✍️ محمد هاشم محمد الحسن.
بينما تلفح نيران الصراع المدمر أرجاء السودان، يظهر رئيس وزراء الحرب الدكتور كامل إدريس بخطابٍ حاول أن يظهر فيه بصورة المنقذ والمهندس لمستقبل البلاد. لكن نظرة تحليلية دقيقة لكلماته، وما بين السطور، تكشف عن تناقضات صارخة وتُشير بوضوح لا لبس فيه إلى أنه ليس سوى دمية تُحركها أيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان والقوى الإسلامية المتطرفة، لإعادة تدوير أجندة الحرب وإقصاء تطلعات الشعب السوداني.
لقد كان إدريس، في فترة الثورة، يمجد الثورة والثوار بشدة، بل وقدم خطابات بنفس الأسلوب المفعم بالوعود لكسب ود الشارع والوصول إلى منصب رئيس الوزراء، مما يُشير إلى تلهفه الشديد للمنصب بغض النظر عن السياق السياسي والوطني.
لم يكن مصادفة أن يفتتح إدريس خطابه بـتحية صريحة للقوات المسلحة والشرطة والأمن والقوات المشتركة وكل القوات المساندة للجيش. هذه التحية ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل هي إعلان ولاء مبكر وصريح للجهة التي يمثلها، وتُؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لسان حال البرهان وذراعه السياسي في هذه المرحلة. ففي وقت يئن فيه الشعب من ويلات الحرب، يُعلي إدريس من شأن القوى العسكرية، متجاهلاً معاناة المدنيين وتطلعاتهم للسلام.
النقطة الأكثر إثارة للاشمئزاز والريبة هي حديث إدريس عن القضاء على التمرد والمليشيات المتمردة كـ(أهم الأولويات الوطنية العاجلة). هذا التصريح لا يمثل رغبة في تحقيق السلام، بل هو تصريح حرب بامتياز، ويُفسر بشكل قاطع أن البرهان لا يملك أي رغبة حقيقية في إيقاف نزيف الدم. لو كان إدريس يسعى لوقف الحرب، لكانت أولويته البحث عن حلول سلمية ومسارات تفاوضية، لا تأكيد على الحل العسكري الذي أثبت فشله ودمويته. إنه ببساطة يُكرر ما يُملى عليه من أجندة البرهان، الذي يرى في استمرار الحرب مفتاحاً لبقائه في السلطة، حتى لو كان على حساب تدمير ما تبقى من السودان.
كما أن دعوته الدول الداعمة للتمرد على التوقف عن التخطيط والتمويل والتعاون على تنفيذ ذلك هي محاولة ساذجة للتملص من المسؤولية ولصق تهمة استمرار الحرب بالآخرين. لو كان جاداً في وقف الصراع، لكانت جهوده ستتركز على إيجاد قواسم مشتركة مع هذه الدول للوساطة والضغط على كافة الأطراف لوقف القتال، لا توجيه اتهامات مبطنة تُصعّد من التوتر وتُغلق أبواب الحلول الدبلوماسية. هذه الدعوة، في حقيقتها، تُعد دعماً ضمنياً لاستمرار الحرب، لأنها تُبرر مواصلة الصراع بحجة مواجهة التمرد المدعوم خارجياً.
الأمر الأكثر فضيحة في خطاب إدريس هو صمته المطبق عن الثورة السودانية. هذه الثورة التي قادها الشباب وتصدت لسنوات من الظلم والاستبداد، والتي يطمح الشعب السوداني من خلالها لبناء دولة مدنية ديمقراطية، تم تجاهلها تماماً. هذا التجاهل ليس مجرد سهو عابر، بل هو إشارة واضحة وصريحة إلى أن إدريس مجرد واجهة جاء بها البرهان والقوى الإسلامية، والتي تسعى جاهدة لإعادة تدوير نفسها والعودة إلى المشهد السياسي. إن عدم ذكر الثورة يُؤكد أنه لا يمثل تطلعات الشعب، بل يمثل أجندة النظام القديم الذي يسعى لإعادة فرضه بوجوه جديدة.
ولننتقل إلى حديثه عن الحوار السوداني السوداني الذي لا يستثني أحداً والاستفتاء الوطني الشامل. هذا المصطلح، في قاموس السياسة السودانية الراهنة، هو المدخل الرئيسي لإعادة دمج الإسلاميين ونفايات النظام السابق في العملية السياسية تحت غطاء الحوار السوداني السوداني. إنها عملية إعادة تدوير للوجوه القديمة، يُراد بها إضفاء الشرعية على من أسهموا في تدمير البلاد. هذا الحوار، في حقيقته، هو تكريس لسيطرة البرهان والقوى الإسلامية، وإبعاد القوى المدنية الثورية عن أي دور حقيقي في بناء مستقبل السودان. إنه يُوضح بجلاء أن البرهان غير مستعد لفك ارتباطه بالإسلاميين، وأن إدريس هو الأداة التي تُستخدم لتنفيذ هذه الأوجه المشبوهة.
في الوقت الذي يمجّد فيه القوات المسلحة والميليشيات، لم يأت إدريس على ذكر أي من قوى الثورة المدنية، أو لجان المقاومة، أو أي من القوى التي كانت في صدارة الحراك الثوري. هذا الإهمال المتعمد يُظهر أن أجندته لا تعترف باللاعبين الأساسيين الذين يمثلون نبض الشارع السوداني، بل تُفضل التعامل مع الأطراف التي يحددها البرهان، في محاولة واضحة لتهميش القوى الثورية المدنية التي تُشكل التهديد الأكبر لسلطة البرهان والإسلاميين. هذا الإقصاء الداخلي، إلى جانب الانقلاب واستمرار الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، يقود السودان نحو عزلة دولية متزايدة.
فتأكيد إدريس على تعزيز علاقات السودان الخارجية مع دول الجوار والعالم، بينما تُغرق ممارسات النظام البلاد في عزلة، يُعد مجرد أمنيات وردية لا تعكس الواقع السياسي والدبلوماسي المرير. البرهان يحتاج إلى واجهة دبلوماسية لتحسين صورته دولياً، وكامل إدريس يُقدم نفسه كشخصية قادرة على ذلك، لكن تصريحاته الداخلية التي تدعم الحرب تُناقض أي مسعى حقيقي لتحسين العلاقات الخارجية.
الأمر لا يتوقف عند السياسة والحرب، بل يمتد إلى حديث إدريس عن الاقتصاد ومعاش الناس ودعوته إلى استنفار الإمكانيات الداخلية لزيادة الصادرات وتفعيل الصناعة والزراعة، لا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة. كيف يمكن لإدريس أن يتحدث عن هذه الطموحات الاقتصادية، بينما البلاد غارقة في حرب مدمرة أدت إلى انهيار البنية التحتية، ونزوح الملايين، وشلل اقتصادي شبه كامل؟ هذا الحديث يُشكل تناقضاً صارخاً بين الواقع المزري والخطاب المنمق. الدعوة إلى استنفار كافة الإمكانيات الداخلية في ظل هذه الفوضى تُشبه محاولة بناء منزل على أرض زلزال، وهي دعوة جوفاء تهدف إلى إظهار أن هناك خطة اقتصادية بينما الأولوية الحقيقية هي للحرب وإهدار الموارد عليها.
ويتجاوز هذا التناقض الحديث عن إعادة الإعمار وجبر الضرر وإعادة هيكلة الدولة، دون أن يُشير إلى من تسبب في هذا الدمار، أو من يتحمل مسؤولية الأزمة الحالية. هذا الحديث بدون تحديد الجناة هو محاولة تبييض للمسؤولين عن الكارثة، ويُفرغ هذه المفاهيم من معناها الحقيقي. لا يمكن جبر الضرر دون محاسبة من تسبب فيه، كما أن تعهده بـ (تحقيق العدالة والتنمية المستدامة، والكهرباء، والمياه، والصحة، والتعليم، ومكافحة الفساد والفقر) لا يعدو كونه شعارات فارغة في ظل الواقع الحالي.
كذلك، يبرز تناقض فج في حديثه عن بناء دولة القانون ومؤسساتها (النيابة، القضاء، المحكمة الدستورية) في ظل سلطة عسكرية غير دستورية، تُعطل المؤسسات الدستورية، وتُعتقل الناشطين، وتُقمع الحريات. كيف يمكن بناء مؤسسات قانونية حقيقية في بيئة تغيب فيها سيادة القانون الفعلي؟ هذا الحديث عن القانون هو مجرد تورية لتبرير الحكم العسكري، أو لإنشاء مؤسسات شكلية تُشرّع قرارات البرهان، الذي يحتاج لغطاء (قانوني) صوري لإدارة البلاد.
في الختام، يُشكل خطاب كامل إدريس دليلاً قاطعاً على أنه ليس أكثر من دمية في يد البرهان. فكل نقطة في خطابه، من تحية القوات المسلحة، إلى التأكيد على الحرب، مروراً بتجاهل الثورة، وصولاً إلى الحديث عن الحوار السوداني السوداني الموجه، وصولاً إلى وعوده الاقتصادية والقانونية الجوفاء، تُؤكد أنه وجهٌ آخر لعملة البرهان الدموية. إن هذا الخطاب يُرسخ فكرة أن إدريس يضع مصالحه الشخصية والوصول إلى المنصب فوق تطلعات الشعب السوداني وآلامه. إنه خطابٌ لا يُبشر بالسلام أو العدالة، بل يُنذر باستمرار الصراع، وتكريس سلطة العسكر والإسلاميين، وتغييب إرادة الشعب السوداني. إنه يُرسخ فكرة أن السلام الحقيقي لن يأتي إلا بإسقاط هذه الواجهة ومن يُحركها.
المصدر: صحيفة الراكوبة