زهير عثمان حمد
لم تعد الحرب في السودان مجرد نزاع مسلح بين قوتين تتنازعان السيطرة على الأرض. فما نشهده اليوم هو صراع وجود، تتقاطع فيه السيادة مع التاريخ، وتتواجه فيه الدولة بوصفها مؤسسة، مع محاولات تفكيكها وتحويلها إلى كانتونات مسلحة بلا رابط وطني أو مشروع جامع. في هذا السياق، تغدو السيطرة على الجغرافيا ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لفرض سردية، وتكريس شرعية، وإعادة ترسيم معالم الدولة في الداخل والخارج.
استعادة العاصمة الخرطوم، رمز السيادة ورئة الدولة، لم تكن مجرد مكسب عسكري، بل إعلان بأن الدولة لم تسقط، وأن مؤسساتها لا تزال قادرة على النهوض ولو من تحت الركام. وعلى تخوم الفاشر، تقف القوات المسلحة أمام خط دفاع رمزي وتاريخي تتجاوز دلالاته الجغرافيا لتلامس جوهر الدولة ومفهوم الوحدة الوطنية. فالمعركة في دارفور، وقد تحولت أرض السلطنة السابقة إلى بؤرة للصراع، تكشف أن الصراع لم يعد بين جيش ومليشيا، بل بين مشروع دولة حديثة تستند إلى الشرعية الدستورية والمؤسساتية، ومشروع تفكيكي يعيد إنتاج منطق الحرب الأهلية على أسس إثنية وجهوية.
في ظل هذا المشهد المعقد، تظهر الحاجة إلى تفكير سياسي استراتيجي يتجاوز منطق الانتصار العسكري التقليدي، ويرتكز على أدوات القوة الناعمة، الدبلوماسية الذكية، وتوظيف الرمزية الوطنية والتاريخية لصالح تثبيت فكرة الدولة أمام الداخل والخارج.
فالفاشر يمكن أن تتحول إلى منصة لإعادة بناء التعايش الأهلي والسياسي، إذا ما جرى التعامل معها كعاصمة سياسية مؤقتة لدارفور، تُدار من خلالها الخدمات عبر أطر مدنية وقبلية، في شراكة تؤسس لسلام اجتماعي يتحدى سردية المليشيا.
الخرطوم، من جهتها، يجب أن تُستعاد لا فقط بالجيوش، بل بالدبلوماسية. ينبغي أن تتحول مؤسساتها السيادية إلى منصات تستقبل السفراء وتستضيف المبادرات، لترسل رسالة واضحة بأن الدولة قائمة، وأن مشروعها ليس فقط الاستمرار في الحرب بل إعادة بناء سلام يستند إلى وحدة البلاد، لا إلى تقسيمها وفق معادلات القوة الميدانية.
في مواجهة تمدد المليشيا، لا تكفي الجاهزية القتالية. ثمة حاجة إلى أدوات تقوض بنيتها الاقتصادية والدعائية. توثيق الانتهاكات، فضح التمويل غير المشروع، وتقديم ملف مدروس إلى المحاكم الدولية، ليست أفعالاً انتقامية، بل خطوات سياسية تُعيد تعريف المعركة باعتبارها معركة لحماية القانون، لا فرض الهيمنة. فحين يتحول الطيران الحربي إلى تقرير أممي، تكون المعركة قد ارتقت إلى مستوى الصراع على تعريف الشرعية.
أما الشرق، فإنه يحمل بين موانئه فرصة استراتيجية نادرة. تحويل بورتسودان إلى مركز لوجستي ودبلوماسي، ليس فقط لتسيير المساعدات، بل لإبراز أن السلطة لا تزال قادرة على التنظيم والتنسيق مع العالم، يمكن أن يجعل منها بديلاً رمزياً مؤقتاً .
حين تغيب الخرطوم، أو حين تسقط مدينة مثل الفاشر. لا ينبغي للفراغ السياسي أن يُملأ بالفوضى، بل برؤية تحافظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة.
وفي خضم ذلك، تبرز أهمية إشراك القوى المدنية، ليس بوصفها مجرد ديكور سياسي، بل باعتبارها شريكاً ضرورياً في إعادة تعريف السلطة على أسس انتقالية جديدة. لا بد من حكومة مصغرة، ذات شرعية أخلاقية وواقعية، تتحدث للعالم باسم الوطن لا باسم الفئة، وتُعبر عن حلم السودانيين في الخروج من هذا النفق.
إن التحدي الأكبر لا يكمن في خسارة معركة هنا أو هناك، بل في القدرة على تحويل الخسائر الظرفية إلى مكاسب استراتيجية. حتى لو سقطت الفاشر عسكرياً، فإن الدفاع عنها سياسياً يظل ممكناً، بل وضرورياً، إن أردنا كشف نوايا الخصم وتفكيك مشروعه أمام العالم. فالدولة لا تُقاس فقط بعدد الكتائب، بل بقدرتها على البقاء في مؤسسات الشرعية الدولية، وبتمسكها بالهوية الوطنية كحقيقة سياسية.
ليست هذه الحرب حرب انتصار ميداني، بل حرب تفاوض. والجيش لا يقاتل فقط ليستعيد مدينة، بل ليمنح بلاده موقعاً على طاولة التفاوض بكرامة. والخيار ليس بين الحرب والسلام، بل بين دولة تحمي وحدتها عبر الدفاع الشرع ودولة تُسلَّم لمليشيا تُعيد إنتاج الفوضى تحت عباءة الجغرافيا.
قد تنتصر المليشيا على الأرض، ولكن التاريخ لا يعترف إلا بالدول.
*ومن يملك مشروعية الدفاع عن الوطن، هو وحده من يملك حق التفاوض باسمه .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة