في الذكرى الـ 56 لبيان 9 يونيو 1969

تاج السر عثمان بابو

1

تمر الذكرى 56 لبيان 9 يونيو 1969، والبلاد تمر بظروف الحرب اللعينة التي دمرت البنية التحتية والبلاد والعباد، والتي تهدد بتقسيم البلاد، بعد أن  اتخذت طالعا عنصريا عرقيا وقبليا، والاتجاه لتكوين حكومة موازية للدعم السريع وحلفائه غير شرعية خارجة من رحم انقلاب عسكري غير شرعي كما في  حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، مما يتطلب وقف الحرب، وتحقيق دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو الفكر السياسي اوالفلسفي،  وفي  الحكم الذاتي والوحدة من خلال التنوع والاعتراف بالفوارق الثقافية بين قوميات السودان المتنوعة وحقها في استخدام لغاتها الخاصة في التعليم.

2

كان بيان 9 يونيو ضربة البداية بعد الاستقلال لتحقيق ذلك الهدف، عندما طرح البيان بعد أسبوعين من انقلاب مايو 1969 الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان، واعترف بالفوارق الثقافية والتاريخية بين الشمال والجنوب، والتنمية المتوازنة، وحق الجنوبيين في تنمية ثقافاتهم ولغاتهم في سودان اشتراكي موحد، وأشار إلى أن بناء الوطن المتآخي يجب أن يأخذ في الاعتبار هذه الحقائق الموضوعية، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتمتع الجماهير بالديمقراطية باعتبار ذلك هو الضمان لنجاح الحكم الذاتي الإقليمي.

صحيح أن الديكتاتور نميري تراجع عن الإعلان، وحدثت مجازر انقلاب 22 يوليو 1971 الدموي التي أُعدم فيها الشهداء عبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد الشيخ، وجوزيف قرنق، والرائد هاشم العطا، والمقدم بابكر النور، والرائد فاروق عثمان حمد الله، وغيرهم من الشهداء العسكرين، وتشريد واعتقال الألاف من الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين، لكن ظلت بصمات الشهيد جوزيف قرنق واضحة في إعلان 9 يونيو وبذل جهدًا كبيرًا لتنفيذه رغم المتاريس التي وُضعت أمامه.

3

والواقع  أن الأفكار التي وردت في بيان 9 يونيو، كان قد طرحها الحزب الشيوعي السوداني منذ عام 1954، وفي برنامجه المجاز في المؤتمر الثالث 1956، والمؤتمر الرابع 1967، جاء في بيان الجبهة المعادية للاستعمار عن موقفها من قضية الجنوب بصحيفة الصراحة، العدد رقم 422، بتاريخ: 28/9/1954م ما يلي:

ترى الجبهة أن حل مشكلة الجنوب يتم على الأساس التالي: تطور التجمعات القومية في الجنوب نحو الحكم المحلي أو الذاتي في نطاق وحدة السودان.

يواصل البيان ويقول:

ونحن حينما نقدم هذا المبدأ لحل مشكلة الجنوب نقر بأن الوضع الحالي للقوميات في الجنوب ليس مدروسًا لدينا ولا لدى غيرنا في العاصمة، وأن دراسته تقتضي الذهاب إلى هناك أو  تجئ هي من هناك، ولكنا نرى أن هذا المبدأ الوحيد وبطبيعته يعتمد على الظروف، فإذا كانت ظروف قومية واحدة أو عدة  قوميات في الجنوب ورغبة أهلها تقتضي قيام حكم محلي أو ذاتي فلهم الحق في ذلك، كذلك نقر أنه ليست لدينا وجهة نظر محددة عن الموقف بين القوميات السودانية الأخرى في الشمال والشرق، إلا أنه مما يظهر لا توجد مشكلة حالية بالنسبة لها. ولكن من ناحية المبدأ لا ننكر أنه إذا جاء وقت ولو كان بعد الاستقلال بفترة طويلة واقتضت ظروف هذه القوميات نوعًا معينًا من الحكم الداخلي فيجب أن ينفذ (راجع اليسار السوداني في عشرة أعوام، إعداد محمد سليمان، ص6062).

لكن، كما ذكرنا، لم تنفذ ديكتاتورية مايو الإعلان، ولا الحكم الذاتي الإقليمي بعد اتفاقية أديس أبابا، واستمر نقض العهود والمواثيق التي أبرمتها القوى الحاكمة مدنية وعسكرية مع الحركات في الجنوب ودارفور وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق والشرق، كما حدث بعد الاستقلال في عدم الوفاء بتحقيق الحكم الفدرالي للجنوب، مما أدى لانفجار التمرد عام 1955 وتعميق المشكلة، وكذلك حدث في اتفاقية أديس أبابا 1972، فقد كفل دستور 1973م الذي جاء بعد اتفاقية أديس أبابا الحقوق والحريات الأساسية فيما يختص بالمسألة الاثنية والدينية في المواد 38، 47،52،56. والتي أشارت إلى الآتي:

المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب اللغة أو الدين أو العرق أو المركز الاقتصادي أو الاجتماعي، وحرية العقيدة والضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وحظر السخرة والعمل الإجباري، وحق الأجر المتساوي للعمل المتساوي، وحق استعمال الأقليات للغاتها وتطوير ثقافاتها.

لكن النظام الديكتاتوري الشمولي أو حكم الفرد أجهض اتفاقية أديس أبابا، واندلعت نيران التمرد من جديد، وازداد الأمر تعقيدًا بعد صدور قوانين سبتمبر 1983م، حتى سقوط النظام في انتفاضة مارس أبريل 1985.

4

استمر نسف و نقض العهود والمواثيق كما حدث لاتفاقية الميرغني قرنق التي أجهضها انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989، وتم  الرجوع للمربع الأول، وتصاعدت الحرب الأهلية، حتى تمّ توقيع اتفاقية نيفاشا التي لم يتم تنفيذها وتحولت لمحاصصات ووظائف، وكانت النتيجة فصل الجنوب.

كما وقع النظام أيضًا اتفاقيات مع الحركات دارفور مثل: اتفاقية أبوجا مع حركة مناوي، وتحولت لمحاصصات ولم يتم تنفيذ الاتفاقية، وكذلك اتفاقية الدوحة مع مجموعة، ولم يتم تنفيذها.

بعد ثورة ديسمبر تم توقيع اتفاق جوبا (3 أكتوبر 2020) مع الجبهة الثورية  الذي ليس شاملًا، ولم يتم تنفيذه واصبح حبرا على ورق، كما حدث في اتفاقات أبوجا والدوحة ونيفاشا التي أدت لفصل الجنوب، ونافع عقار التي أدت لتجدد الحرب، والشرق والتي تحولت إلى محاصصات ومناصب ومنافع شخصية، وتجاهل مطالب أهل دارفور والمنطقتين والشرق في التنمية والتعليم والصحة وتوفير خدمات المياه والكهرباء، وتعويض اللاجئين وعودتهم لقراهم وإعادة تعميرها.

اضافة للاستمرار في نقض العهود والمواثيق كما حدث في انقلاب 25 أكتوبر 2021، تقويض الوثيقة الدستورية، وعدم تسليم المدنيين السلطة، بعد انتهاء مدة حكم العسكر، مما قاد للحرب الجارية حاليا.  علمًا بأنه بعد ثورة ديسمبر 2018 توفرت ظروف موضوعية للحل الشامل والعادل لمعالجة قضية الهوّية ووقف الحرب والصراع الدامي في السودان الحديث منذ فجر الحركة الوطنية باندلاع ثورة 1924.

5

أخيرًا، تبقى العبرة من بيان 9 يونيو، فالبيانات والاتفاقات والتوقيع عليها لا يكفي كما حدث في اتفاقات أديس أبابا 1972 ونيفاشا، أبوجا، والشرق، ونافع عقار، الوثيقة الدستورية، وسلام جوبا، المهم هو التنفيذ والحل العادل والشامل، والذي يتم في ظروف الديمقراطية، فتجارب الحكم العسكري واللجنة الأمنية بعد ثورة ديسمبر 2018 أكدت أنها غير مؤتمنة على العهود والمواثيق، مما يطيل أمد معاناة الجماهير، ويهدد وحدة البلاد.

مما  يتطلب اوسع تحالف قاعدي جماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة، وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات من السياسة والاقتصاد، وتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو اللغة أو الثقافة أو الجنس أو المعتقد السياسي والفلسفي، كما جاء في بيان 9 يونيو، واستكمال الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بمعني توفير احتياجات الناس الأساسية في التعليم والصحة والسكن والعمل والضمان الاجتماعي وحماية الشيخوخة والأمومة، والتنمية المتوازنة بين أقاليم السودان المختلفة، والسلام الشامل والعادل، وحق القوميات في تطوير ثقافاتها ولغاتها، وعودة النازحين إلى قراهم وإعمار مناطقهم، وعودة المستوطنين لبلدانهم، وحل المليشيات وجيوش الحركات وفق الترتيبات الأمنية، وجمع السلاح، وقيام الجيش القومي المهني الموحد والمساواة الفعلية بين المرأة والرجل، وأن يصبح التعدد والتنوع القومي والثقافي مصدرًا لثراء وقوة ومنعة لبلادنا بدلًا من الحروب الدامية التي حدثت منذ الاستقلال، وكان نتاجها بسبب الاستعلاء العنصري والديني انفصال جنوب السودان.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.