2 يوليو 2025Last Update :

مرحلة “فن الممكن” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

– الكاتب: باسم برهوم – من يقرأ تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية يلاحظ انها كانت في اغلب مراحلها منقسمة على نفسها ومرتبكة، هذا الواقع منعها من استخدام المبدأ الاهم في السياسة وهو “فن الممكن”، ولأنها غالبا ما تعاني من الانقسام، كانت تمتنع حتى عن التعامل مع شعار آخر بالسياسة، ألا وهو “خذ ومن ثم طالب”، ونتيجة لما كان داخل الحركة الوطنية من انقسامات وتنافس غير مبرر، كانت قياداتها تهرب من العمل السياسي الصعب والجاد إلى سياسة الرفض، واللجوء إلى الحد الاقصى من المطالب. هذه الظاهرة تحولت إلى مشكلة كبيرة في التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، فقد اعتاد الشعب على منطق الرفض، لا منطق السياسة العملية، مع التمسك بالحقوق والاهداف، لأن الرفض بحد ذاته سياسة، لكنها ليست سياسة منتجة، انما هي هروب من المواجهة السياسية الصعبة، فقد جرت العادة منذ ما قبل نكبة العام 1948 ان يرحل كل جيل المشكلة للجيل الذي يليه، وفي كل مرة كان الواقع يزداد صعوبة وتعقيدا، والأرض، التي يدور حولها الصراع، تتآكل وتتقلص مساحتها، كما ان تحقيق الاهداف يصبح بعيد المنال اكثر.

ثقافة الرفض اصبحت ثقافة متجذرة في وعي المجتمع الفلسطيني، والمجتمعات العربية عموما، وبالتالي أصبح من السهل اخذ الرأي العام نحو العدمية، وسياسة الشعارات والمزايدات، ومع كل خضة سياسية او عسكرية كبيرة تهيج العواطف ويعلو سقف التوقعات والمطالب، بيئة الهيجان التي تتشكل في كل مرة تمنع اي دخول للسياسة من بابها الصحيح. الباب الصعب لكنه الذي يقود إلى فن الممكن، او سياسة خذ ومن ثم طالب.

هذه المقدمة تقودنا للحديث عن الوضع الراهن، والذي فيه تمر القضية الفلسطينية في أصعب واعقد مراحلها، لقد قامت إسرائيل خلال 21 شهرا بتغيير واقع الشرق الأوسط بشكل لافت حتى الان، ان كنا نريد ان نكون اكثر دبلوماسية، هناك هيمنة عسكرية شبه تامة، خصوصا في مجال سيطرتها على سماء المنطقة، او في ميدان التفوق التكنولوجي، وفي القدرات التجسسية والذكاء الاصطناعي. بالمقابل الوضع الفلسطيني بعد 21 شهرا من حرب إبادة في قطاع غزة، وحرب استنزاف كبيرة في الضفة، وحصار مالي مشدد على السلطة الوطنية، فإن الواقع الفلسطيني مستنزف، منهك على كافة الاصعدة، 100 الف شهيد في قطاع غزة وما يقارب 200 الف جريح ودمار شامل، وحركة وطنية لا تزال منقسمة على حالها، وضعها هش، وبالتالي فإن معظم السناريوهات السوداء ممكنة.

والآن يأتي سؤال “فن الممكن”، فبعد كل ما جرى ويجري ليس من المقبول الاستمرار في سياسة الرفض العدمية، التي تبقى بعض الفصائل تتغنى بها. فلم يعد هناك من هامش واسع في الواقع على الارض ما يسمح بالهروب مرة أخرى، لأن الهروب هذه المرة يعني تصفية القضية الفلسطينية نهائيا.


اقرأ|ي أيضاً| كيف يرى الذكاء الاصطناعي شكل الشرق الأوسط؟


ونحن نفكر بفن الممكن، علينا ان نلاحظ الأوراق المهمة التي هي بين ايدينا، اولى هذه الأوراق، ان إسرائيل لا تستطيع هزيمتنا بالمنطق الاستراتيجي للكلمة، هي تستطيع أن تحقق انتصارات سريعة على كل مساحة الشرق الأوسط، لكنها تعود لتكتشف ان مشكلتها تبقى مع الشعب الفلسطيني وان هذه المشكلة بحاجة إلى حل يقود إلى الاستقرار، استقرارها هي قبل غيرها، الورقة الثانية، تتمثل بهذا الدعم الواسع اليوم للقضية الفلسطينية، ولمبدأ حل الدولتين، واليوم هناك دول لم تكن تفكر بالسابق الاعتراف بالدولة الفلسطينية، هي اليوم تقول انها ستعترف او على وشك الاعتراف. اما الورقة الاهم، هي ان الشعب الفلسطيني موجود، صامد على ارضه ومن الصعب انتزاعه منها، والورقة الاخيرة ان إسرائيل نفسها مقبلة على تغير، فهي لن تبقى بعد الحرب مع التركيبة السياسية المسؤولة عن جرائم الحرب، والمسؤولة عن حرب إبادة وحشية في قطاع غزة، فإسرائيل تعاني في بعدها الأخلاقي على الساحة الدولية بشكل عميق، وانها لن تستطيع الاستمرار مع نفس تركيبتها السياسية الحالية.

ما نحتاج ان نحققه بالسياسة، هو ان نحافظ على وجودنا على أرضنا، ان نمنع التهجير، وان نحافظ على وحدة اقليم الدولة الفلسطينية، ونتمسك بأن يكون لنا كيان سياسي يمثلنا وينطق باسمنا بشكل موحد وفي هذه الحالة وضمن الواقع الموجود منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية المعترف بها دوليا. مجموعة الاهداف هذه تمثل الأساس لسياسة فن الممكن، وهو أساس يمكن البناء عليه لاحقا. ولكن ومن اجل ان يكون المبدأ صحيحا، نحتاج إلى إعادة بناء، ليس فقط ما دمرته إسرائيل في قطاع غزة ولكن إعادة بناء الإنسان الفلسطيني، وقبل ذلك بناء النظام السياسي الفلسطيني، ليكون نظام المؤسسات والقانون، نظاما اكثر ديموقراطية، يؤسس لدولة فلسطينية حديثة.

في السياسة حتى الدول القوية، الدول العظمى لا تحقق اهدافها دفعة واحدة، بل تحققها على مراحل، ولكن الفرق هو ان هذه الدول تمتلك الخطط والادوات وتعرف بالضبط ما تريد، من هنا فإن فن الممكن ليس شعارا عابرا بل هو سياسة متكاملة صلبة.

شاركها.