مجاهد عبدالله الفاطرابي

نُظم الحكم في أي دولة لا تُستورد جاهزة من تجارب الآخرين، بل تنشأ من صلب البيئة الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي تُنتجها.. فكل نموذج حكم ناجح في أي مكان في العالم، هو في الحقيقة خلاصة تطور داخلي طويل، تفاعل فيه المجتمع مع نفسه واختبر خياراته، حتى استقر على الصيغة التي تُشبهه وتعبر عنه.. لا توجد ديمقراطية واحدة صالحة لكل المجتمعات ولا توجد دولة في التاريخ بلغت الاستقرار عبر وصفة خارجية.. ولذلك فإن محاولة نسخ نماذج حكم من دول متجانسة ومستقرة، مثل بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا، إلى دول مثل السودان، ذات التكوين الاجتماعي المتعدد اثنيا وثقافيا والتاريخ السياسي “المتفجر”، هي خطأٌ جسيم، بل هي جريمة سياسية في حق الحاضر والمستقبل.

هذا تماماً ما فعله المستعمر البريطاني حين فرض على السودان ديمقراطية ليبرالية تقوم على “حكم الأغلبية” رغم علمه الكامل أن بنية المجتمع السوداني آنذاك وحتى اليوم، لا تسمح بذلك النوع من الحكم دون أن “ينفجر”.. فرض الديمقراطية من أعلى، عبر نخبة أنشأها وربّاها بنفسه لتكون الوكيل المحلي لإرادته ومنحها أدوات الدولة باسم “الاستقلال”، ثم انسحب تاركاً وراءه قنبلة موقوتة.. كان يعلم أن هذه الصيغة ستقود إلى صراع محتوم، لأن الأغلبية السكانية المهمشة، إن وصلت للحكم بالصندوق، ستُقصي الأقلية”المتحكمة”، التي بدورها لن تتردد في استخدام الجيش الذي ورثته عن الاستعمار للعودة إلى السلطة بالقوة.. وهكذا ظل السودان يدور في حلقة مفرغة، ديمقراطية قصيرة يليها انقلاب، فانتفاضة، ثم ديمقراطية جديدة لا تختلف عن سابقتها إلا في الوجوه.

في جوهر الصراع السوداني اليوم لا تكمن المشكلة في من يحكم، بل في كيف يُحكم السودان ومن يملك مفاتيح الدولة ومن يقرر شكل السلطة وطبيعة توزيعها.. إن التكوين الإثني والجهوي والثقافي المتعدد للسودان لا يحتمل ديمقراطية تقوم على الأغلبية العددية، لأن الأغلبية في هذه الحالة ليست مجرد خيار سياسي، بل غالباً ما تُقرأ كتهديد وجودي للأقليات المسيطرة، التي ترى في الديمقراطية نهاية لمركزها التاريخي.. ولهذا كان العسكر المنحدرون في الغالب من مناطق محددة هم الأداة التي تستخدمها هذه القوى في كل مرة يقترب فيها الشارع من تحقيق حكم مدني ديمقراطي. ليس لأنهم ضد الديمقراطية كمبدأ، بل لأنهم ضد ديمقراطية تُعيد ترتيب السلطة لصالح الأغلبية الاجتماعية والجغرافية في البلاد.

هنا يبرز مفهوم “الديمقراطية التوافقية” كخيار عقلاني وضروري لمجتمع مثل السودان.. فهذه ليست ديمقراطية “الغلبة” ولا ديمقراطية “الصفقة”، بل ديمقراطية تقوم على التوازن، وتُبنى على الاعتراف الصريح بوجود مكونات مختلفة في الدولة لكل منها حق أصيل في أن تكون شريكة في القرار لا مجرد تابع..! في هذا النموذج لا يُقصى أحد ولا يُمنح أحد تفوقاً أبدياً، بل تُدار الدولة بالتوافق لا بالهيمنة، بالشراكة لا بالاحتكار.

هذا النظام مطبق في دول عديدة تشبه السودان من حيث التركيبة المعقدة، مثل سويسرا التي تدير تعددها اللغوي والديني بنظام سياسي يضمن للجميع تمثيلاً عادلاً ومتوازناً، لا وفق الصندوق وحده، بل عبر ضمانات دستورية وسياسية تحول دون الاستبداد باسم الأغلبية.. وكذلك في بلجيكا ولبنان وغيرها من الدول التي فهمت أن استقرار الدولة في مجتمع متنوع لا يتحقق عبر قواعد اللعبة الديمقراطية” التقليدية”!، بل عبر قواعد جديدة تُكتب من وحي الواقع نفسه.

ولعل البعض يخلط بين هذا النموذج والفيدرالية، لكن الفارق جوهري..فالفيدرالية توزيع إداري للسلطة بين المركز والأقاليم وقد يكون مفيداً في إدارة الموارد والخدمات لكنه لا يُعالج جوهر الصراع حول السلطة السيادية وتمثيل المكونات الاجتماعية فيها. الديمقراطية التوافقية على العكس هي نظام سياسي يُعيد تشكيل مؤسسات الدولة كلها من الرئاسة وحتى المحاكم على أساس شراكة متفق عليها لا على حسابات الصندوق وحده.

السودان اليوم على حافة الانهيار الكامل، لا لأن الحرب مستمرة فقط، بل لأن الدولة نفسها لم تُبنَ يوماً على عقد اجتماعي جامع.. ما يحدث الآن في بورتسودان وفي الخرطوم، وفي دارفور وفي النيل الأزرق وفي كردفان هو نتيجة طبيعية لغياب هذا التوافق.. الكل يفاوض على مستقبل السودان من خارج الدولة..! لأن الدولة لم تُنصف أحداً..الحركات المسلحة تتحول إلى أدوات ابتزاز سياسي، القوى “الجهوية” تُسلّح نفسها لتضمن موطئ قدم والجيش نفسه لم يعد مؤسسة وطنية..!، بل طرفاً من أطراف الصراع على السلطة.

في هذا المشهد الكارثي، لا مخرج إلا بالعودة إلى الجذور..!، صياغة نظام سياسي جديد ينبثق من واقعنا لا من تجارب غيرنا ويقوم على قاعدة “الديمقراطية التوافقية” كخيار وحيد يُنقذ السودان من أن يصبح دولة بلا مستقبل..! وبالتالي يجب على اساتذة العلوم السياسية باعتبارهم “منظرين”للفكر السياسي ان يجلسوا مع النخبة السياسية لتأطير هذا النظام السياسي الذي يلائم التركيبة الاجتماعية والثقافية للسودان دستوريا.. وإلا فإن مصير بلادنا سيكون التمزق والتفكك و”الزوال”..!.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.