شهدت مجالس العزاء في الدولة، أخيراً، انتشاراً متزايداً لبعض الممارسات المخالفة للعادات والتقاليد الأصيلة التي اعتاد عليها المجتمع الإماراتي، تتمثّل في الاستعانة بشركات ضيافة متخصصة، لتنظيم استقبال المُعزين، مع تقديم خدمات تشمل باقات متنوعة من الأطعمة والمشروبات، تتجاوز في كثير من الأحيان حدود البساطة التي كانت تميّز مجالس العزاء سابقاً، ما يؤدي إلى زيادة الأعباء النفسية والمادية على أسرة المتوفى.
ويرى مواطنون أن هذه الممارسات تبتعد عن الجوهر الحقيقي للعزاء، الذي يقوم على التآزر والتراحم، خصوصاً أن الخدمات المقدمة من خلالها تراوح بين 2200 و7000 درهم، وفقاً لعدد الأشخاص الذين يقدمون الضيافة، ونوعية الضيافة، والمشروبات، والأطعمة المقدمة، خصوصاً (الساقو)، حيث تقدر بعض الشركات السعر بناء على باقات تشمل تجهيز الخيم، والقهوة العربية، والتمور، والعصائر، والوجبات اليومية، ما يحول العزاء إلى عبء مالي يفوق قدرات بعض الأسر.
وفي المقابل، أيد آخرون الفكرة معتبرين أنها تسهم في تخفيف الضغط عن الأسر، وتتيح لهم استقبال المُعزين وتلقي واجب العزاء، بعيداً عن الانشغال بالترتيبات والخدمات، خصوصاً أن هذه الشركات توفر فِرقاً مؤهلة تعمل على مدى أيام العزاء الثلاثة.
فيما قدّم محامٍ مقترحاً متكاملاً بعنوان «بروتوكول العزاء»، يهدف إلى تعزيز احترام العادات الإماراتية في هذه المناسبة، وتنظيم حضور المُعزين بطريقة تحافظ على السكينة، وتمنع أي مظاهر خارجة عن السياق الاجتماعي والديني للعزاء، بعدما رصد انتشار سلوكيات دخيلة على مجالس العزاء في الدولة.
وتفصيلاً، أبدى المواطن راشد سعيد الكعبي تحفظه على ما وصفه بـ«التغيّـر المبالغ فيه» في مجالس العزاء، قائلاً: «الاستعانة بشركات ضيافة وتحويل المناسبة إلى مشهد تنظيمي متكامل، يُفقد العزاء طابعه الإنساني، ويثقل كاهل أهل الفقيد من حيث الكُلفة والالتزامات»، داعياً إلى العودة للبساطة والسكينة التي كانت تميّز هذه المجالس.
وفي المقابل، رأت المواطنة شيخة حسن المنصوري أن الاستعانة بخدمات الضيافة ليست بالضرورة خروجاً عن التقاليد، بل وسيلة عملية تساعد أسرة المتوفى على التركيز في استقبال المُعزين من دون الانشغال بترتيبات الخدمة والضيافة، لافتة إلى أن بعض الأسر لا تملك القدرة على تنظيم مجلس عزاء بمفردها.
وشاطرها الرأي المواطن سالم محمد الظنحاني الذي اعتبر أن «الزمن تغيّر، ولا يمكن حصر العزاء في النمط التقليدي وحده»، مشيراً إلى أن وجود شركات متخصصة يساعد في تقديم الضيافة بشكل لائق ومحترم من دون تجاوزات، خصوصاً في ظل انشغال الكثير من الأسر بصعوبات التنظيم أثناء فترة الحزن، وعدم قدرتها على تلبية متطلبات المجالس الكبيرة، من حيث الاستقبال والخدمة، لافتاً إلى أن هذه الشركات تسهم في الحفاظ على النظام، وتخفيف الضغط عن أهل الفقيد، ما يُمكنهم من التفرغ لتلقي العزاء ومشاركة الحضور في جو من الهدوء والترتيب.
من جانبها، عبّرت المواطنة فاطمة النقبي عن انزعاجها من المظاهر التي وصفتها بـ«الاستعراضية» في بعض مجالس العزاء، معتبرة أن «تقديم وجبات مختلفة ووجود شركات لضيافة المُعزين من الأمور التي لم تكن مألوفة في مجتمعنا»، مطالبة بالتركيز على جوهر العزاء ومشاعر المواساة، بدلاً من المبالغة في الشكل والتنظيم.
ومن كبار المواطنين، رأت الوالدة مريم سعيد النقبي «أن العزاء في السابق كان يعتمد بشكل كامل على تعاون الجيران والأقارب، حيث يتفرغ ذوو المتوفى لتلقي التعازي فقط، بينما يتكفل المحيطون بهم بإعداد وجبات الغداء والعشاء، وتوفير مستلزمات الضيافة على مدار الأيام الثلاثة».
وأشارت إلى أنها تؤيد وجود من يساعد ذوي المتوفى في تحمل أعباء الضيافة نظراً إلى تراجع مظاهر التعاون المجتمعي التي كانت أكثر حضوراً في الماضي، وذلك عبر الاستعانة بخدمات ضيافة جاهزة ومتخصصة، مؤكدة أن الهدف هو تخفيف العبء عن أهل الفقيد، وتمكينهم من التفرغ لتلقي العزاء، لافتة إلى أن الأمر لم يعد كسابق عهده من تسابق الجيران لتقديم واجبهم في تحضير كميات كافية من الطعام والفواكه والمشروبات، بما كان يعكس روح التكاتف والتآزر الاجتماعي، مشيرة إلى أنه على الرغم من ذلك فإن هذه العادة لاتزال قائمة في بعض العائلات المتمسكة بتقاليدها.
وبيّنت الوالدة جميلة آل علي، أن مجالس العزاء في الماضي كانت تتميّز بروح التعاون والتكافل، إذ كانت النساء من أهل الفريج (الحي) يجتمعن منذ الصباح لتجهيز المكان وفرش السجاد وتنظيم المقاعد، فيما يتولى الرجال استقبال المُعزين وتقديم واجب الضيافة.
وذكرت أن الأسر كانت تعتمد على ما يتوافر في البيوت من طعام، وتتضمن الضيافة، القهوة والتمر والماء، وأن الأجواء كانت تتسم بالتراحم والتماسك، بعيداً عن أي مظاهر رسمية.
وأكّدت أنها لا تؤيد الاعتماد على الضيافة عبر شركات متخصصة، وترى أنه على المجتمع أن يعود إلى صور التكاتف التي كانت سائدة في السابق، حتى يبقى العزاء مناسبة للتراحم لا للتفاخر بالمظاهر أو الإنفاق المبالغ فيه، خصوصاً أن الأسر في هذا الظرف تكون في أمسّ الحاجة إلى من يخفف عنها لا من يثقل كاهلها بالكُلفة.
وتواصلت «الإمارات اليوم» مع موظف في شركة خاصة تعمل في مجال تأجير الخيام وتقديم خدمات الأفراح والعزاء، والذي أكّد أن الطلب على خدمة الضيافة في مجالس العزاء، خصوصاً مجالس الرجال، شهد زيادة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، لافتاً إلى أن العديد من الأسر باتت تفضل هذا الخيار، لما يوفره من تنظيم وجهد، خصوصاً في استقبال المُعزين وتقديم واجب الضيافة من دون الانشغال بالتفاصيل.
وأوضح أن كُلفة الخدمة تراوح بين 2200 و7000 درهم لمدة ثلاثة أيام، ويُحدد السعر وفقاً لعدد الأشخاص الذين يقدمون الضيافة، ونوعية الضيافة، والمشروبات، والأطعمة المقدمة، حيث يتم تقدير السعر بناءً على باقات تشمل تجهيز الخيم، والقهوة العربية، والتمور، والعصائر، والوجبات المتنوعة.
وأضاف أن نظام الضيافة يختلف من إمارة إلى أخرى، إذ تحدد بعض الإمارات أوقاتاً معينة لتلقي العزاء، بينما تُقام المجالس في إمارات أخرى على مدار اليوم، ما يؤثر في آلية التسعير وجدولة مهام فرق العمل.
من جهة أخرى، ذكرت مسؤولة مشروع متخصص في خدمات الضيافة للمناسبات، روان الزعابي، أنها تلقت طلبات عدة لتقديم خدمة الضيافة في مجالس العزاء، إلا أنها كانت تعتذر عنها كل مرة، بسبب ارتباطات مسبقة بمناسبات أخرى، مثل الأعراس وحفلات التخرج واستقبال المواليد.
وأوضحت أن نظام العمل لديها قائم على الحجز بالساعة، وليس بنظام الأيام المتبع في معظم مجالس العزاء، مشيرة إلى أن متطلبات الضيافة في مثل هذه المناسبات تختلف، إذ تقتصر في معظمها على المشروبات الساخنة وبعض الأكلات الشعبية المرتبطة بالمجالس، مثل اللقيمات والهريس و(الساقو) وغيرها.
مقترح «بروتوكول العزاء»
فيما قدّم المحامي والمستشار القانوني، الدكتور عبدالله يوسف آل ناصر، مقترحاً متكاملاً بعنوان «بروتوكول العزاء»، الذي يهدف إلى تعزيز احترام العادات الإماراتية في هذه المناسبة، وتنظيم حضور المُعزين بطريقة تحافظ على السكينة، وتحدّ من المظاهر الخارجة عن السياق الاجتماعي والديني للعزاء، مشيراً إلى عزمه تقديم المقترح إلى الجهات والمؤسسات المعنية في الدولة، لدراسته واعتماده كمرجع تنظيمي يواكب قيم المجتمع.
وأوضح أن المقترح يتضمن مجموعة من الإرشادات التي تبدأ بتأكيد احترام التقاليد، من خلال الالتزام بالزي الوطني، وتجنب استخدام العطور القوية، والدخول إلى مجلس العزاء بهدوء من دون إحداث ضوضاء أو تشتيت للحضور، كما يدعو إلى استخدام عبارات التعزية التقليدية، مع إمكانية تعميم بعض العبارات الموحدة عند مدخل المجلس، وتجنب الدخول في أحاديث مطولة أو طرح أسئلة تتعلق بوفاة الفقيد، حفاظاً على مشاعر ذويه.
وشدد آل ناصر على أهمية عدم الإطالة في الجلوس داخل مجلس العزاء، إلا في حال وجود حاجة خاصة، بحيث يقدم واجب العزاء ثم يتيح الفرصة لغيره من المُعزين، ما يخفف الضغط النفسي والبدني عن أهل الفقيد.
وأشار إلى أن بعض الممارسات الحديثة، مثل تحويل مجلس العزاء إلى ما يشبه الاستقبال الرسمي من خلال فرق تنظيم وتقديم أصناف متعددة من الأطعمة، يُفقد المناسبة هيبتها، ويثقل كاهل أهل الفقيد مادياً ومعنوياً، داعياً إلى العودة لبساطة المجالس الإماراتية التي كانت تتسم بالوقار، وفي هذا الإطار أوصى بأن تقتصر الضيافة على القهوة والتمر والماء، من دون مبالغة أو زيادة في الكُلفة، مع رفض فكرة «تسليع» المناسبة وتحويلها إلى مشهد استعراضي.
كما دعا إلى تحديد أوقات واضحة للعزاء، موزعة على ثلاث فترات يومية (صباحية، ومسائية، وليلية)، بما يضمن راحة أهل الفقيد، ويُنظّم حضور الزوّار، مع مراعاة توفير أماكن جلوس منظمة، تُسهّل حركة الدخول والخروج وتقلل من الازدحام.
وتضمن المقترح كذلك، ابتكار شارة تعريفية خاصة بذوي الفقيد تُثبت على الملابس بألوان محايدة، وتحمل وصفاً مختصراً، مثل (أب) أو (ابن) أو (أخ)، لتُسهل على المُعزين التعرّف إلى أهل الفقيد وتقديم واجب العزاء لهم مباشرة، من دون ارتباك أو حرج.
وذكر آل ناصر أن مقترحه يهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على هيبة مجالس العزاء وتعزيز تنظيمها بما يتماشى مع التراث الإماراتي الأصيل، داعياً إلى أن تتم دراسة المبادرة من قبل المتخصصين في مجال الثقافة والموروث الشعبي، لضمان توافقها مع قيم المجتمع الإماراتي، وتبنيها كمرجع إرشادي يضمن الاحترام المتبادل، ويوفر الراحة النفسية لجميع الحاضرين.
موظف بشركة ضيافة:
. كُلفة الخدمة تراوح بين 2200 و7000 درهم لـ 3 أيام، والسعر وفقاً لعدد مقدمي الضيافة، ونوعيتها، والمشروبات، والأطعمة المُقدمة.
المصدر: الإمارات اليوم