د. أحمد التيجاني سيد أحمد
حين كُتب هذا المقال لأول مرة في أكتوبر ٢٠٢٣م، كنا ننتظر زمان الكُرْبَة. كنا نترقّب الانفجار … نسمع طبول الحرب تقترب … ونُحذّر من نارٍ تحت الرماد.
اليوم، بعد أكثر من عامين من حرب مدمّرة، لم نعد ننتظر شيئًا. لقد دخلنا رسميًا في أعماق زمان الكُرْبَة.
في التراث السوداني، “الكُرْبَة” تعني الشدة القصوى أو البلاء الذي لا يُطاق لحظة تتكسر فيها التوازنات، ويُفرز فيها الناس كما يُفرز الذهب من التراب. **إنه زمن لا يُحتمل فيه الحياد، ولا تُغتفر فيه المواقف الرمادية**.
في زمنٍ تتداخل فيه الدماء بالتراب، والحقيقة بالصوت العالي للسلاح، ما زلنا نأمل ونتمنّى:
*أن تحمل الأيام القادمة بشارات الخلاص لمن بقي من أبناء وبنات السودان.
*أن ينهض الأخيار من تحت رماد الحرب، وقد تنقّى وعيهم بالتجربة، وانكشفت الأقنعة.
*أن تُستكمل الثورة كمشروع وطني جامع، يُقصي الفاسدين والقتلة، ويُؤسّس لدولة مدنية ديمقراطية.
من الخرطوم إلى دارفور … ومن الشرق إلى الجزيرة والنيلين
** في الخرطوم : لم تخرج المدينة من الرماد، بل تدمّرت بالكامل بمحلياتها المختلفة، وتحولت إلى ساحة رماد وركام وأشلاء ذاكرة وطنية.
** في دارفور : دُمّرت الفاشر، وشهدت أبشع المذابح، لكنها لا تزال تقاوم على لسان النساء والشباب.
**في كردفان : تحررت المدن واحدة تلو الأخرى، لكنهادفعت الثمن من دماء الأبرياء والدمار لمقومات الحياة.
** في النيل الأزرق : ما زال صوت العقل يحاول الصمود وسط محاولات الإشعال العنصري والطائفي.
** في النيل الأبيض : ارتفع وعي المجتمعات الريفية، ويتأرجح الموقف بين رفض الاستغلال و معارك ومجازر الأرهابيين والدواعش
**في الجزيرة : انهارت البنية التحتية، ودمّرت مدينة ود مدني ومشروع الجزيرة التاريخي، ولكن الروح ما زالت باقية.
**وفي شرق السودان : الغليان الشعبي يتصاعد، بعد أن اتخذ الكيزان من بورتسودان مقرًا لحكمهم الفاسد، وفرضوا على البلاد رئيسًا صوريًا تمت إقالته سابقًا من الأمم المتحدة بفضيحة فساد مدوّية.
تحالف تأسيس … لا عودة للعسكر في الحكم
إن أبرز ما شهده وسيشهده هذا المنعطف التاريخي:
** انضمام القيادة السياسية لقوات الدعم السريع إلى تحالف تأسيس، وهو تحالف مدني مفتوح لكل من انحاز للشعب.
** انجذاب لاحقًا فصائل مسلحة من جناح عبد العزيز الحلو، والتي رأت في هذا التحالف أفقًا جديدًا لسودان علماني، مدني، سلمي.
لكن الجميع يدركون جيدًا أن :
“ميثاق تأسيس ودستوره يضعان حدًا واضحًا لا لبس فيه : لا مكان للقوات المسلحة بأي شكل أو صفة في الحكم أو في مؤسسات السلطة التنفيذية “.
وهذه هي القطيعة الكبرى مع “شراكات الهبوط الناعم”، رغم كل محاولات إعادة إنتاج تحالفات الدم.
الكيزان يتمددون … والشعب يتصدّى
يحاول الكيزان التمدد في الشمال ونهر النيل، بعد سقوطهم في الخرطوم، متسترين بواجهات جديدة كـ”البراء” و”المستنفرين”.
لكن وعي الناس سبقهم :
في وادي حلفا، رفض المواطنون فتح مركز لمليشيا البراء، فردّت حكومة فلول الكيزان في بورتسودان بقطع الكهرباء عن المحلية،علما بان هذه الكهرباء تعويض تدفعه مصر بموجب اتفاقية السد العالي التي شردت النوبيين طوال الستون عاما الماضية فجاء الرد الشعبي حازمًا:
إغلاق للطرق، وتباشير عصيان مدني! وتراجع مذل لسلطة القمع.
الكُرْبَة بدأت فعلاً
نعم، “زمان الكُرْبَة” لم يعد وعدًا… بل بدأ يتجسد على الأرض:
** انكسار السلطة الانقلابية في المركز والأطراف.
**توحُّد الجبهات المدنية والمسلحة تحت رؤية لا عسكرية فيها ولا فلول.
**تحوّل وعي المجتمع من انتظار المنقذ إلى بناء البديل.
** انهيار فكرة التوازن بين البندقية والمدنية … لم تعد مقبولة.
خلاصة الموقف
**لا مكان للكيزان ولا لعساكرهم، لا في الخرطوم، ولا في الجزيرة، ولا في وادي حلفا، ولا في بورتسودان.
** الدولة المدنية ليست حلمًا … بل مشروع واضح يتشكّل الآن.
** الجيش يجب أن يُعاد هيكلته كمؤسسة وطنية، لا كسلطة حاكمة.
**كل من انحاز للمدنية بصدق حتى من كان يحمل السلاح له موطئ قدم، إذا التزم بمبادئ الثورة السلمية، الديمقراطية، العلمانية، اللامركزية، والفدرالية.
** لا تفاوض على دماء الشهداء، ولا تراجع عن مطلب الشعب في الحكم المدني الكامل.
ومن لا يعجبه ذلك … فليشرب من مياه البحر الأحمر في بورتسودان !
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة