أكد أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بفاس سابقا وخبير بالمحاكم الجنائية الدولية، محمد عياط، أن منطق العدالة ومنطق القوة هما منطلقان يتقاطعان ويتصادمان في الواقع الدولي، وأن هذا التفاعل بين المنطقين شكّل خلفية نشوء القانون الجنائي الدولي وتطور المحاكم الجنائية ذات البعد الدولي.
وأوضح عياط في محاضرة ختامية ألقاها بكلية الحقوق أكدال، ضمن سلسلة محاضرات الموسم الجامعي 30242025، والتي نظمتها شعبة القانون الخاص وماستر العلوم القانونية، اليوم الاثنين، أن القانون الدولي في مفهومه التقليدي لم يكن يخاطب الأشخاص الطبيعيين، لكن نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت تحولا في هذا الاتجاه، مع إنشاء محكمة نورنبيرغ سنة 1945، وهو ما مهّد لميلاد القانون الدولي الجنائي.
وشدد عياط ضمن المحاضرة على أن القانون الدولي توجه إلى مساءلة مرتكبي الجرائم الدولية لكونهم في الغالب يحظون بحصانة شبه مطلقة من العقاب. مبرزا أن الجرائم الشنيعة تفرز تهديدات تتجاوز الإقليم إلى الأمن الدولي، وهو ما دفع القانون الدولي لتوسيع نطاقه ليشمل الأشخاص الطبيعيين، موضحًا أن هذه المساءلة تطورت على مراحل، بدأت بمحكمتي نورنبيرغوطوكيو، ثم محكمتي يوغوسلافيا ورواندا، وصولًا إلى المحاكم المختلطة.
وميز المتحدث بين ثلاثة أجيال للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة، مشيرًا إلى أن الجيل الأول دشن بمحكمتي نورنبيرغ وطوكيو، اللتين أنشأهما الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، وتخصصتا في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والجرائم ضد السلام.
وأوضح أن محكمة نورنبيرغ اعتُبرت سابقة في تاريخ العدالة الجنائية الدولية، وحوكم فيها 24 من كبار قادة الرايخ الثالث. وأضاف أن هذه المرحلة تلتها فترة ركود في القانون الجنائي الدولي استمرت إلى حدود نهاية الثمانينيات.
كما اوضح أن الجيل الثاني بدأ بمحكمتي يوغوسلافيا ورواندا، المنشأتين من طرف مجلس الأمن، وتكوّنتا من قضاة ومدعين دوليين.، معتبرا أن التجربتين شكّلتا مسارًا مهمًا رغم ما وُجه إليهما من انتقادات بخصوص الكلفة والمدة ومكان الانعقاد، فيما ظهرت المحاكم المختلطة، أو ما اسماها بمحاكم الجيل الثالث، وباتفاق بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، وتكوّنت من قضاة وموظفين وطنيين ودوليين.
وتميّز الجيل الثاني من المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة، المتمثل في محكمتي يوغوسلافيا ورواندا، بكونهما محكمتين ذواتي طبيعة دولية خالصة، أنشأهما مجلس الأمن، وشكّل قضاتهما ومدعوهما وموظفوهما من موظفين دوليين.
وقد شكّلت التجربتان سابقة في مجال مكافحة الإفلات من العقاب وتتبع مرتكبي الجرائم الجسيمة خلال النزاعات المسلحة، ومن أبرز الانتقادات التي وُجهت إليهما، وفق المتحدث، الكلفة المالية المرتفعة، طول مدة المحاكمات، وتمركز مقرهما خارج البلدان التي ارتُكبت فيها الجرائم.
وسعت محاكم الجيل الثالث إلى تجاوز ملاحظات التجربة السابقة من خلال تقليص عدد المتابعين، وتقريب المحكمة من الضحايا بجعل مقارها داخل البلدان المعنية، إضافة إلى محاولة ترشيد التكاليف وتسريع الإجراءات. وقد عُدّت هذه المحاكم نواة جديدة ضمن مسار تطور المحاكم الجنائية المؤقتة ذات البعد الدولي.
في كلمته الافتتاحية، قال عبد المهيمن حمزة، منسق ماستر العلوم القانونية، إن هذه المحاضرة تأتي في ختام البرنامج السنوي للموسم الجامعي، معتبرا إياها محطة علمية تُجسد امتدادًا للمسار التكويني للطلبة في مجال القانون الجنائي الدولي، مضيفًا أن حضور الأستاذ محمد عياط يُعد فرصة للاطلاع على تجربة عملية في هذا المجال.
من جهته، رحّب بوعبيد شلاط، رئيس شعبة القانون الخاص، بالأستاذ محمد عياط، مبرزًا أنه أحد أساتذة القانون الخاص البارزين منذ عقود، سواء بكلية الحقوق بفاس أو بكلية الحقوق السويسي، مشيرا إلى أنه حين تواصل مع الأستاذ عياط لقبول الدعوة، أجابه: “شرف لي أن أكون ضيفًا برحاب الكلية”، مضيفا أن هذا اللقاء ثمرة تعاون بين الشعبة والفريق البيداغوجي ومختبر القانون الخاص، ويمثل تتويجًا لأنشطة الموسم الجامعي.
جدر الإشارة إلى أن محمد عياط حاصل على دكتوراه الدولة من جامعة تولوز بفرنسا سنة 1979، ودرّس بكلية الحقوق بفاس لمدة 14 سنة، حيث شغل عدة مناصب علمية وإدارية، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق السويسي سنة 1994. وقد توّج مساره المهني بالالتحاق بالأمم المتحدة كخبير في المحكمة الدولية لرواندا، حيث ساهم في ترسيخ تجربة قضائية دولية فريدة.
المصدر: العمق المغربي