص أو حزب أو مذهب أو مدينة. نحتاج إلى تجمع (العقلاء)
لا تجمع (الشرفاء(، تجمع يُدرك أن السياسة ميدان للنسبي لا المطلق، وأن الوطنية لا تُحتكر، وأن الشرف لا يُعلن في البيانات، بل يُثبت بالفعل، بالصبر، بالتواضع، وبالقدرة على احترام من يخالفك حتى وإن كنت تراه مخطئاً..وآخر قولنا دعوا الشرف لأهله، ولا تتاجروا به، إن أسوأ ما يمكن أن يواجهه السودان في هذه اللحظة هو أن تتحول السياسة إلى ميدان أخلاقي زائف، يُقصي المخالف لا يرد عليه، ويخوّنه لا يفنّد حجّته. وإن استمرار مثل هذه الكيانات ذات الألقاب النخبوية الزائفة، هو علامة على تعفن المجال العام، وعلى انسداد أفق الإصلاح الحقيقي. فمن أراد خدمة السودان، فليتنازل عن الألقاب، وليترك (الشرف) لأهله، فالشرف لا يُعلَن ولا يتخذ اسماً بل يُمارَس. وليعلم هؤلاء أن السودان لن يُبنى بـ(تجمعات الشرفاء)، بل بـ(تكتلات الحكماء)..
المصدر: صحيفة التغيير