شهد الإعلام الجهادي منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي تحولات نوعية عميقة، كان أبرزها الانتقال من النموذج الدعويالبياني الذي مثّله تنظيم القاعدة، إلى النموذج البصريالرقمي الذي تبنّاه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ويُعد هذا التحول انعكاسًا لتغير البيئة الاتصالية عالميًا، لا سيما مع توسع فضاء الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ما أتاح للجماعات الجهادية تطوير أدواتها الاتصالية وإعادة تشكيل خطابها الدعائي ليواكب تحولات العصر الرقمي.

لقد اعتمد تنظيم القاعدة، في مرحلته التأسيسية، على وسائط إعلامية تقليدية نسبياً، تمثلت في البيانات المكتوبة، والشرائط الصوتية والمرئية التي كان يتم تهريبها أو بثها عبر قنوات مثل “الجزيرة”، مع تركيز واضح على الخطاب النخبوي الموجه إلى الأمة الإسلامية ككل، وفق منطق “الدعوة إلى الجهاد” والتأصيل الشرعي للعنف. أما البعد البصري في هذا الإعلام فظل ثانوياً، وغالباً ما افتقر إلى الجودة التقنية أو الإخراج الاحترافي، مما حدّ من انتشاره وتأثيره الجماهيري.

في المقابل، جاء تنظيم الدولة الإسلامية ليُحدث طفرة في الإعلام الجهادي، مستفيدًا من دروس القاعدة، ولكن منطلقاً نحو نموذج إعلامي أكثر جرأة واحترافية وتفاعلية. فقد انتقل التنظيم من استراتيجية التبليغ إلى استراتيجية التأثير البصري والنفسي، عبر توظيف تقنيات الإنتاج السينمائي، والاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي لنشر رسائله وتوسيع قاعدة جمهوره. وقد تمثل هذا التحول في إنشاء مؤسسات إعلامية متكاملة مثل مركز “الحياة” الإعلامي، وستوديو “أجناد”، وقناة “الفرقان”، التي أُنتجت من خلالها أفلام دعائية تتميز بإخراج سينمائي متقن، وتأثير درامي مكثف، وتصوير بطولي لعناصر التنظيم.

وتكشف مقارنة بسيطة بين إصدارات القاعدة وإصدارات داعش مثل مجلتي “صوت الجهاد” مقابل “دابق” أو “رومية” عن اختلاف جوهري في أساليب السرد البصري واللغوي، حيث اعتمد داعش على تصميم مجلات رقمية ملونة، متعددة اللغات، غنية بالصور والمشاهد التمثيلية، ما يعكس تحولًا من التنظير العقائدي إلى السرد القصصي والتأثير العاطفي، ومن الخطاب الشرعي التجريدي إلى خطاب الهوية والبطولة والانتماء.

كما تميز إعلام داعش بقدرته على استغلال الأحداث العالمية الكبرى، وربطها بمشروعه العقائدي، وتصوير التنظيم على أنه كيان عالمي يتجاوز الحدود الوطنية، وذلك من خلال إطلاقه مفاهيم مثل “الخلافة” و”الهجرة” و”جواز سفر الخلافة”، وخرائط توسيعها، مع إنتاج رموز مرئية تعزز حضور التنظيم في الوعي الجمعي للمتلقين.

ولم يكن هذا التحول في الشكل فحسب، بل أيضاً في الاستراتيجية، حيث انتقل التنظيم من الخطاب النخبوي المغلق إلى الدعاية الجماهيرية العابرة للحدود، ومن التركيز على القتال المحلي إلى بناء صورة مقاتل الخلافة العالمي، مستهدفًا فئة الشباب على وجه الخصوص، باعتبارها الأكثر تفاعلاً مع الوسائط الرقمية.

ويُمكن القول في ضوء هذا التحول أن تنظيم الدولة الإسلامية قد أعاد تعريف الإعلام الجهادي، محولاً إياه من أداة تبليغ دعوية إلى سلاح تعبوي استراتيجي، يجمع بين الرسالة الدعائية والهيمنة الرمزية، ويسعى إلى التحكم في سردية الصراع الجهادي، ليس فقط عبر عرض مشاهد العنف، بل من خلال تطويع الإعلام لتكوين هوية جهادية رقمية متخيلة.

1. استراتيجية داعش الإعلامية

تعتبر الاستراتيجية الإعلامية لتنظيم داعش ركيزة أساسية في بناء نفوذه وتوسيع نطاق عملياته. لم تكن هذه الاستراتيجية مجرد مجموعة من الأنشطة الإعلامية العشوائية، بل كانت خطة محكمة ومتكاملة تهدف إلى تحقيق أهداف محددة بدقة. يمكن تلخيص الأهداف الرئيسية لهذه الاستراتيجية في عدة نقاط:

• الحصول على تأييد أوسع: سعى التنظيم إلى جذب أكبر عدد ممكن من المؤيدين والمتعاطفين مع أفكاره، ليس فقط من داخل مناطق سيطرته، بل من جميع أنحاء العالم. وقد تم ذلك من خلال تقديم صورة جذابة ومثالية للخلافة المزعومة، والتركيز على الجوانب التي قد تستهوي الشباب والمهمشين.

• تجنيد عناصر جديدة (خاصة الشباب): كان تجنيد المقاتلين الجدد، وخاصة من فئة الشباب، هدفًا حيويًا لداعش. وقد أدرك التنظيم أن هذه الفئة هي الأكثر استخدامًا لوسائل الإعلام الحديثة والأكثر تأثرًا بمحتواها، ولذلك ركز جهوده الإعلامية على استهدافهم برسائل مصممة خصيصًا لتلبية تطلعاتهم أو استغلال نقاط ضعفهم .

• بث الرعب في نفوس المواطنين: استخدم داعش الإعلام كسلاح نفسي لبث الرعب في قلوب خصومه والمواطنين في المناطق التي يخطط للسيطرة عليها. فمن خلال نشر مقاطع الفيديو التي تصور أعمال العنف والقتل، كان التنظيم يهدف إلى إجبار السكان على الاستسلام أو النزوح، مما يسهل عليه السيطرة على الأراضي .

• حشد التأييد من المتعاطفين والمؤيدين: بالإضافة إلى التجنيد المباشر، عمل التنظيم على تعزيز ولاء المتعاطفين والمؤيدين لأفكاره. وقد تم ذلك من خلال عرض بطولات مزعومة لعناصره، وتصويرهم كأبطال يواجهون النيران لإعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله.

أما عن الاحترافية في التوظيف الإعلامي، فقد تميزت استراتيجية داعش الإعلامية بمستوى عالٍ من الحرفية والمهنية، مما ميزها عن غيرها من الجماعات الجهادية. وقد تجلى ذلك في عدة جوانب:

• الاستفادة من وسائل الإعلام التقليدية والحديثة: لم يقتصر داعش على استخدام وسيلة إعلامية واحدة، بل نوع في استخدامها ليشمل القنوات الفضائية، المحطات الإذاعية، المواقع الإلكترونية، المجلات، ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا التنوع ضمن وصول رسائله إلى شرائح واسعة من الجمهور.

• التمويل الضخم والموارد البشرية المتخصصة: يشير المنتج الإعلامي النهائي الذي خرج عن التنظيم إلى أنه رصد مبالغ ضخمة لتمويل عملياته الإعلامية. كما اعتمد على كوادر متخصصة في مجالات التصميم، التصوير، والمونتاج، مما أضفى على إنتاجه جودة عالية تضاهي إنتاجات وسائل الإعلام الكبرى. وقد استمد داعش قدراته الرقمية من تجنيد عناصر متخصصة في المجال الرقمي وتكنولوجيا المعلومات.

• التحول من تنظيم محلي إلى شبكة عالمية معقدة: في غضون سنوات قليلة، تحول تنظيم داعش من كونه تنظيمًا محليًا إلى شبكة عالمية معقدة وممتدة إلى أماكن مختلفة، وكان هذا التحول مدفوعًا بشكل كبير باستغلال التكنولوجيا الحديثة. هذا التحول سمح له بالوصول إلى جمهور أوسع وتجنيد عناصر من دول مختلفة.

2. وسائل الإعلام المطبوعة

أدرك تنظيم داعش مبكرًا أهمية الإعلام المطبوع كوسيلة لنشر أفكاره وتوثيق روايته للأحداث، فكانت المجلات والصحف جزءًا لا يتجزأ من ترسانته الإعلامية. وقد تميزت هذه الإصدارات بالمهنية في التصميم والمحتوى، مما ساهم في جذب القراء وتوصيل رسائل التنظيم بفعالية.

مجلة “دابق”

تُعد مجلة “دابق” (Dabiq) أول صحيفة رسمية للخلافة الإسلامية التي أعلن عنها التنظيم. صدرت هذه المجلة باللغتين العربية والإنجليزية، وكان هدفها الأساسي هو تبليغ رسالة الخلافة وتوزيعها مجانًا ضمن نطاق سيطرة التنظيم في كل من سوريا والعراق.

تميزت “دابق” بمهنية واضحة في تصميمها، مما جعلها جاذبة للمتلقي. وقد سعى القائمون عليها إلى التركيز على أهداف التنظيم والتعريف بها، والتمهيد لفكرة الخلافة، وتجميل صورتها. ومن اللافت للنظر أن المجلة كانت تتعمد إخفاء آثار الدمار الذي ألحقه التنظيم بمناطق سيطرته، وتحل محلها صورًا للمقاتلين تظهر شجاعتهم في مواجهة النيران، في محاولة لبناء صورة إيجابية عن التنظيم وعناصره.

صحيفة “النبأ”

بالإضافة إلى “دابق”، أصدر تنظيم داعش صحيفة “النبأ”، والتي كانت من أهم الأوعية المنتظمة في الصدور. وقد سعت هذه الصحيفة إلى تفكيك خطاب الكراهية الصادر عن التنظيم، وتقديم إطار واضح للاستراتيجيات التي شملها الخطاب الإعلامي لداعش. وقد أظهرت الدراسة أن الرسائل الإعلامية في “النبأ” كانت موجهة لجمهور داخلي وخارجي، مع تركيز أكبر على الجمهور المسلم القريب. كما كشفت عن أنماط مختلفة من الكراهية التي تبناها التنظيم، مثل إظهار التفوق، الازدراء، التحريض، وشيطنة الآخر.

3. وسائل الإعلام المرئية والمسموعة

لم يقتصر اهتمام تنظيم داعش بالإعلام المطبوع، بل أولى اهتمامًا كبيرًا للإعلام المرئي والمسموع، مستخدمًا إياه بفعالية لخدمة أهدافه الترويجية والتجنيدية. وقد أنشأ التنظيم أذرعًا إعلامية متخصصة في هذا المجال، تميزت بجودة إنتاجها واحترافيتها.

استوديو “أجناد”

يُعد استوديو “أجناد” أحد الأذرع الإعلامية المتخصصة في الإنتاج الصوتي التابعة لتنظيم داعش، وقد تأسس في يناير 2014. يتخصص الاستوديو في تسجيل الأناشيد الدينية والجهادية، بالإضافة إلى التلاوات القرآنية. وقد أنتج “أجناد” ما يزيد عن 150 نشيدًا باللغة العربية، بعضها بلهجات عربية، كما أصدر ختمة كاملة للقرآن الكريم. من أشهر إنتاجاته نشيد “صليل الصوارم”، الذي لاقى انتشارًا واسعًا. كما أطلق التنظيم تطبيقًا خاصًا بالاستوديو على نظام الأندرويد، مما يتيح للمستخدمين الاستماع إلى أناشيد “أجناد” على هواتفهم المحمولة.

قناة “الفرقان”

تُعتبر مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي أقدم وسيلة إعلامية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، حيث تأسست في نوفمبر 2006، عندما كان اسم التنظيم “دولة العراق الإسلامية”. تُصدر “الفرقان” المواد المرئية والمسموعة والمقروءة. ومنذ عام 2014، اقتصر دورها على إصدار البيانات الرسمية المرئية والصوتية والكتابية فقط، وذلك بعد ظهور مؤسسات إعلامية أخرى برزت كأذرع إعلامية للتنظيم. من أبرز إصداراتها سلسلة “صليل الصوارم”، التي تتكون من أربعة أجزاء، بالإضافة إلى الكلمات الصوتية لقادة التنظيم.

قناة “الاعتصام”

تأسست مؤسسة الاعتصام في عام 2013، وتخصصت في بث المعارك في سوريا والعراق من خلال عدد من المراسلين. أصدرت المؤسسة العديد من المواد المرئية، بما في ذلك سلاسل مرئية مثل “فشرد بهم من خلفهم” والإصدار المرئي “من داخل عين الإسلام (كوباني)”. وقد أنتجت هذه الإصدارات باللغتين العربية والإنجليزية ولغات أخرى، مما يدل على سعي التنظيم للوصول إلى جمهور عالمي.

قناة “الحياة”

يُعد مركز الحياة للإعلام مؤسسة إعلامية تابعة لداعش، تختص بالمواد الموجهة للعالم الغربي. أصدر المركز مواد مقروءة ومسموعة ومرئية، وكان من أبرز إصداراته المرئية سلسلة “لهيب الحرب” والإصدار المرئي “ولا تنظرون”. كما تصدر عن مركز الحياة للإعلام مجلة “رومية” .

إذاعة “البيان”

بالإضافة إلى القنوات المرئية، وظف التنظيم الإعلام المسموع من خلال إذاعة “البيان”. يتم بث هذه الإذاعة في الموصل والأنبار في العراق، والرقة في سوريا، وعلى شبكة الإنترنت. وقد ساهمت هذه الإذاعة في نشر رسائل التنظيم وأخباره إلى المناطق التي يسيطر عليها، وكذلك إلى الجمهور الأوسع عبر الإنترنت.

4. استغلال الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي

أدرك تنظيم داعش مبكرًا الأهمية الاستراتيجية للفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق أهدافه، فطور استراتيجية تسويق إلكتروني عالية التنسيق والتخطيط. وقد كان هذا التحول من تنظيم محلي إلى شبكة عالمية معقدة مدفوعًا بشكل كبير باستغلال التكنولوجيا الحديثة.

الاستراتيجية الرقمية

امتلك التنظيم فريق عمل إعلام اجتماعي متخصص، واستخدم عدة آليات لنشر رسائله عبر مواقع التواصل الاجتماعي:

• الحساب الرسمي للتنظيم: يُستخدم لبث التسجيلات الخاصة ببيانات التنظيم الرسمية].

• حسابات المناطق: تُستخدم لبث فيديوهات حية ومسجلة للتطورات على الأرض في المناطق التي يفرض التنظيم سيطرته عليها.

• حسابات المقاتلين الخاصة: تهدف إلى نشر التجارب الشخصية للمقاتلين في صفوف التنظيم، مما يضفي طابعًا شخصيًا على الدعاية ويجذب المتعاطفين.

تقنيات متقدمة

استغل داعش التطور التكنولوجي بشكل استثنائي لتعزيز أنشطته الإرهابية، معتمدًا على شبكة معقدة من الأدوات الرقمية:

• التشفير المتقدم والشبكة المظلمة: لجأ التنظيم إلى هذه التقنيات لإخفاء اتصالاته وتمويلاته، مما يوفر له بيئة آمنة للتواصل والتخطيط بعيدًا عن الرقابة.

• العملات المشفرة وتطبيقات المواعدة: استخدمها التنظيم لتسهيل تحويل الأموال والتواصل الآمن بين أتباعه، مما يدل على مرونته في التكيف مع التقنيات الحديثة.

• المنصات الإلكترونية الخاصة للتدريب: أنشأ داعش منصات إلكترونية خاصة به تعمل كمدارس افتراضية لتدريب الإرهابيين على تنفيذ عملياتهم، مما يظهر مدى استيعاب التنظيم للتكنولوجيا الحديثة وتوظيفها لخدمة أهدافه الإرهابية.

الذكاء الاصطناعي

يُعد استغلال الذكاء الاصطناعي من أبرز التطورات في استراتيجية داعش الإعلامية. فقد تمكن التنظيم من الاستفادة منه في عدة جوانب:

• توليد محتوى دعائي ضخم وخادع: استخدم الذكاء الاصطناعي لإنتاج كميات هائلة من المحتوى الدعائي الذي يصعب تمييزه عن المحتوى الحقيقي، مما يزيد من فعالية رسائله..

• تحليل البيانات لتحديد الأهداف وتجنيد الأفراد: ساعد الذكاء الاصطناعي التنظيم في تحليل كميات هائلة من البيانات لتحديد الأهداف المحتملة للتجنيد أو الهجمات، مما يزيد من كفاءة عملياته.

• تقنيات التزييف العميق: استخدم التنظيم هذه التقنية لتوليد مقاطع فيديو مزيفة تحاكي الواقع، مثل مقطع الفيديو الذي ظهر فيه مذيع أخبار مزيف مصنوع بالذكاء الاصطناعي. هذه التقنية تزيد من مصداقية الدعاية وتأثيرها.

• تحليل المعلومات المرئية لتخطيط الهجمات: استخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور ومقاطع الفيديو لتخطيط الهجمات بدقة أكبر، مما يعكس مستوى متقدمًا من التطور التكنولوجي في عمليات التنظيم.

أسباب النجاح

تمكن داعش من تحقيق تقدم ملحوظ في استراتيجيته الرقمية بفضل مجموعة من العوامل المتداخلة:

• سهولة الوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعي: وفرت هذه الشبكات منصة مثالية لنشر الدعاية وتجنيد الشباب، مما سمح للتنظيم بالوصول إلى جمهور واسع.

• توفير بيئة آمنة للتواصل والتخطيط: سمحت التقنيات المتقدمة التي استخدمها التنظيم بتوفير بيئة آمنة لأفراده للتواصل والتخطيط بعيدًا عن الرقابة.

• استغلال نقاط الضعف النفسية والاجتماعية لدى الشباب: وظف التنظيم قدرته على التأثير على العقول من خلال لغة دينية وعاطفية مشحونة، مستغلًا نقاط الضعف النفسية والاجتماعية لدى الشباب لجذبهم.

• جودة الإنتاج المرئي والمسموع والمقروء: ركز التنظيم على إخراج إنتاج إعلامي بجودة عالية تضاهي نظيرتها في وسائل الإعلام الكبرى، مما زاد من جاذبية محتواه.

• مفهوم “الخلافة الرقمية”: ساهم هذا المفهوم في بناء مجتمع افتراضي متماسك ومتطرف، حيث يرى التنظيم أن وجوده في الفضاء الإلكتروني يوازي امتداده المادي.

5. مفهوم الخلافة الرقمية وجنود الخلافة الرقمية 

شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية على الأرض، بعد أن فقد سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي في العراق وسوريا، وتكبد خسائر فادحة في صفوف مقاتليه وقياداته. هذه الهزائم العسكرية، بالإضافة إلى الجهود الدولية المكثفة لتجفيف منابع تمويله وتضييق الخناق على تحركاته، أجبرت التنظيم على إعادة تقييم استراتيجيته والبحث عن سبل جديدة للحفاظ على وجوده ونشر أيديولوجيته. في هذا السياق، برز مفهوم “الخلافة الرقمية” كاستراتيجية بديلة، حيث تحول التنظيم بشكل متزايد إلى الفضاء السيبراني كساحة رئيسية لأنشطته. لم يعد الهدف هو إقامة دولة على الأرض بالمعنى التقليدي، بل بناء “خلافة افتراضية” تمتد عبر الإنترنت، تستهدف العقول وتجند الأتباع من مختلف أنحاء العالم.

51 مفهوم الخلافة الرقمية: النشأة والتطور

أ تعريف الخلافة الرقمية

تُعرف “الخلافة الرقمية” بأنها استراتيجية تنظيمية وإعلامية تتبناها الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية، بهدف الحفاظ على وجودها ونشر أيديولوجيتها وتجنيد الأتباع في الفضاء السيبراني، وذلك كبديل أو مكمل للسيطرة المادية على الأراضي. هي بمثابة “دولة افتراضية” تُدار وتُروج عبر الإنترنت، مستفيدة من التقنيات الرقمية الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي لتجاوز الحدود الجغرافية والقيود الأمنية المفروضة على أنشطتها التقليدية. لا تعتمد هذه الخلافة على وجود جغرافي محدد، بل على شبكة واسعة من المؤيدين والناشطين الرقميين الذين يعملون على نشر المحتوى المتطرف، وتجنيد عناصر جديدة، وجمع التبرعات، وتنسيق العمليات، كل ذلك من خلال الفضاء الافتراضي. إنها تمثل تحولاً نوعياً في طبيعة التهديد الإرهابي، حيث يصبح الفضاء الرقمي ساحة رئيسية للصراع، ويتحول المقاتل التقليدي إلى “مجاهد محتوى رقمي” يمتلك أدوات التأثير والنشر.

ب. الأسباب الدافعة للتحول من الخلافة الميدانية إلى الرقمية

جاء التحول الجذري لتنظيم الدولة الإسلامية نحو مفهوم الخلافة الرقمية مدفوعاً بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت بشكل مباشر على قدرته على الاستمرار والعمل في الفضاء المادي. يمكن تلخيص هذه الأسباب في النقاط التالية:

الهزات العسكرية والمادية

تعرض تنظيم الدولة الإسلامية لسلسلة من الهزائم العسكرية المتتالية التي أدت إلى فقدانه السيطرة على معظم الأراضي التي كان يحتلها في العراق وسوريا. هذه الهزائم لم تقتصر على فقدان الأراضي فحسب، بل امتدت لتشمل خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وتدمير البنية التحتية التي كان يعتمد عليها التنظيم. بالإضافة إلى ذلك، تعرض التنظيم لضغوط مالية كبيرة نتيجة لتجفيف منابع تمويله، سواء من خلال استهداف آبار النفط التي كان يسيطر عليها، أو من خلال تتبع وتحجيم شبكات التمويل الدولية. هذه الضربات العسكرية والمادية أضعفت قدرة التنظيم على العمل بفعالية على الأرض، مما دفعه للبحث عن بدائل للحفاظ على قدرته على التأثير والانتشار.

تضييق الدول وتجفيف منابع التمويل

قامت العديد من الدول والتحالفات الدولية بتكثيف جهودها لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل أيضاً على الصعيد الأمني والاستخباراتي. تم تضييق الخناق على تحركات عناصر التنظيم، وتفكيك خلاياه النائمة، وتشديد الرقابة على الحدود. كما تم التركيز بشكل كبير على تجفيف منابع التمويل، من خلال تجميد الأصول، وملاحقة شبكات غسيل الأموال، وتشديد الرقابة على التحويلات المالية. هذه الإجراءات قللت بشكل كبير من قدرة التنظيم على الحصول على الموارد اللازمة لعملياته، مما زاد من اعتماده على الفضاء الرقمي لجمع التبرعات والتمويل.

الانشقاقات الداخلية ومقتل القيادات

عاني تنظيم الدولة الإسلامية من انشقاقات داخلية وصراعات على السلطة، خاصة بعد الهزائم المتتالية. هذه الانشقاقات أدت إلى إضعاف تماسك التنظيم وتأثيره. كما أن مقتل العديد من قيادات الصف الأول والثاني في التنظيم، نتيجة للعمليات العسكرية والاستخباراتية، أثر بشكل كبير على قدرته على التخطيط والتنفيذ. فقدان هذه القيادات أحدث فراغاً في الهيكل التنظيمي، مما دفع التنظيم للبحث عن طرق جديدة لإعادة بناء صفوفه والحفاظ على تواصله مع أتباعه، وكان الفضاء الرقمي هو الحل الأمثل لذلك.

.ج. مميزات الفضاء الرقمي للتنظيم (صعوبة المراقبة والتتبع، وسائل الحماية)

يوفر الفضاء الرقمي العديد من المميزات التي جعلته بيئة جاذبة لتنظيم الدولة الإسلامية، خاصة بعد تضييق الخناق عليه في الفضاء المادي. من أبرز هذه المميزات:

• صعوبة المراقبة والتتبع: يتميز الفضاء الرقمي بقدرته على توفير درجة عالية من إخفاء الهوية والقدرة على التخفي، خاصة مع استخدام التقنيات الحديثة مثل الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN)، والشبكات المظلمة (Dark Web)، والعملات المشفرة. هذه الأدوات تجعل من الصعب على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تتبع أنشطة عناصر التنظيم وتحديد هوياتهم ومواقعهم.

• سهولة الوصول والانتشار: يتيح الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي للتنظيم الوصول إلى جمهور واسع ومتنوع في جميع أنحاء العالم بتكلفة منخفضة جداً. يمكن للتنظيم نشر رسائله الدعائية، ومقاطع الفيديو، والمواد التحريضية بسرعة وكفاءة، والوصول إلى فئات مستهدفة لم يكن ليتمكن من الوصول إليها بالطرق التقليدية.

• المرونة والتكيف: يتميز الفضاء الرقمي بمرونته وقدرته على التكيف مع التغيرات. يمكن للتنظيم تغيير منصاته وأساليبه بسرعة عند اكتشافها أو حظرها، مما يجعل من الصعب على الجهات الأمنية مواكبة هذه التغيرات بشكل دائم.

• التجنيد عن بعد: يتيح الفضاء الرقمي للتنظيم تجنيد عناصر جديدة من مختلف أنحاء العالم دون الحاجة إلى التواصل المادي المباشر. يتم ذلك من خلال نشر المحتوى الجذاب، والتواصل مع الأفراد عبر الرسائل المشفرة، وتقديم الإغراءات المختلفة.

• التمويل اللامركزي: يمكن للتنظيم جمع التبرعات وتمويل عملياته من خلال العملات المشفرة والمنصات الرقمية، مما يجعل من الصعب تتبع مصادر التمويل وتحجيمها.

هذه المميزات مجتمعة جعلت من الفضاء الرقمي بيئة مثالية لتنظيم الدولة الإسلامية للحفاظ على وجوده، ونشر أيديولوجيته، وتجنيد الأتباع، وتنسيق العمليات، مما يؤكد على أهمية فهم هذه الظاهرة ومكافحتها بفعالية في العصر الرقمي.

د. جنود الخلافة الرقمية: المقاتل كمؤثر رقمي

تُعد ظاهرة تحول المقاتل التقليدي إلى “مؤثر رقمي” أو “مجاهد محتوى رقمي” من أبرز ملامح استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية في الفضاء السيبراني. لم يعد دور المقاتل مقتصراً على حمل السلاح أو تنفيذ العمليات القتالية في الميدان، بل تطور ليشمل مهام إعلامية ودعائية مكثفة، تهدف إلى استغلال الفضاء الرقمي لخدمة أهداف التنظيم التعبوية والتجنيدية.

5.2. تحول المقاتل التقليدي إلى فاعل إعلامي

أحدث تنظيم الدولة الإسلامية نقلة نوعية في العمل الإعلامي الجهادي من خلال دفع المقاتل التقليدي ليصبح “فاعلاً إعلامياً” متكاملاً، يجمع بين السلاح والكاميرا، وبين القتال والإنتاج الرقمي. لم يكن هذا التحول عفوياً أو ارتجالياً، بل جاء في إطار مشروع تعبوي متكامل رسمته الدوائر الإعلامية للتنظيم، وعلى رأسها “مؤسسة الفرقان” و”مؤسسة الحياة”، من أجل تعظيم الاستفادة من القدرات الفردية للمقاتلين في نشر رسالة التنظيم وتوسيع دائرة التأثير الدعائي.

لقد تحول المقاتل إلى ما يمكن وصفه بـ”جندي رقمي للخلافة”، يُطلب منه أن يُوثّق يومياته في ميادين القتال، وأن يكتب عن تجاربه بلغة دعوية تعبّر عن “الإيمان بالقضية”، ويُصوّر لحظات الاشتباك، ويُنتج مقاطع مصوّرة تتراوح بين التوجيه التعبوي والتوثيق الميداني، بل يُصبح مسؤولاً عن نشر هذا المحتوى على مختلف المنصات الرقمية، سواء من خلال المنتديات أو شبكات التواصل مثل تويتر وتلغرام.

وقد برز هذا النمط بوضوح في سلسلة “صليل الصوارم”، التي ظهر فيها المقاتلون في هيئة مقاتلين محترفين يستخدمون الأسلحة بيد، ويُخاطبون الكاميرا بلغة دعائية بيد أخرى. كما جسد هذا النموذج مقاتلون مثل “أبو محمد العدناني”، الذي كان قيادياً بارزاً وخطيباً ومُوجهاً إعلامياً، و”جون الجهادي” (Jihadi John) الذي استُخدم في مقاطع الذبح التي كانت موجّهة للغرب بلغة إنجليزية متقنة وبإخراج سينمائي مقصود لإثارة الرعب والبروباغندا.

ولعل أبرز مظاهر هذا التكامل بين العمل القتالي والإعلامي ما عُرف بـ”التغريد من أرض الخلافة”، حيث كان يُشجّع المقاتلون على إنشاء حسابات على تويتر بلغات مختلفة (العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الروسية…) لتقديم روايتهم الخاصة عن الأحداث، ونشر صور وفيديوهات من أرض المعارك، وترويج إنجازات التنظيم، بما في ذلك صور الغنائم، وموائد الإفطار الجماعي، وحتى مشاهد “الحياة اليومية” في ظل ما سموه بـ”الخلافة”.

هذا النموذج أدى إلى ما يمكن تسميته بـ”اللامركزية الإعلامية”، حيث لم تعد الدعاية الجهادية حكراً على المؤسسات الرسمية، بل أصبحت مسؤولية فردية لكل مقاتل، مما أعطى للتنظيم قدرة هائلة على إنتاج كمٍّ هائل من المحتوى بلغات متعددة ومن أماكن متفرقة، مع ضمان طابع شخصي وإنساني يُقنع المتابعين بصدق التجربة و”واقعية المشروع”.

بهذه الاستراتيجية، لم يعد المقاتل مجرد منفّذ ميداني، بل غدا عنصراً محورياً في المعركة الرمزية، وجزءاً من معركة “السرديات” العالمية، التي تهدف إلى كسب التعاطف، وتجنيد الأنصار، وتثبيت الصورة الدعائية للتنظيم كقوة مهيبة، حيوية، وشاملة.

5.3. الإعلام كساحة موازية للجهاد الميداني

لم يَعُد الإعلام في نظر تنظيم الدولة الإسلامية مجرّد أداة دعم دعائي أو وسيلة ترويجية لأنشطته العسكرية، بل تحول إلى ساحة مركزية وموازية لساحة الجهاد الميداني. بلغة التنظيم، لم يعد “الخطاب الإعلامي” تابعاً للعمل العسكري، بل أصبح جزءاً من صلب المعركة. وقد أكّدت أدبيات التنظيم، مثل مجلتي دابق (Dabiq) ورومية (Rumiyah)، أن “الكلمة قد تكون أمضى من السيف”، في تأكيد رمزي على أن التأثير الإعلامي قد يتجاوز، في نتائجه، الفعل القتالي المباشر.

هذا التصور رسّخ ضمنياً فكرة أن المجاهد الإعلامي ليس مجرد ناقل لصورة أو متحدث باسم التنظيم، بل هو عنصر تعبوي واستقطابي له تأثير استراتيجي يعادل بل يتجاوز أحياناً مقاتلي الصفوف الأمامية. ففي أحد أعداد مجلة رومية، ورد تصريح مفاده أن “رجلاً واحداً يحمل كاميرا يمكنه أن يُدخل آلاف الشباب إلى ساحة الجهاد”، وهو تعبير صارخ عن تقدير التنظيم لدور الصورة والصوت والسرد في تشكيل الهويات الجهادية.

لقد أدرك التنظيم مبكراً بخلاف العديد من التنظيمات التي سبقته أن الحرب المعاصرة لا تُخاض فقط بالسلاح، وإنما أيضاً بالرموز، والسرديات، وصناعة البطولات، والتأثير في الوجدان الجمعي للمتلقين، خاصة في البيئات الهشة نفسيًا أو المهمشة سياسيًا واجتماعيًا.

ولذلك حرص التنظيم على إنتاج محتوى مرئي عالي الجودة من خلال مؤسسات إعلامية متخصصة، مثل:

  • مؤسسة الفرقان (المؤسسة الأم، التي أنتجت بيانات البغدادي والفيديوهات العقائدية)،
  • مؤسسة الحياة (ركزت على المحتوى الغربي المترجم، خاصة لفئة المسلمين في أوروبا)،
  • مؤسسة أعماق (كوكالة أخبار رسمية تنقل “انتصارات” التنظيم بلغة شبه مهنية).

كتاب “كن أنت الإعلامي”: تكريس لقاعدة اللامركزية

في عام 2016، أصدر التنظيم كتيّباً إعلامياً بعنوان “كن أنت الإعلامي”، جاء في سياق متغيرات ميدانية صعبة، وتضييق عالمي على قنواته المركزية. كان الهدف من هذا الكتيّب نقل الرسالة التالية للأنصار: “لا تنتظر التوجيهات المركزية، بادر بنفسك”.

دعا هذا الدليل إلى تحويل كلّ مناصر إلى وحدة إعلامية متنقلة: يمتلك هاتفا ذكياً، يتقن المونتاج، يجيد اختيار الموسيقى والخطاب، ويعرف كيف يستخدم المنصات الاجتماعية (مثل تويتر وتلغرام وفيسبوك) لتضخيم رسالة التنظيم. ومن بين فصول الكتيّب:

  • “تصوير العملية: ما قبل التنفيذ وما بعدها”
  • “تحرير الفيديو وتأثير الخلفية الموسيقية”
  • “كيفية الإفلات من الرقابة الأمنية”
  • “الترويج الذاتي ونشر الوسائط بفعالية”

بهذا المعنى، لم يعد الإعلام وظيفة مركزية داخل التنظيم فقط، بل أصبح ممارسة اجتماعية يومية يمكن لأي فرد أن يساهم فيها، مما وسّع دائرة التأثير، وسهّل نشر الرسالة رغم القيود التكنولوجية المفروضة عليه بعد 2015.

أمثلة على فعالية الإعلام الجهادي الميدانية

  • فيديوهات الذبح مثل فيديو “رسالة موقعة بالدم إلى أمة الصليب” (ذبح الأقباط في ليبيا) لم تكن فقط مواد ترهيبية، بل أدوات تعبئة وتجريد الخصم من إنسانيته.
  • سلسلة “لهيب الحرب” التي جمعت بين المؤثرات السينمائية، والموسيقى الملحمية، والمونتاج السريع، لتصوير معارك التنظيم كأنها من أفلام هوليوود.
  • الحملة الإعلامية لمعارك الموصل والرقة، حيث نشر التنظيم مئات المقاطع يوميًا تظهر قصف التحالف على المدنيين، محاولًا كسب التعاطف، وفي ذات الوقت أظهر جنوده كمدافعين عن “أرض الخلافة”.

في بعض النصوص، وُصف الإعلاميون بأنهم “مجاهدون في سبيل الله بأقلامهم وعدساتهم”. وهذا ما يمكن وصفه بـ”فقه الإعلام القتالي”، حيث تتحول الصورة إلى رصاصة، والمقال إلى فتوى، والمقطع المصور إلى عملية تفجير رمزي.

هكذا، لم يكن الإعلام لدى “داعش” مجرد أداة، بل فضاء جهادي مستقل، له فرسانه وشهداؤه وأدبياته، ومعاركه وانتصاراته. وبهذه الاستراتيجية، استطاع التنظيم أن يخترق الفضاء العالمي، ويُجنّد آلاف العناصر، ويصنع هالة أيديولوجية تفوقت، في أحيان كثيرة، على قدراته الميدانية الفعلية.

5.4. “مجاهد المحتوى الرقمي”: الدور والمهام

نتيجة لهذا التحول، نشأ ما يمكن تسميته بـ”مجاهد المحتوى الرقمي”، وهو فرد يجمع بين الدور القتالي والدور الإعلامي. يتميز هذا المجاهد بقدرته على استخدام التقنيات الرقمية الحديثة لإنتاج ونشر المحتوى المتطرف. تتضمن أدواره ومهامه الرئيسية ما يلي:

أ. توثيق ونشر “يوميات الجهاد” و”الغنائم”

يُشجع “مجاهدو المحتوى الرقمي” على توثيق تفاصيل حياتهم اليومية في مناطق الصراع، ونشر “يوميات الجهاد” التي تصور حياتهم كـ”مقاتلين” بطريقة تجذب المتعاطفين. كما يقومون بتصوير “الغنائم” التي يحصلون عليها من المعارك، وعرضها كدليل على “انتصارات” التنظيم. يهدف هذا التوثيق إلى إضفاء طابع “البطولة” و”الجاذبية” على حياة المقاتل، وتشجيع الآخرين على الانضمام إلى صفوف التنظيم.

ب. إنتاج ومشاركة المحتوى على المنصات الرقمية (تويتر، فيسبوك، تلغرام، تيك توك، إنستغرام)

يُطلب من “مجاهدي المحتوى الرقمي” إنتاج مجموعة متنوعة من المحتوى، بما في ذلك الصور، ومقاطع الفيديو القصيرة، والمقالات، والتغريدات. يتم بعد ذلك مشاركة هذا المحتوى على نطاق واسع عبر مختلف المنصات الرقمية، مثل تويتر، وفيسبوك، وتلغرام، وتيك توك، وإنستغرام. يتم اختيار هذه المنصات بناءً على مدى انتشارها وقدرتها على الوصول إلى فئات جماهيرية مختلفة. يهدف هذا الانتشار إلى ضمان وصول رسالة التنظيم إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد، وتجاوز محاولات الحظر والإغلاق.

5.5. المقاتل كـ”نموذج قدوة” وعملية التجنيد الرقمي

من خلال توثيق حياتهم ونشر محتواهم، يصبح المقاتل بمثابة “نموذج قدوة” لمتابعيه، خاصة الشباب من مسلمي أوروبا وآسيا. يتم تقديم المقاتل كشخصية “ملهمة” و”بطولية”، قادرة على تحقيق “العدالة” و”النصر”. هذا التقديم يسهل عملية التجنيد الرقمي، حيث يتأثر الشباب بهذه الصور النمطية، ويشعرون بالرغبة في الانضمام إلى التنظيم. يتم التواصل مع هؤلاء الشباب عبر الإنترنت، وتقديم الدعم النفسي لهم، وتوجيههم نحو الانضمام إلى صفوف التنظيم، سواء بالانتقال إلى مناطق الصراع أو بتنفيذ عمليات فردية في بلدانهم. وهكذا، يصبح المقاتل الرقمي أداة فعالة في استقطاب وتجنيد عناصر جديدة للتنظيم.

6. استراتيجيات تنظيم الدولة الإسلامية في الفضاء الرقمي

يعتمد تنظيم الدولة الإسلامية على مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة في الفضاء الرقمي لتحقيق أهدافه، مستفيداً من طبيعة الإنترنت المفتوحة واللامركزية. هذه الاستراتيجيات لا تقتصر على جانب واحد، بل تشمل التجنيد، التمويل، والدعاية، وتستهدف فئات محددة لتعظيم التأثير.

6.1. التجنيد وكسب المؤيدين

يُعد التجنيد وكسب المؤيدين من أهم الأهداف الاستراتيجية لتنظيم الدولة الإسلامية في الفضاء الرقمي. يستخدم التنظيم أساليب متعددة لجذب الأفراد من مختلف أنحاء العالم، خاصة الشباب والمراهقين الذين يقضون وقتاً طويلاً على الإنترنت. تتضمن هذه الأساليب:

• نشر المحتوى الجذاب والمؤثر: يقوم التنظيم بإنتاج محتوى عالي الجودة من الناحية الفنية، يتضمن مقاطع فيديو دعائية، وأناشيد، وصوراً، ومقالات، تهدف إلى إثارة المشاعر الدينية، وتقديم صورة رومانسية عن “الجهاد” و”الخلافة”. يتم التركيز على قصص “البطولة” و”التضحية”، وتصوير التنظيم ككيان قوي ومنتصر.

• التواصل المباشر والشخصي: يعتمد التنظيم على التواصل المباشر مع الأفراد المستهدفين عبر منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة المشفرة. يتم بناء علاقات شخصية مع هؤلاء الأفراد، والاستماع إلى مشاكلهم، وتقديم الدعم النفسي، ثم توجيههم تدريجياً نحو الأيديولوجية المتطرفة. يتم استغلال نقاط الضعف النفسية والاجتماعية للأفراد، مثل الشعور بالغربة، أو الظلم، أو البحث عن هوية.

• استغلال الأحداث الجارية: يستغل التنظيم الأحداث السياسية والاجتماعية الجارية في العالم، خاصة تلك التي تتعلق بالمسلمين، لتقديم نفسه كمدافع عنهم وكحل لمشاكلهم. يتم تضخيم هذه الأحداث وتفسيرها بما يخدم أجندة التنظيم، وتحريض الأفراد على الانضمام إلى صفوفه.

• المنتديات والشبكات المغلقة: يستخدم التنظيم منتديات وشبكات مغلقة على الإنترنت، حيث يتم تبادل الأفكار المتطرفة، وتوفير الدعم اللوجستي، وتنسيق الأنشطة. هذه المنتديات توفر بيئة آمنة للأفراد للتعبير عن آرائهم المتطرفة دون خوف من المراقبة، وتساعد على بناء مجتمعات افتراضية للمؤيدين.

6.2. التمويل وإدامة العمليات

بالإضافة إلى التجنيد، يستخدم تنظيم الدولة الإسلامية الفضاء الرقمي لجمع التبرعات وتمويل عملياته. فبعد تضييق الخناق على مصادر التمويل التقليدية، أصبح الإنترنت وسيلة حيوية للحصول على الأموال. تتضمن استراتيجيات التمويل الرقمي ما يلي:

• العملات المشفرة: يعتمد التنظيم بشكل متزايد على العملات المشفرة، مثل البيتكوين، لجمع التبرعات. تتميز هذه العملات باللامركزية وصعوبة التتبع، مما يوفر للتنظيم وسيلة آمنة لنقل الأموال عبر الحدود دون الكشف عن هويته. يتم نشر عناوين المحافظ الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات المغلقة، وتشجيع المؤيدين على التبرع.

• منصات التمويل الجماعي: يستغل التنظيم بعض منصات التمويل الجماعي  لجمع الأموال تحت غطاء مشاريع خيرية أو إنسانية مزيفة. يتم إنشاء حملات تمويل وهمية، ويتم الترويج لها عبر الإنترنت لجذب التبرعات من المتعاطفين غير المدركين.

• التجارة الإلكترونية غير المشروعة: يُعتقد أن التنظيم يشارك في أنشطة تجارة إلكترونية غير مشروعة، مثل بيع الآثار المهربة، أو المخدرات، أو الأسلحة، عبر الشبكات المظلمة (Dark Web). يتم استخدام العملات المشفرة في هذه المعاملات لضمان السرية وإخفاء الهوية.

• الابتزاز الإلكتروني والاحتيال: قد يلجأ التنظيم إلى الابتزاز الإلكتروني والاحتيال لجمع الأموال، من خلال استهداف الأفراد والشركات عبر الإنترنت. يتم استخدام أساليب مثل التصيد الاحتيالي  وبرامج الفدية  للحصول على الأموال.

6.3. الدعاية والإعلام الرقمي

يُعد الإعلام الرقمي ركيزة أساسية في استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية، حيث يستخدمه لنشر أيديولوجيته، وتبرير أعماله، وتشويه صورة خصومه. يتميز الإعلام الرقمي للتنظيم بالاحترافية والتنوع، ويستهدف فئات جماهيرية مختلفة. تتضمن استراتيجيات الدعاية والإعلام الرقمي ما يلي:

• الإنتاج الإعلامي الاحترافي: يمتلك التنظيم فرقاً إعلامية متخصصة تنتج مواد إعلامية عالية الجودة، تتضمن مقاطع فيديو وثائقية، وأفلاماً قصيرة، ومجلات إلكترونية، ونشرات إخبارية. يتم استخدام تقنيات متقدمة في التصوير والمونتاج، مما يضفي على هذه المواد طابعاً احترافياً.

• الاستفادة من الترندات والهاشتاغات: يتابع التنظيم الترندات والهاشتاغات الرائجة على منصات التواصل الاجتماعي، ويقوم بإنتاج محتوى يتناسب معها، بهدف زيادة الانتشار والوصول إلى جمهور أوسع. يتم استخدام الهاشتاغات المتعلقة بالأحداث الجارية، أو القضايا الدينية، أو السياسية، لجذب الانتباه.

• الحرب النفسية: يستخدم التنظيم الإعلام الرقمي كأداة للحرب النفسية، من خلال نشر مقاطع فيديو لعمليات الإعدام، أو الهجمات الإرهابية، بهدف بث الرعب في قلوب الأعداء، وإظهار قوة التنظيم. كما يتم نشر رسائل تهديد ووعيد تستهدف الحكومات والأفراد.

• تعدد اللغات: يتم إنتاج المحتوى الإعلامي للتنظيم بلغات متعددة، بما في ذلك العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، وغيرها، بهدف الوصول إلى جمهور عالمي متنوع. يتم توظيف مترجمين ومتحدثين أصليين لضمان جودة المحتوى وتأثيره.

6.4. استهداف فئات محددة (الشباب، المراهقون)

يركز تنظيم الدولة الإسلامية في استراتيجيته الرقمية على استهداف فئات محددة، خاصة الشباب والمراهقين، وذلك لعدة أسباب:

• سهولة التأثر: يتميز الشباب والمراهقون بسهولة التأثر بالأفكار الجديدة، خاصة إذا كانت تقدم لهم حلولاً لمشاكلهم، أو تمنحهم شعوراً بالانتماء والقوة. يستغل التنظيم هذه النقطة لتقديم أيديولوجيته كبديل جذاب للحياة التقليدية.

• النشاط الرقمي: يقضي الشباب والمراهقون وقتاً طويلاً على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، مما يجعلهم جمهوراً سهلاً للوصول إليه من قبل التنظيم. يتم استخدام الألعاب الإلكترونية، والمنتديات، ومجموعات الدردشة، للتواصل مع هذه الفئة.

• المهارات الرقمية: يمتلك العديد من الشباب والمراهقين مهارات رقمية عالية، مما يجعلهم أهدافاً مثالية للتجنيد كـ”مجاهدي محتوى رقمي”. يمكن لهؤلاء الأفراد المساعدة في إنتاج ونشر المحتوى، وتجاوز القيود الأمنية.

• الافتقار إلى الخبرة: قد يفتقر الشباب والمراهقون إلى الخبرة الكافية لتمييز المحتوى المتطرف، مما يجعلهم أكثر عرضة للتأثر بالدعاية المضللة للتنظيم. يتم استغلال هذا الافتقار لتقديم معلومات مغلوطة وتشويه الحقائق.

باختصار، يعتمد تنظيم الدولة الإسلامية على استراتيجية رقمية شاملة ومتطورة، تستغل كافة إمكانيات الفضاء السيبراني لتحقيق أهدافه التجنيدية، والتمويلية، والدعائية. هذا يتطلب فهماً عميقاً لهذه الاستراتيجيات وتطوير آليات فعالة لمكافحتها.

7. التحديات والتهديدات الأمنية للخلافة الرقمية

تُشكل ظاهرة “الخلافة الرقمية” التي يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية تهديداً أمنياً معقداً ومتطوراً، يتجاوز الأطر التقليدية لمكافحة الإرهاب. فالفضاء الرقمي، بخصائصه الفريدة، يمنح التنظيم قدرات جديدة على الانتشار والتأثير، مما يفرض تحديات كبيرة على الدول والمجتمعات. يمكن تلخيص أبرز هذه التحديات والتهديدات الأمنية في النقاط التالية.

7.1. صعوبة المراقبة والتتبع

يُعد التحدي الأبرز في مكافحة الخلافة الرقمية هو صعوبة مراقبة وتتبع أنشطة التنظيم في الفضاء السيبراني. يعتمد التنظيم على تقنيات متقدمة لإخفاء هويته وتشفير اتصالاته، مما يجعل من الصعب على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية اختراق شبكاته وتحديد هويات عناصره. من أبرز العوامل التي تزيد من هذه الصعوبة:

• استخدام الشبكات المظلمة (Dark Web) والشبكات الافتراضية الخاصة (VPN): توفر هذه الأدوات طبقة إضافية من إخفاء الهوية، مما يجعل تتبع الأنشطة الرقمية للتنظيم أمراً بالغ الصعوبة.

• التشفير القوي: يستخدم التنظيم تطبيقات المراسلة التي توفر تشفيراً قوياً من طرف إلى طرف، مما يمنع الجهات الأمنية من اعتراض وفك تشفير الرسائل.

• اللامركزية والتشتت: لا يعتمد التنظيم على بنية مركزية في الفضاء الرقمي، بل يتكون من شبكة واسعة من الخلايا والأفراد المتفرقين، مما يجعل من الصعب استهدافهم بشكل فعال.

• التكيف السريع: يتميز التنظيم بقدرته على التكيف السريع مع التغيرات في البيئة الرقمية، وتغيير منصاته وأساليبه عند اكتشافها أو حظرها، مما يتطلب جهوداً مستمرة من قبل الجهات الأمنية لمواكبة هذه التغيرات.

7.2. التهديد على البيانات السرية للدول

لا يقتصر تهديد الخلافة الرقمية على نشر الأيديولوجية والتجنيد، بل يمتد ليشمل تهديداً مباشراً على الأمن السيبراني للدول. يسعى التنظيم إلى اختراق الأنظمة الحكومية والبنى التحتية الحيوية للحصول على معلومات سرية، أو تعطيل الخدمات، أو شن هجمات إلكترونية. يمكن أن يشمل هذا التهديد:

• التجسس السيبراني: محاولة الحصول على معلومات استخباراتية أو عسكرية حساسة من خلال اختراق شبكات الحكومات والمؤسسات الأمنية.

• تخريب البنى التحتية الحيوية: استهداف أنظمة الطاقة، والمياه، والنقل، والاتصالات، بهدف إحداث فوضى وشلل في الدول المستهدفة.

• الحرب النفسية السيبرانية: نشر معلومات مضللة، أو اختراق حسابات شخصيات عامة، أو شن حملات تشويه سمعة، بهدف زعزعة الاستقرار وبث الفتنة.

• التهديد على البيانات الشخصية: سرقة البيانات الشخصية للمواطنين، واستخدامها في عمليات الابتزاز، أو الاحتيال، أو التجنيد.

7.3. سبل مكافحة الخلافة الرقمية

تتطلب مكافحة ظاهرة الخلافة الرقمية استراتيجية شاملة ومتعددة الأوجه، تتجاوز مجرد الإجراءات الأمنية التقليدية. يجب أن تركز هذه الاستراتيجية على الجوانب التقنية، والقانونية، والاجتماعية، والتعليمية. من أبرز سبل المكافحة المقترحة:

• تعزيز القدرات السيبرانية: يجب على الدول الاستثمار في تطوير قدراتها السيبرانية، بما في ذلك بناء فرق متخصصة في الأمن السيبراني، وتطوير أدوات وتقنيات للكشف عن الأنشطة الإرهابية في الفضاء الرقمي وتتبعها.

• التعاون الدولي: تتطلب مكافحة الخلافة الرقمية تعاوناً دولياً وثيقاً بين الدول، وتبادل المعلومات والخبرات، وتنسيق الجهود لمواجهة هذا التهديد العابر للحدود.

• التشريعات والقوانين: يجب تحديث التشريعات والقوانين لمواكبة التطورات في الفضاء الرقمي، وتجريم الأنشطة الإرهابية عبر الإنترنت، وتوفير الإطار القانوني اللازم لملاحقة المتورطين.

• مكافحة المحتوى المتطرف: يجب على شركات التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي تحمل مسؤوليتها في مكافحة المحتوى المتطرف، من خلال تطوير آليات للكشف عن هذا المحتوى وإزالته بسرعة وفعالية.

• التوعية والتثقيف: يجب زيادة الوعي العام بمخاطر الخلافة الرقمية، وتثقيف الشباب والمراهقين حول كيفية التعرف على المحتوى المتطرف وتجنبه، وتعزيز مهارات التفكير النقدي لديهم.

• توفير البدائل الإيجابية: يجب توفير بدائل إيجابية للشباب والمراهقين، من خلال تعزيز قيم التسامح والاعتدال، وتوفير فرص التعليم والعمل، وإشراكهم في الأنشطة المجتمعية، لتقليل قابليتهم للتأثر بالأفكار المتطرفة.

• التعاون مع القطاع الخاص: يجب تعزيز التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص، خاصة شركات التكنولوجيا، لتطوير حلول مبتكرة لمكافحة الخلافة الرقمية، وتبادل الخبرات والمعلومات.

الخاتمة

لقد أثبتت دراسة استراتيجية داعش الإعلامية أنها ظاهرة معقدة ومتطورة، تجاوزت الأساليب التقليدية للدعاية الإرهابية لتتبنى أحدث التقنيات والمنصات الرقمية. فمن خلال توظيف احترافي لوسائل الإعلام المطبوعة والمرئية والمسموعة، واستغلال مكثف للفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة، تمكن التنظيم من تحقيق أهدافه في التجنيد، وبث الرعب، وحشد التأييد. لقد أظهر داعش قدرة فائقة على التكيف والابتكار في مجال الإعلام، مما جعله خصمًا إعلاميًا قويًا يتطلب استراتيجيات مواجهة مبتكرة ومستمرة.

إن فهم عمق وتطور هذه الاستراتيجية الإعلامية أمر بالغ الأهمية لمواجهة التحديات الذي يمثله الإعلام الجهادي. فالمعركة ضد داعش لم تعد تقتصر على الجانب العسكري والأمني فحسب، بل امتدت لتشمل الجانب الفكري والإعلامي.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.