في عمق الأطلس المتوسط، خرجت ساكنة آيت بوكماز عن صمتها، لا طلبا لامتياز، بل من أجل أبسط حقوق العيش الكريم. مسيرة احتجاجية سلمية، قطع فيها المواطنون عشرات الكيلومترات على الأقدام، لم تكن مجرد حدث عابر، بل شكلت لحظة فارقة تعبر عن أزمة ثقة متصاعدة بين ساكنة العالم القروي والجهات المسؤولة عن تنزيل المشاريع التنموية.
هذه المسيرة، رغم رمزيتها السلمية، تفضح عمق التفاوت المجالي في بلد اختار منذ سنوات نهج مقاربة تنموية شاملة بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي لم يدخر جهدا في الدفع بورش العدالة المجالية والاجتماعية، حيث أعطى انطلاقة مشاريع كبرى في البنية التحتية، والتغطية الصحية، ودعم الفئات الهشة، بل دعا مرارا إلى إعطاء الأولوية للعالم القروي والمناطق الجبلية.
لكن ما يقع على أرض الواقع كما في آيت بوكماز يظهر فجوة صارخة بين الرؤية الملكية السامية والتباطؤ الحكومي في التنفيذ. إن ضعف الحكومة في تفعيل مضامين النموذج التنموي الجديد، وتأخرها في تنزيل الوعود الانتخابية التي أطلقتها بشعارات براقة، يضعها أمام مساءلة سياسية وأخلاقية.
فكيف يعقل، بعد كل هذه السنوات من الخطابات الرسمية عن “تقليص الفوارق” و”إنصاف الهامش”، أن يظل مواطنون في قرى الأطلس يطالبون بطبيب قار، بطريق معبدة، بربط كهربائي ومائي، وبنقل مدرسي يحمي فتيات الجبال من الهدر الدراسي؟ أليست هذه أساسيات لا تحتاج إلى احتجاجات من أجل تلبيتها؟
الغريب في الأمر أن هذه المناطق، حين تحضر في الحملات الانتخابية، تتحول إلى منصات للوعود والتصريحات الرنانة. لكن بعد الانتخابات، تغيب المتابعة، ويغيب المنتخبون، ويغيب معهم الحس بالمسؤولية. وتبقى الساكنة وحيدة، تواجه قسوة الطبيعة، وعزلة الجغرافيا، ولا مبالاة المؤسسات.
نعم، هناك مبادرات محتشمة من بعض الفاعلين المحليين، كخروج رئيس جماعة تبانت للمشاركة في المسيرة، وهو موقف خلق جدلا بين من اعتبره تضامنا ميدانيا شجاعا، ومن رآه محاولة لركوب موجة احتجاجية مشروعة. كما عبرت بعض التنظيمات السياسية، وعلى رأسها فيدرالية اليسار، عن دعمها لمطالب الساكنة، لكنها تبقى أصواتا معزولة أمام صمت الأحزاب الكبرى التي تمسك بزمام القرار السياسي والتشريعي.
المعادلة اليوم باتت واضحة: الملك يقود برؤية استراتيجية، يعبر عنها في كل مناسبة، ويترجمها من خلال أوراش كبرى (النموذج التنموي، الحماية الاجتماعية، التأهيل المجالي…)، بينما تقف حكومات متعاقبة عاجزة عن مجاراة هذه الرؤية، مكتفية بتدبير يومي بيروقراطي يقتل روح الإصلاح الحقيقي.
الرسالة التي وجهتها ساكنة آيت بوكماز هي جرس إنذار: العالم القروي لم يعد مستعدا للانتظار أكثر. الصبر له حدود، والكرامة ليست قابلة للتأجيل. وعلى الحكومة أن تفهم أن المناطق الجبلية ليست عبئا، بل عمق وطني استراتيجي، يزخر بالثروات البشرية والطبيعية، ويستحق أن يكون شريكا كاملا في مسار التنمية.
إن أبناء الجبال، كما قال أحدهم: “لا يطلبون المستحيل، بل فقط حياة تحترم فيها إنسانيتهم”. وهذه العبارة وحدها تختزل فشل الحكومات في الوفاء بالتزاماتها، وتلخص الحاجة إلى إرادة حقيقية تترجم توجيهات جلالة الملك إلى منجزات على الأرض، لا مجرد تقارير وإنجازات على الورق.
المصدر: العمق المغربي