العَودة «الطوعية».. كذبة بحجم مأساة!
حسن عبد الرضي الشيخ
في بلادٍ تُساق فيها الشعوب كالقطعان، لا عجب أن تتحوّل “العودة الطوعية” إلى مشروعٍ قسريٍّ تُساق له الجماهير باسم التنمية، وتُخدع فيه العقول بالبروباغندا الرخيصة، وتُستدرَج الأرواح البسيطة بأوهام الأمن والخدمات، بينما الحقيقة أكثر فجاجةً وسوادًا مما يتصوره العقل.
إنّ ما يُسمى بـ”العودة الطوعية” إلى ولاية الخرطوم ليس إلا فخًا منصوبًا بعناية، تُديره عقولٌ اعتادت الكذب والخداع على مدار ٣٥ عامًا من حكم التمكين والاستهبال المؤسسي. مأساةٌ حقيقية أن يظل البسطاء يصدّقون هؤلاء الكذّابين الذين لا يخجلون من استغلال معاناة الناس لتمرير أجنداتهم ومصالحهم.
بل الكارثة أن الوالي العجيب ــ صراحةً لا تلميحًا على شاشة تلفزيون بورتوكيزان الصدئة ــ يربط الخدمات بعودة المواطنين! أي غلظة هذه؟! أيُّ منطقٍ أن يُطلب من الضحية أن يعود ليكون درعًا بشريًا، ليحتمي خلفه من ينهب الأرض ويحتل البيوت؟! إنها عودةٌ لأجل العوائد!
محصّلو الضرائب والعوائد ـ أول الكائنات التي “عادت” إلى الخرطوم ـ يطوفون الأسواق: العربي، الأفرنجي، بحري، أم درمان، يطلبون من التجّار العودة! لماذا؟ لأجل تحصيل العوائد، لا لأجل “عودة الحياة”! يريدون من التاجر أن يعود ليُعصر ماليًا مرةً أخرى، وهو الذي فقد رأس ماله، ودُمر دكانه، ونهبت بضاعته، وشُرّد أهله.
فأي وقاحةٍ أن تطلبوا من هؤلاء أن يُرمّموا محلاتهم من جيوبهم؟! من أين؟! من أين لرجلٍ فقد كل شيء أن يبدأ من جديد؟! من أين لبائعة الشاي، أو تاجر الخردوات، أو بائع الذهب أن يجلب بضاعةً جديدة، في ظل انهيار المنظومة المصرفية، وانعدام الأمن، وانفلات الأسواق؟! ومن يحمي المواطن؟!
دعونا نكون واضحين: لا توجد شرطة. لا يوجد أمن. لا جيش. المواطن يتعرّض يوميًا للنهب، والشفشفة، والاغتصاب. لا حماية ولا قانون. من يملكون السلاح هم من يحتلون البيوت، ويسرقون الهواتف، ويُذلون الناس في طوابير البؤس واليأس. فهل نُعيد المواطن إلى قلب الجحيم ليُسلَب مرتين: مرةً باسم الحرب، ومرةً باسم التنمية؟!
يا بلابسة السلطة ومهزلة “الحلم”! أيها المنتفعون، البلابسة، دعاة “إعادة الإعمار”، أنتم تحلمون بأن يعود المواطن ليدفع من جيبه، ليُعمِّر، ليُرمِّم، ليبني على أنقاض الخراب دولةً لا وجود لها! هؤلاء العجائز الذين فقدوا البوصلة لا يملكون ذرةً من منطق. يحسبون أن اللسان المعسول يمكن أن يُعيد الخرطوم إلى ما كانت عليه، دون أن يُحاسب القتلة والناهبون، ودون أن تُسترد الحقوق، ودون أن تتوفر منظومة أمنية حقيقية تحمي الإنسان لا تبتزّه.
رسالتي إلى البسطاء: أقولها بكل صراحة: لا تعودوا. سوف تظلون رهائن في أيدي الكذبة. إن عدتم الآن، فلن تخرجوا. قد تمنعكم سلطات الولاية لاحقًا من المغادرة بحجة أن التنمية لا تكتمل إلا بوجودكم، أن الأسواق لا تنهض إلا بجيوبكم، أن الطرق لا تُعبَّد إلا بأكتافكم. لن تكونوا سوى دروعٍ بشرية في مسرحيةٍ قذرة، أبطالها حفنة من الكذّابين والمهرّجين السياسيين.
ختامًا: أين الكهرباء؟ أين الماء؟ أين الأمن؟ أين النقود وأين رُخص الأسعار والسلع نفسها؟! أوقفوا هذه المهزلة. عودتكم اليوم، بلا ضمانات أمن، ولا تعويضات، ولا وجود حقيقي للدولة، هي انتحار جماعي. افضحوا الكذبة، واحذروا الدعاية، فالوطن لا يُبنى بالخداع، والمواطن لا يُعاد بالإكراه. ولعنة الله على الكاذبين.
المصدر: صحيفة التغيير