أمد/ بين السابع عشر والعشرين من حزيران/يونيو الجاري، تلتئم في مدينة نيويورك جلسات مؤتمر دولي برعاية فرنسيةسعودية، تحت عنوانٍ لم يعد جديدًا من حيث الصياغة، لكنه بالغ الأهمية من حيث التوقيت والدلالة: “دفع تنفيذ حل الدولتين وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”. وبينما يغرق العالم في تفاصيل المجازر اليومية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، يأتي هذا المؤتمر كمحاولة لإحياء ما يُشبه الضمير السياسي الدولي، أو ربما ما تبقى منه.

تَطرح هذه المبادرة عدة أسئلة محورية: هل ما زال هناك مجال واقعي لحل الدولتين؟ وهل تملك الأطراف الراعية، ومعها المجتمع الدولي، إرادة الفعل أم أنها تكتفي بتدوير الخطابات القديمة في قالب جديد؟ ولماذا في نيويورك، ولماذا الآن، بينما لا تزال آلة الحرب الإسرائيلية تسحق كل ما هو فلسطيني في الجغرافيا والوعي معًا؟

قد يكون أهم ما يميز هذا المؤتمر هو موقعه ومُبادرته من خارج الإطار الأميركي التقليدي المنحاز.

ففرنسا، الدولة الأوروبية الداعمة ظاهريًا لحل الدولتين، تتقدم مع السعودية، القوة الإقليمية الصاعدة، لتُشكّل ثنائية غير مسبوقة في رعاية مؤتمر من هذا النوع، في ظل غياب عربي رسمي واسع، وصمت دولي طال أكثر مما يجب.

إن مجرد انعقاد المؤتمر في نيويورك، وعلى أرض الأمم المتحدة، يمنحه صبغة قانونية وسياسية تتجاوز حدود المجاملة، وتمنحه فرصة لطرح رؤية متكاملة قد تُشكّل بداية لمسار جديد، شريطة ألا يبقى في حدود النوايا.

المؤتمر لا ينطلق من فراغ؛ بل يأتي في ظل انسداد سياسي كامل، وتحوّل “حل الدولتين” إلى جملة ميتة في أدبيات المجتمع الدولي. على الأرض، تبتلع إسرائيل ما تبقى من الضفة الغربية عبر الاستيطان، وتعزل القدس تمامًا عن محيطها الفلسطيني، بينما تنفذ في غزة مشروعًا إباديًا يتجاوز الردع العسكري إلى محو الوجود.

وفي هذه الظروف، تُطرح فكرة المؤتمر كنافذة تُفتح في جدار الصمت، لكنها ستظل بلا جدوى إذا لم تتحول إلى أداة ضغط فعلية.

لا يمكن فصل المؤتمر عن المتغيرات الإقليمية. فالسعودية، التي كانت تُتهم بالتقارب التطبيعي مع إسرائيل، تُعيد اليوم تموضعها عبر دعم سياسي صريح للحقوق الفلسطينية، في لحظة تَبدو فيها تل أبيب في أسوأ حالاتها السياسية والأخلاقية.

كما أن فرنسا، الباحثة عن دور مستقل عن التبعية للسياسات الأميركية، تجد في هذه المبادرة فرصة لتعزيز حضورها الدبلوماسي.

لكن الأهم من ذلك، أن كلا البلدين يُدركان أن استمرار الصراع دون أفق سيُهدد الاستقرار الإقليمي، ويُفجّر موجات تطرف وتهجير عابرة للحدود.

لا يُمكن تجاهل أن المؤتمر سيواجه عراقيل كبرى، أولها رفض إسرائيل التام لأي حديث عن دولة فلسطينية ذات سيادة.

وثانيها، الانقسام الفلسطيني المستمر، الذي يضعف قدرة الفلسطينيين على تقديم رؤية موحدة، بل وربما يُعقّد تمثيلهم داخل المؤتمر نفسه.

أما التحدي الثالث، فيتمثل في الغياب الأميركي العملي عن رعاية المؤتمر، وهو ما يعني أن نتائجه إن وجدت ستبقى رهينة لموقف واشنطن النهائي، التي ما تزال تنظر إلى أمن إسرائيل كأولوية استراتيجية مطلقة، ولو على أنقاض فلسطين.

رغم كل ذلك، فإن المؤتمر ليس بلا قيمة، إن استطاع المشاركون فيه الاتفاق على صيغة سياسية واضحة، تُعيد تثبيت الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، وتُؤكد أن القدس الشرقية هي عاصمتها، فإن ذلك يُعيد تأطير القضية الفلسطينية في إطارها القانوني والإنساني الصحيح، ويُخرجها من مقصلة التصنيفات الأمنية والمشاريع الإنسانية المشروطة. بل أكثر من ذلك، فإن نجاح المؤتمر في تشكيل لجنة متابعة دولية، أو في إصدار بيان يُدين العدوان الإسرائيلي المستمر، ويُطالب بوقفه الفوري، سيكون بمثابة إحياء لمسؤولية المجتمع الدولي، ولو بصورة متأخرة.

لكن الأهم من أي مخرجات هو ما سيفعله الفلسطينيون بعد المؤتمر. فمهما بلغ مستوى الدعم الدولي، لن يُكتب لأي تحرك دبلوماسي النجاح ما لم يتوفر له غطاء وطني موحد، يضع الخلافات الداخلية جانبًا، ويعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني كقضية تحرر لا قضية خدمات أو سلطات منقوصة. وإذا لم نستطع نحن، الفلسطينيين، أن نُوظف هذا الزخم الرمزي والسياسي لصالح معركة الاعتراف، فإن العالم سيُعيد إنتاج صيغ التجاهل والحياد المضلل، وسنخسر مرة أخرى فرصة كنا في أمسّ الحاجة إليها.

في المحصلة، مؤتمر نيويورك ليس نهاية المسار، بل ربما يكون بدايته. إنه اختبار للجدية الدولية، وللوضوح الفلسطيني، وللقدرة العربية على قلب الطاولة عندما يحين الوقت.

قد لا ينتج عنه تغيير فوري، لكنه على الأقل، يُعطي صوتًا آخر في زمن صمت فيه العالم طويلاً عن مذبحة العصر.

شاركها.