غزة جرحٌ في خاصرة العلاقات الدولية .. وموازين القوى تتغير

أبرز مؤرخون ومثقفون وباحثون، السبت، أن حرب الإبادة الجماعية، التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، “تفتح صفحة جديدة مقلقة في العلاقات الدولية، وهي تدخل في صميم إعادة تشكيل هذه العلاقات”، معتبرين أن “المواقف التي عبّرت عنها كل دولة إزاء المجازر والمآسي المستمرة في القطاع مرآة عاكسة لأوضاعها الداخلية”.
وأكدّت القراءات المُقدّمة بشأن هذه الحرب، خلال لقاء نظمه مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات حول “حرب الإبادة على غزة.. فصل جديد من المسلسل الاستعماري”، مع المؤرخة الفرنسية الفلسطينية، ساندرين منصور، والمحاضرة الفرنسية بمعهد العلوم السياسية بباريس، أنييس لوفالوس، استحالة فهم العدوان على غزة دون العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر.
صفحة مقلقة
أنييس لوفالوس، المثقفة الفرنسية ونائبة رئيس معهد الدراسات للأبحاث والدراسات للمتوسط والشرق الأوسط، استحضرت في مداخلتها أن “الدول الغربية، أي أوروبا والولايات المتحدة، باستثناء إسبانيا وأيرلندا وآيسلندا، هي الوحيدة التي لم تعترف بالدولة الفلسطينية”، مُوضّحة أن “الدول غير المعترفة هي الأعضاء بمجموعة السابعة المفترض أنها تقود العالم”، قبل أن تتابع “هنا يتضّح في هذه الملاحظة أن الهوة، التي كانت موجودة منذ زمن طويل، غدت مرعبة في ضوء المآسي والمجازر المستمرة في فلسطين”.
وأردفت قائلة: “العالم دخل اليوم عصرا جديدا مع تحولات جذرية في موازين القوة”، مضيفة بضمير النحن (الفرنسيون) “نشهد تغيرات هذه التغيرات على أن القضية الفلسطينية، وما يعانيه الفلسطينيون، يدخل في صميم إعادة تشكيل العلاقات الدولية في هذا الصدد”.
كما تساءلت لوفالوس، وهي تتسلّح ببوصلة القانون الدولي، عن “دواعي سماح دولة كفرنسا، موقعة على نظام روما، بتحليق طائرة نتنياهو فوق مجالها الجوي، رغم أن ثمّة مذكرة توقيف صادرة في حقّها، وكان يتعيّن على الجيش الفرنسي طبقا لهذا القانون اعتراض الطائرة وإجبارها على الهبوط”.
الإخفاء والتجريد
وبعد أن أكدّت مرة أخرى أن “هذا يفتح صفحة جديدة مقلقة في العلاقات الدولية”، قالت لوفالوس إن السؤال المثار الآن هو: “كيف يمكن إقامة نظام دولي جديد يحترم حقوق الشعوب، في الوقت الذي لم يعد هناك سوى قانون الغاب؟”، مضيفة “هنا يأتي دور الشعوب والمجتمعات في مواجهة هذا الانحراف الخطير”.
المحاضرة في معهد العلوم السياسية بباريس برهنت أن كلمتي “التخفّي” و”التجريد من الإنسانية” تعتبران محوريتين في تفسير مذابح غزة؛ إذ أكدّت أن “إسرائيل بذلت، منذ ما قبل 7أكتوبر، كل ما في وسعها لجعل الفلسطينيين غير مرئيين عبر بناء الجدار الذي يشق غزة، ومع الحاجز الأمني الذي يسوّر قطاع غزة”.
بهذه الطريقة، أردفت الباحثة، “لم يعد الإسرائيليون يرون الفلسطينيين”. وخاطبت الساسة الإسرائيليين قائلة: “إذ لم تعودوا ترونهم، فإن تجريدهم من إنسانيتهم يصبح سهلا جدأ لأنكم لم تعودوا ترون من يقف أمامكم أو بجانبكم، وبما أنكم لا ترونه، فهو لم يعد إنسانا”، لافتة إلى أن “هذا هو ما يؤدي إلى كل المذابح الجارية التي لا تحرّك بعد المجتمع الإسرائيلي”.
مرآة عاكسة
أما ساندرين منصور، المؤرخة والباحثة بمركز الأبحاث في التاريخ الدولي والأطلسي بجامعة نورث، فأكدّت أن “القضية الفلسطينية أصبحت مرآة تعكس الواقع الداخلي لكل دولة؛ بل تطرح أسئلة جوهرية عن كيفية اشتغالها داخليا”، لافتة إلى أن “العالم الذي نعيش فيه اليوم فقد إنسانيته، ليس فقط تجاه الفلسطينينين، بل تجاه مشاعرنا (كشعوب) أيضا”.
ونبّهت منصور، خلال مداخلتها، إلى أن “ما ترتكبه إسرائيل لا يهم فقط غزة، بل يشمل الأردن والقدس أيضا بشكل متزامن”، مُبرزة أن “القضية الفلسطينية تجد جذورها في القرن 19 عندما قررت الحركة الصهيونية إقامة هذا المشروع الاستعماري الأوروبي”.
وذكّرت في هذا الصدد أن الخطط الموضوعة من قبل الحركة “نسجت قبل حدوث المحرقة النازية”، مشيرة إلى أن “هذا المشروع في جوهره استعماري أوروبي، قائم على نفس عقلية “الرجل الأبيض” الذي يتمثل نفسه مسؤولا عن “تحضير” الشعوب الأخرى”.
لذلك ترى المؤرخة الفلسطينية أننا “أمام مشروع استعماري استيطاني، لم يتغير جوهره منذ القرن التاسع عشر، وإنما تطورت أدواته فقط”، مشيرة إلى أننا “نشهد اليوم مراحله الأخيرة عبر عمليات التهجير المنظمة التي تستهدف الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة”.
اختبار حقيقي
من بين الشخصيات المناضلة السياسية والثقافية التي تدخلت خلال الندوة ذاتها سيون أسيدون، عضو حركة مقاطعة البضائع الإسرائيلية “بي دي إس”، الذي أكد أن “هذه الإبادة الجماعية لم تبدأ اليوم، وليس في عام 1948 حتى؛ فهي فكرة أساسية متجذرة في المشروع الصهيوني”، مضيفا أن “ما يمكن فعله كمواطنينن هو مقاطعة المنتجات الإسرائيلية”.
وقال أسيدون: “ما سمعناه للمرة الأولى بشأن تفكير الاتحاد الأوروبي في مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل يؤشر على أننا دخلنا فعلا في مجال العقوبات ضد إسرائيل”، مضيفا “ما يتعيّن أن نركز عليه هو ماذا فعلنا نحن في ظل استمرار التطبيع، على أن دولتنا مطالبة بلعب دور أساسي في مواجهة حرب الإبادة”.
نبيلة منيب، النائبة البرلمانية عن الحزب الاشتراكي الموحد، قالت إن “ما نشهده اليوم من مجازر مستمرة ضد الشعب الفلسطيني هو اختبار حقيقي للضمير الإنساني العالمي”، مؤكدة أنها تثير غضب الملايين من العالم، وإحباط البرلمانيين لأنهم لم يتمكنوا من احتضان هذه المناقشة الجادة في البرلمان.
وأضافت أن “السؤال المصيري الذي يطرح نفسه اليوم أمام استمرار الصراع في سفك الدماء البريئة هو: هل نحن أمام بداية النهاية، أم نهاية القضية الفلسطينية في عالم فقد إنسانيته، وتحكمه القوة والهيمنة التكنولوجية، ويغيب عنه تماما احترام القانون الدولي والحقوق الإنسانية الأساسية”.
المصدر: هسبريس