كل ما يمكن الحديث من خلاله لفهم الضربات غير المسبوقة المتبادلة بين الإيرانيين والإسرائيليين والتي بدأتها الأخيرة، بشكل صارخ هو أنها تأتي بالضدّ من كل الاتفاقيات الدولية التي تمنع دولة من الهجوم على سيادة دولة أخرى، فقانونياً لا يمكن التبرير، مع أن العالم البشري لا يحكمه القانون في أغلب حالاته، حيث القوة هي التي ترتب الأشياء، خاصة في عالم تتعامل قيادته وفقاً للمصالح التي لا يتنازلون عنها بحق أو باطل، إلا بالقوة الرادعة.
ثم يتوجب توضيح النقاط التالية لفهم الإطار العام:
• إن هناك ثلاثة أوصاف لفهم الإشتباكات المسلحة، وهي: عملية عسكرية” حملة”، معركة، حرب، لكل من هذه الكلمات معانيها وخصائصها، فالحملة المحدودة هي عملية عسكرية لغاية محددة وتنتهي، والمعركة هي أكثر شراسة وتوسعاً وإستغراقاً للزمن لكن وقتها محدّد قبل خوضها، أما الحرب فهي التي تبدأ وتمس مجالات واسعة من الأهداف، بدايتها معروفة لكن النهاية من الصعب التكهن بها، فهي تبدأ لكن تستمر لحين إنهاك أحد الأطراف المتحاربة وكسره وإستسلامه، إستسلام كلي أوالتوقيع على لا ئحة المطالب كما حدث بعد الغزو العراقي للكويت في خيمة صفوان، وربما تتوقف الحرب بضغط أو توسط دولي، هذه الفروقات بين الحالات الثلاث توضّح أن ما يجري الآن بين طهران وتل أبيب هو “حرب”.
• والحرب لها خطورتها وقواعدها الخاصة التي تحكمها، نهايتها غير واضحة، وقابلة للتوسع ليس نوعياً فحسب، وإنما جغرافياً، ومستوى شدتها دائم الإرتفاع كما هو الآن بين روسا وأوكرانيا، ومن هنا تأتي خطورة هذه الحرب على المنطقة القريبة من الدولتين، أولاً: إن البلدين بعيدان جغرافياً، تفصل بينها آلاف الكيلومترات، بينها ثلاث دول، ولاء هذه الدول أو رغباتها السياسية مختلفة، وقد تميل لهذا الطرف من الحرب أو ذلك، لكن مع أن إستعمال المجال الجوي هو إنتهاك للسيادة، إلا أن التعاطي مع هذا الإنتهاك أيضاً له دلالاته، فالعراق الذي سماؤه هو المعبر الرئيس لكلتا الدولتين، له مع إيران تعاطف واضح غير مخفي، في حين أن الأردن تبدي رفضاً صارماً على الأقل تجاه إستعمال إيران لأجوائها في الردّ الدفاعي على هجمات إسرائيل، ومع هذا يبقى السؤال حيال الموقف الأردني حين دخول الولايات المتحدة المباشر والرسمي في الحرب. خاصة مع تهديد إيران بإستهداف قواعد الدول التي تنطلق منها الهجمات على أراضيها. وثانياً: الجانب الاقتصادي وهو المتأثر المباشر في هذه المواجهة المفتوحة بين إسرائيل وإيران، فالتجارة الدولية تتأثر سلباً من حيث طائرات الشحن، والتجارة عبر البرّ، والسياحة، وكذلك التجارة البحرية خاصة النفط إذا ما نفذّ الحرس الثوري الإيراني تهديداته بغلق مضيق هرمز أو فرض التحجيم على حركات السفن في مياه الخليج.
• تزداد خطورة هذه الحرب في حالتين: الأولى، هي الوصول إلى مرحلة الإنفلات والخروج على كل القواعد المرعية، أي إستهداف كل شيء وليس المستويات العسكرية والصناعية، إستهداف حياة المواطنين المدنيين من الناحية الاقتصادية اليومية وأرواحهم. في هذه الحالة فإنّ كل القواعد الأخلاقية المتبقية يتم تخطيها. والثانية، هي الدخول المباشر للقوات المسلحة الأمريكية “سنتكوم” في ضرب إيران، بمعنى حركة أمريكية تتحول بها من الداعم الخلفي لإسرائيل إلى الخط الأمامي، ففي أي من هذه الحالات إن الخطورة على منطقة الشرق الأوسط تزداد إزدياداً كبيراً. وفي حال توجيه واشنطن ضربة مباشرة لإيران، تحدث التطورات التالية:
إستهداف القواعد العسكرية الأمريكية المتواجدة على أراضي دول جارة لإيران أو قريبة منها، في العراق والكويت والبحرين وقطر والأردن أو حتى في دول أسيوية، وتلك الأعداد القليلة في سوريا، لو حدث هذه التطور لا سمح الله فإنّ الحرب تكون شرق أوسطية، تكون أمريكا الطرف الأبرز والقائد فيها، خاصة إن الولايات المتحدة لم تخض حرباً على أراضيها سوى تلك الحروب الأهلية في بدايات تكوينها في القرن الثامن عشر، والإرتدادات ستكون كبيرة للغاية على الاقتصاد العالمي، وتكون دولنا هي المتضررة والأخرى مربحة بالتكثيف من الصادرات ورفع الأسعار كما يشتهون، إلا أن هناك دولتان تنعكس عليهما تداعيات الحرب في حال المشاركة الأمريكية المباشرة، وهما العراق وسوريا، بعد أن خرجت لبنان من المعادلة على الأقل كما يبدو للناظر.
فالعراق، هو شبه مندمج مع إيران، من حيث تبني السياسة داخل محور المقاومة كما يسمى، والإختلاط الإجتماعي والإعتماد العراقي على الغاز والإقتصاد الإيراني والنسبة العالية في التجارة بينهما، لكن كل هذا ممكن التعامل معه بعد فترة من الزمن، إلا أن الخطر الكبير هو في تدخل الفصائل المسلحة التي تأتمر بأوامر إيران، أو تتعاطف معها ومتأهبة لإستهداف المصالح الأمريكية، والعراق ليس على مستوى واحد، رسمياً اكتفت الحكومة بإصدار البيان الشديد التنديد بالغارة على إيران، لكن الدولة العراقية تتجنب كلياً التورط في الحرب، لأنها أعجز من فعل ذلك، وهي تحت الرحمة الأمريكية في كل شيء تقريباً، وإلى الآن تمكن رئيس الوزراء العراقي من إقناع تلك المجموعات بالنأي من تلك الحرب، ويبدو أن التوجيهات المباشرة اللازمة لم تصل إلى قيادات تلك الفصائل من إيران بالمشاركة في الدفاع بعدُ، وعلى المستوى الشعبي، فهو ساكت، والسياسي أبدى كل الأطراف بجميع إنتماءاته القومية والمذهبية هو أن الدفاع مهمة إيرانية مع التعاطف معها، وليست عراقية، والمرجع الشيعي الأعلى اكتفى بدعوة المجتمع الدولي لمنع استمرار الإعتداءات الكيان المحتل. لكن إن توسعت الحرب ولم يبق من قواعد للإشتباك، وأصبحت بلا قواعد ولا أصول، ففي هذه الحال، فإن الأمريكيين لن يتأخروا عن الرد المؤلم، بإستهداف دقيق قواعد وقادة هذه المجموعات، من دون إشعال الفوضى الشاملة لأن المتضرر الثاني هو واشنطن بالنظر إلى المصالح الكبرى لها على الأرض العراقية.
وسوريا، هي الدولة الثانية التي تتأثر بالوضع، فهي قد يساعدها إضعاف إيران من جانب نظراً للتاريخ، والدعم اللامشروط لنظام البعث الحاكم الساقط، والمحاولات الجارية الهادفة لعرقلة إستقرار النظام الجديد. لكن الجانب المظلم هو الإستغلال السيء من إسرائيل بنياتها التوسعية المفضوحة لأي حركة مما يسمى بالمقاومة الإسلامية السورية في الساحل، وهي متوافقة الهوى مع إيران، أو التحرك الذاتي الإسرائيلي للتوغل البرّي الأكثر عمقاً داخل الأراضي السورية، قد تمنع واشنطن تل أبيب من إتخاذ هذه الخطوة، لكن الأخيرة لن تستشير واشنطن في هذه الحالات. وهي قائمة من الأساس على كسر القوانين وإنتهاك حرمتها.
لكن هناك سؤال يتبادر لذهن سياسيي المنطقة كلها، ماذا لو نالت إسرائيل ما تريد من إيران، ووصلت إلى كل مبتغاها؟، هل تتوقف أم تستمر في المسار الذي يقال إنه “عقيدة نتنياهو”؟ ويأتي الدور على العراق ثم تركيا التي تتخوف إلى حدّ ما ليست من القوة الإسرائيلية وإنما من اللاإستقرار الذي تعمل إسرائيل من أجله ومن ثم إضعاف تركيا إلى حدّ تعود إلى سابق عهدها، أي إلى ما قبل الحقبة الأردوغانية؟
المصدر: العمق المغربي