هذا زمان المراييع القراقيع والرويبضات الافادغ
حيدر المكاشفي
اذا كانت الحقيقة والمعلومة الصحيحة الدقيقة من أكبر ضحايا الحروب، حيث يتم في خضم الصراع تشويه الحقائق وتزييفها واستخدامها كأداة دعائية من قبل الأطراف المتحاربة.
كما أن المعلومات الموثوقة غالباً ما تكون صعبة المنال أو غير متاحة للجمهور خلال فترة الحرب، لاستخدام الأطراف المتحاربة الدعاية لتشكيل الرأي العام وتبرير أفعالها، وغالباً ما تتضمن هذه الدعاية تضليلاً وتشويهاً للحقائق، فإن اكبر المتسببين في هذا التشويه والتضليل ودق عنق الحقيقة، هم بلا منازع (المراييع القراقيع والرويبضات الأفادغ)، ولمن لم يقف على هذه المصطلحات والتسميات من قبل، المراييع جمع مرياع، والمرياع هو قائد قطيع الغنم الذي يعتمد عليه الراعي في توجيه غنمه، والمرياع محبوب من كافة أفراد القطيع ودائما ما يسيرون خلفه، ويتم إخصاءه كي لا ينشغل عن وظيفته الأساسية وهي (قيادة القطيع)، ويتبع القطيع المرياع اينما ذهب واتجه حتى لو قادهم الى حتفهم، ومما يُروى عن تبعية القطيع العمياء للمرياع، أن مرياعاً سار بالقطيع في منطقة وعرة حتى وصل إلى حافة واد سحيق. فانزلقت قدماه فسقط أسفل الوادي فما كان من باقي القطيع إلا أن لحقه، بحكم الاقتداء، واحداً تلو الآخر لكون النعاج والخراف اعتادت أن تنقاد له.
وفي اللغة الإنجليزية يسمى هذا المرياع Judas Goat أو يهوذا الماعز، لكونهم يعتقدون أن يهوذا الذي تسبب في صلب السيد المسيح عليه السلام، وذلك بخيانته له وتسليمه إلى الرومان. ويطلق عليه أيضا Bellwether أو الكبش القائد.
أما الافادغ جمع افدغ ومؤنثه فدغاء، بمعنى فارغ العقل و(ماسورة) بلغة الشباب، وبطبيعة الحال فارغو العقول هم الأكثر ضجيجاً، مثل البراميل الفارغة التي تحدث اصواتاً عالية، أو كما يقول الفرنجة empty barrels makes much noise وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (سيأتي على الناس سنوات خداعات؛ يصدق فيها الكاذب؛ ويكذب فيها الصادق؛ ويؤتمن فيها الخائن؛ ويخون فيها الأمين؛ وينطق فيها الرويبضة) قيل وما الرويبضة يا رسول الله قال: الرجل التافه يتكلم في أمور العامة..
الشاهد أننا في زمان الحرب العبثية هذا، ابتلينا بجوقة وكورجة من هؤلاء المراييع القراقيع والرويبضات الافادغ، ملأوا الاسافير والمنابر والمنصات بالهراء والضجيج والهرطقات والصخب الفارغ، ولكن وللاسف الاسيف ورغم ان ما يهرفون به من غثاء وبؤس وحشف، ورغم انهم نكرات لا تاريخ لهم؛ وليس لهم تميز في أي ميدان؛ ولم يعرف لهم تخصص في أي مجال؛ ولم يعرف لهم إنجاز؛ أصبحوا ينظّرون؛ ويشيرون ويستشارون؛ ويقررون في مستقبل البلاد والعباد؛ وهم محض طبل جوفاء؛ تجد لديهم حيران ومريدين وتابعين، وماذا يمكن ان يقال عن امثال هؤلاء سوى انهم قطيع يتبعون المرياع، فمن بين بني البشر من هم على شاكلة الغنم لا يحلو لهم السير إلا خلف مرياع ودون أدنى تفكير، المهم أنه عندما يتحدث أو يكتب المرياع يصفقون ويهتفون له، وعندما يسير المرياع يسير القطيع كاملاً وراءه ويتبع خطاه مُعتقداً أنه يسير خلف الخطى الواثقة لزعيمه البطل والوطني الغيور إن ظاهرة هؤلاء الجهلاء النشطين ليست جديدة، واسمحوا لي هنا ان انسب فضل مصطلح (الجهل النشط) حفظاً للحقوق لمن سكوه في جماعة الاخوان الجمهوريين، فقد عهدنا هذه الظاهرة منذ العهد البائد، ولكنها حالياً وخاصة بعد اعتصام الموز وانقلاب أكتوبر ومن بعده حرب الفلول والكيزان صارت أكثر بروزاً، بعد أن تصدر هؤلاء الجهلاء النشطون واجهة الأحداث ومنصات الأخبار والتحليل ومواقع التواصل الاجتماعي، منهم من أصبح سياسياً ورجل دولة ومجتمع بوضع اليد وبوضعيته كمشعل وحكّامة للحرب، واصبح كثير الحديث فيما لا يفقه وكثيف الظهور الاعلامي، وما أكثر من أصبحوا اليوم سياسيين وحكام ورجال دولة ومال وأعمال ومحللين استراتيجيين..
إن الجهل مصيبة على قول أهل السودان، وتتعاظم مصيبة الجاهل عندما يصبح نشطاً، وقد أثبت علم الاجتماع الحديث بأن الجهلاء والتافهين يتسمون بالنشاط والجرأة، ومن بين عيوب الحرب العديدة أنها تجبرك على الاستماع إلى رأي وأقوال الحمقى والجهلاء..
يصنف دارسو علم الاجتماع الجهل إلى نوعين، الجهل الأصغر والجهل الأكبر، أما الجهل الأصغر فهو جهل الأُميين، وأما الجهل الأكبر فهو جهل المتعلمين. أما الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم النحو الشهير فله تصنيفات تقسم الرجال الى أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري، فذلك العالم فاسألوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك الناسي فذكروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك الجاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك الأحمق فاجتنبوه، وهذا أخطر أنواع الجهلاء، فهو يسترسل بكل ما يمليه عليه لسانه دون إدراك وفهم منطقي حقيقي لما يقول، يتهجم ويهاجم من يخالفه ويختلف معه في رأي فقط لأن رؤيته للأمور تضيق شيئاً فشيئا، أما الأُمي وغير المتعلم فلا حرج عليهِ في جهله فهو جاهل باعترافه، وهذا دورنا تجاهه هو توفير التعليم له، أما انصاف المتعلمين والمدعين وخاصة اذا ما تسنموا سلطة او حازوا منصة أو موقع، فاولئك اكبر خطر بسبب ادعائهم رغم ضعف مستوياتهم، ودائما ما يتصرفون بقدر لافت من اللامبالاة والاستهتار وبفهلوة لا يجب أن تصدر عن متعلمين، وقد نصح سيدنا علي كرم الله وجهه بعدم مجادلة الجاهل كي لا يغلبك في جهله، ذلك لأنك إن خالطت الجاهل طويلاً فسيجرك إلى القاع لا محالة، ثم سيدفنك بجوفه حتى يهلك عقلك، لأنه كلما جادل المرء الجهلاء والسفهاء أكثر، انتقص من قدره وأصاب عقله الوهن والتشوش، ليخرج من السجال بعد أن ضيع ساعات طويلة من وقته بصداع ومشاعر سلبية وخسارة ما بعدها خسارة.
إن مجادلة الجهلاء والسفهاء تمنحهم غروراً زائفاً يصور لهم أنهم رأس الحكمة وأن غيرهم لا يفقهون شيئاً، وكم من الحضارات انهارت، وكم من الأنظمة سقطت، وكم من الثروات تبخرت، وكم من البشر قتلوا أو شردوا، وكم من الأوطان ضاعت، وكم من الشركات أفلست بسبب مكابرة وعناد وغباء أصحاب قرار قرروا إدمان الجهل والجهالة والتجهيل..
إن أعلى درجات الجهل هى ألا يدرك الإنسان أنه جاهل، فأن تجهل أنك جاهل فتلك أم المصائب.. وهذه والله واحدة من اكبر مصائبنا مع هذه الحرب اللعينة أم المصائب..
المصدر: صحيفة التغيير