ادم ابكر عيسى (روكرو)

صدى الوطن

آدم أبكر عيسي

 

تُعَدُّ “المناكفاتُ” في الساحةِ السياسيةِ، بخاصةٍ بين المكوناتِ الحزبيةِ وحركاتِ الكفاحِ المسلّح، ظاهرةً سلبيةً تطغى على منطقِ العملِ الجماعيّ والتعاونِ البنّاء والمشاركةِ الفاعلةِ. إنها تُترجمُ إلى سعيٍ مُمنهجٍ لإقصاءِ الآخرِ أو محوهِ من المشهدِ، بهدفِ إخلاءِ الساحةِ للطرفِ المُناكِف. تُشكلُ هذه الظاهرةُ إحدى أبرزِ علاماتِ الخيبةِ وعدمِ النضجِ السياسيّ في البلدانِ الناميةِ والعالمِ العربيّ؛ فليسَ هناكَ من يستطيعُ أن يلغيَ الآخرَ بشكلٍ جذريٍّ أو يُزيلهُ، ذلكَ أنَّ كلَّ مكونٍ سياسيٍّ يُمثّلُ قاعدةً جماهيريةً وقناعاتٍ راسخةً لدى أنصاره.

 

يُمكنُ إسكاتُ الطرفِ الآخرِ أو كبتهُ مؤقتاً، لكنّ ذلكَ لا يعني إلغاءَهُ الدائمَ. ويبدو أنَّ قادةَ بعضِ المكوناتِ السياسيةِ يفتقرونَ إلى البصيرةِ الفلسفيةِ التي تُقودهمْ إلى قناعةٍ بأنَّ الآخرَ لا يزولُ إلا إذا طمرهُ التاريخُ بفعلِ التحوّلاتِ الكبرى. في هذا المناخِ الهشِّ، يبرزُ سعيُ البعضِ لتحقيقِ مصالحَ ذاتيةٍ ضيقةٍ على حسابِ الصالحِ التنظيميّ. يصلُ الأمرُ ببعضِ الأفرادِ إلى حدِّ التواطؤِ، مُفشينَ معلوماتٍ سريةً عن مكونهمِ السياسيّ للأطرافِ المنافسةِ أو حتى الجهاتِ الخارجيةِ، طمعاً في الظفرِ بمنصبٍ أو نفوذ. هذا الضعفُ الجوهريّ ينبعُ من غيابِ مؤسّساتٍ تنظيميةٍ قويةٍ وفعّالةٍ، قادرةٍ على التخطيطِ الاستراتيجيّ السليمِ، وتحديدِ احتياجاتِ التنظيمِ الأساسية. فبدلاً من اختيارِ القياداتِ بناءً على الكفاءةِ والرؤيةِ، غالباً ما تُصنعُ الصدفةُ “القادةَ” الذينَ يتصدّرونَ المشهدَ، مُحدّدينَ مصيرَ التنظيمِ دونَ مراعاةٍ للخطِّ العامِّ أو المردودِ الحقيقيّ الذي يمكنُ أن تُحقّقَهُ المنظومةُ ككلّ.

 

إنَّ البحثَ عن الذاتِ والولاءاتِ المتعددةِ، وصولاً إلى الارتباطِ بجهاتٍ خارجيةٍ كـ “عملاء”، قد أضحى سمةً غالبةً في الشأنِ السياسيّ. لهذا، نجدُ فئةً معينةً تتصدرُ المشهدَ السياسيّ، على الرغمِ من أنها ليستْ الكفاءاتِ الوحيدةَ داخلَ المنظومةِ، ولا هي الأكثرُ وعياً أو الأقدمية. بل إنّ قربهمَ من مركزِ القيادةِ أو روابطَ القرابةِ تمنحهمُ مكانةً مرموقةً، دونَ اعتبارٍ للمؤهلاتِ أو القدراتِ الحقيقية. هذه الثغراتُ الداخليةُ والولاءاتُ المشبوهةُ تُصبحُ مدخلاً سهلاً للقوى الخارجيةِ لاختراقِ “المطابخِ السياسيةِ” واختطافِ قرارِها، مُوجّهةً الدفةَ بما يخدمُ مصالحها، لا مصالحَ الوطن.

 

المؤسساتُ الوطنيةُ: مرآةٌ للوطنِ وليستْ للقرابة

 

إنَّ جوهرَ الثقافةِ السياسيةِ السليمةِ وقبولِ الآخرِ وتكافؤِ الفرصِ يكمنُ في أن تُصبحَ مؤسّساتُ الدولةِ، مرآةً حقيقيةً تعكسُ كافةَ أبناءِ الوطنِ. يجبُ أن تمثّلَ هذه المؤسّساتُ كلَّ أطيافِ المجتمعِ بنوعٍ من العدلِ والإنصافِ، بعيداً عن حصرِ التمثيلِ في مكونات أو جماعات المصالح . أو محاولاتِ “تجميلِ القبيح”.

 

بل إنَّ هذا المبدأَ يجبُ أن يمتدَّ ليُطبّقَ داخلَ المكوناتِ السياسيةِ ذاتها؛ فالوطنُ فوقَ كلِّ اعتبارٍ، وتقديمُ المصلحةِ الوطنيةِ يتطلبُ القضاءَ على العنصريةِ والقبليةِ وعلاقاتِ القرابةِ في التراتبيةِ الداخليةِ لهذهِ الكياناتِ. فلا يمكنُ لمكونات سياسيةٍ أن تطالبَ بتكافؤِ الفرصِ على مستوى الدولةِ وهي لا تُطبّقهُ في هيكلها الداخليّ.أو في تحالفاتها السياسية .

 

تكمنُ الخطوةُ الأولى للإصلاحِ الجذريّ في مدى تطبيقِ المعاييرِ والقيمِ التي تُعلنها المنظومةُ السياسيةُ للناسِ. يجبُ أن تُصبحَ هذه المعاييرُ والمبادئُ نهجاً وسلوكاً داخلياً لها، قبلَ أن تُطالِبَ بتطبيقها على مستوى الدولةِ ككلّ. وكما يقولُ الشاعرُ: “لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مِثلَهُ … عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ”. فالمبادئُ لا تتجزأُ، ولا تُباعُ، ولا تُوهبُ، ولا تُعارُ، ولا تتغيرُ، بل تبقى ثابتةً ثبوتَ الجبالِ الراسياتِ. وإذا رأيتَ تغيّراً بينَ الإنسانِ ومبادئهِ، فالعلةُ تكمنُ في تنازلٍ عن تلكَ المبادئِ، وليسَ في تبدّلها.

 

لذا، فإنّ السبيلَ نحو بناءِ وطنٍ خالٍ من الأزماتِ، يحترمُ الذاتَ الإنسانيةَ بفكرها ورؤيتها الثاقبةِ، ويقومُ على رؤيةٍ جماعيةٍ مُوحدة، هو تحقيقُ إصلاحاتٍ جذريةٍ في البنيةِ السياسية. هذا يستدعي إتاحةَ تكافؤِ الفرصِ للجميعِ دونَ اعتبارٍ لروابطِ القرابةِ أو الانتماءاتِ الضيقةِ، بل بتقديمِ العطاءِ، والجهدِ، والعملِ الجماعيّ، والفكرِ المستنيرِ، والالتزامِ بالمبادئِ والقيمِ كعنوانٍ للترقيِّ والصعودِ.إلى أعلى المراتب. معاً، لنصنعَ مستقبلًا تُستعادُ فيهِ السيادةُ الوطنيةُ كاملةً، بعيداً عن المناكفاتِ وتأثيراتِ العملاءِ، وتُبنى فيهِ المؤسساتُ على الكفاءةِ والعدلِ لا على المحسوبيةِ أو الولاءات الضيقة.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.