الإسلامويون في السودان: ثمانية عقود من (التمكين) نحو (التفكُك)
خالد أبو أحمد
منذ فجر انقلاب 1989، لم تكن الحركة (الإسلامية) في السودان مجرد تيار فكري يسعى إلى ”أسلمة الدولة”، بل تحولت بسرعة إلى سلطة شمولية تسعى لاحتكار القرار والاقتصاد، وبسط نفوذها على أجهزة الأمن والإعلام والتعليم، ومع مرور الزمن، انكشف أن المشروع الإسلامي الذي بشّر بـ”النهضة الأخلاقية” لم يكن إلا واجهة لتمكين طبقة محددة من رجال الدين والسياسة والمال، إلى أن تقوّضت أركانه بثورة شعبية غاضبة، دفعت الحركة إلى مواجهة أسئلتها المصيرية: هل أخفقت في تطبيق القيم التي بشرت بها؟ أم أن الفكرة نفسها كانت مغلوطة منذ البدء؟.
هذا التحوّل اتّبع نهجا منظما ومخططا بعناية لإعادة صياغة الدولة وفق ملامح المشروع التنظيمي، سياسة التمكين لم تكن عشوائية، بل منهجا مدروسا لإعادة تشكيل مؤسسات الحُكم بما يخدم مصالح ضيقة تتجاوز الانتماء الوطني، تم تعيين كوادر الحركة في القضاء، البنوك، الإعلام، والجامعات، وبات الولاء للتنظيم هو المعيار الحقيقي للترقية والتمكين، لا الكفاءة أو الخبرة.
المؤسسات الدعوية والخيرية تحوّلت إلى واجهات لتدوير الأموال داخليا وخارجيا، عبر شبكات استثمار لا تخضع للرقابة المالية الرسمية، حتى المؤسسات الإعلامية، التي يفترض بها الاستقلال والمهنية، كُرِّست كمنصات دعائية تنشر خطابًا أحاديًا يمجّد السلطة ويشيطن الخصوم. لقد شُيّد نظام متكامل يُعيد إنتاج السلطة التنظيمية في كل تفاصيل الدولة، ما أدى إلى خلق ما يُشبه ”دولة داخل الدولة”، تتمتع بامتيازات فوق المساءلة وتتحرك بمنطق القوة لا القانون.
بدلًا من تسخير ثروات السودان لخدمة التنمية، استخدمت الحركة الإسلامية الاقتصاد كأداة للسيطرة السياسية وترسيخ النفوذ. الذهب، النفط، والأراضي الزراعية تعرضت للنهب المنظم، ليس فقط عبر التهريب، بل من خلال عقود وصفقات غامضة خُصصت فيها الثروات لصالح جهات بعينها. في عام واحد فقط، قدّرت تقارير رسمية المهرب من الذهب بـ6 مليارات دولار، جرى تصريفه خارج القنوات الشرعية، ما حرم الدولة من موارد أساسية كان يمكن أن تغيّر ملامح الفقر والتهميش في البلاد.
الاستثمار الأجنبي وموارد المغتربين حُوّلت إلى حسابات تابعة لشركات خاصة ترتبط برجال التنظيم، وتم بيع مؤسسات وطنية كـ”الخطوط الجوية السودانية” بأسعار رمزية إلى أطراف موالية، ما حوّل القطاع العام إلى سوق للنفوذ الشخصي، وفقدت الدولة قدراتها الإنتاجية والرمزية معًا. والمثير أن بعض رجال التنظيم حصلوا على إعفاءات ضريبية كاملة، في الوقت الذي غُرقت فيه الشركات المستقلة برسوم مُنهكة. هذا الخلل خلق بيئة اقتصادية غير متكافئة، ومجتمعا طبقيا تحكمه العلاقة بالسلطة، لا الكفاءة، وأصبح الاقتصاد نفسه أسير شبكة من الامتيازات الممنوحة سياسياً.
في سعيها لحماية مشروعها، أعادت الحركة (الإسلامية) تشكيل الجهاز العسكري ليخدم سلطتها، لا الدولة فتم إنشاء ”قوات الدعم السريع”، بداية كذراع قتالي موازٍ للجيش، لكنها سرعان ما تحولت إلى قوة مستقلة ذات نفوذ مالي وسياسي. تورّطت في صراعات داخلية، وأصبحت تمثل تهديدًا للدولة ذاتها، بل تحولت في لحظات فارقة إلى عنصر يحسم الصراع، لا يحمي وحدة البلاد، الجيش الوطني العريق تم تهميشه لحساب الكوادر التنظيمية، فتراجع الأداء، وانهارت العقيدة العسكرية التي تربط القوات بمصالح الوطن، وباتت الولاءات أكثر تأثيرًا من الانتماء الوطني.
إن الخطاب (الإسلامي) الذي بشرت به الحركة كان يقوم على العدالة، النزاهة، والشفافية، لكنها مارست سياسة الإقصاء، ونهبت المال العام، وخالفت أبسط قواعد الحُكم الرشيد، من شُرع للتطبيق تحول إلى أداة للتبرير، وغابت النماذج الأخلاقية الحقيقية التي يُفترض أن تجسّد الفكرة، وبقي الشعار وحده يملأ المنصات، مع سقوط النظام، بدأت القيادات في التنصّل من أخطائها، وغيّر بعضهم وجهه السياسي، بينما استمر آخرون في لعب أدوار جديدة بأسماء مغايرة، وكأن الماضي صفحة يمكن طيّها بسهولة.
لجنة إزالة التمكين كشفت حجم الفساد والتضخم في الممتلكات، حيث تبين وجود شركات مسجلة بأسماء وهمية، وشبكات مالية لها امتدادات خارجية. ظهرت ممتلكات تفوق ما يمكن تبريره سياسيًا أو اقتصاديًا، مما عزز من قناعة قطاعات واسعة من السودانيين بأن ما جرى لم يكن اجتهادًا سياسيًا فاشلًا، بل منظومة متكاملة من الفساد والاستحواذ. وحتى الخطاب الأخلاقي، الذي شكّل جوهر ”النهضة الإسلامية”، تآكل أمام الممارسات الواقعية، فظهرت الهوة بين الشعار والممارسة، وبين الفكرة والسلطة، وتعرّى المشروع أمام الواقع، ولم يَعد له غطاء قيمي يحميه من النقد أو الرفض الشعبي.
وحتى الخطاب الأخلاقي، الذي شكّل جوهر “النهضة الإسلامية”، تآكل أمام الممارسات الواقعية، فظهرت الهوة بين الشعار والممارسة، وبين الفكرة والسلطة، وتعرّى المشروع أمام الواقع، فلم يَعد له غطاء قيمي يحميه من النقد أو الرفض الشعبي.
أولئك الذين خدموا في دهاليز النظام خلال العشرية الأولى من التمكين، يملكون في صدورهم مشاهد يصعب على الجبال الراسيات حملها، من فرط ثقلها وانحطاطها. عايشوا فضائح مدوية، ووقائع نتنة تكشّفت أمامهم داخل غرف التنظيم المغلقة. ومن المثير أن بعض من قادوا هذا الانحراف كانوا يُضرب بهم المثل في النزاهة والكفاءة خلال حقبة ما قبل انقلاب يونيو 1989، لكنهم انكسروا أمام شهوة المال والسلطة، فارتكبوا ما لا يُبرر ولا يُغتفر. تحوّل الالتزام إلى غطاء، والكفاءة إلى وسيلة للتمويه، بينما الفساد تمدّد تحت عباءة المشروع حتى بلغ درجة يصعب فيها الصمت دون خيانة للضمير أو الوطن.
رغم أن كثيرًا من القيادات العليا الحالية يعرفون حجم تلك الفضائح، إلا أنهم مطمئنون إلى صمت من عايشوها، لأنهم يعلمون أن من يحمل هذه الأسرار لن يتكلم عنها، إما حفاظًا على سمعته المهنية، أو خوفًا من التشهير الشخصي. والمفارقة أن هذا الصمت، الذي منحهم الأمان السياسي، لا يمكن أن يصمد إلى الأبد؛
المصدر: صحيفة التغيير