اخبار السودان

توبة “الكيزان” : حين تصبح التوبة مستحيلة أخلاقيًا

حسن عبد الرضي الشيخ

 

من أطرف النكات وأشدّها مرارة في الذاكرة السودانية:

الحجاج السودانيون واقفون أمام الحجر الأسود، أحدهم يبكي بحرقة، فيسأله رفاقه : “مالك؟” فيجيب : “لكن إنتو ما زيي!”

ليست هذه النكتة محض دعابة، بل مرآة دامعة لوجدان أمة استُبيحت وسُحقت كرامتها باسم الدين. إنها تختزل، بمرارة فادحة، شعورًا جماعيًا بأن بعض الجرائم لا تمحوها الدموع، ولا تُكفِّر عنها مشاهد التباكي المسرحي على أطلال الأخلاق.

 

حين دعوتُ، في مقال سابق، الإسلاميين إلى التوبة، كانت الدعوة تنبع من صدق النية، وترتكز على أُسس إنسانية وشرعية. لكن الواقع لا يرحم، والتاريخ لا تُخدعه العواطف. فالتوبة ليست خطابًا عاطفيًا ولا مناسبةً موسمية، بل موقف أخلاقي صارم لا يكتمل إلا بالاعتراف والندم والإقلاع الصادق. وإذا فُرّغت من شروطها، غدت محض تورية وقحة.

 

والسؤال الذي لا مهرب منه : هل الكيزان أصلًا أهلٌ للتوبة؟

الإجابة، دون مواربة : لا.

ولا يُعدّ ذلك تحاملًا أو شططًا، بل نتيجة منطقية لسجلٍّ فاجع، موثق بالدم والدموع:

ثلاثة عقود من القهر باسم الشريعة، والنهب باسم التمكين، والقتل والتعذيب والتشريد باسم الله.

فأيّ توبة تُرجى ممن جعل الدين سلّمًا نحو السلطة، واستبدل التقوى بالنفاق، والعدالة بالقهر، والولاء الوطني بالخيانة المؤسّسة؟

 

الكيزان لم يكونوا تيارًا سياسيًا عابرًا، بل مشروعًا تخريبيًا ممنهجًا لتدمير الدولة والدين معًا.

اتخذوا من القرآن ذريعة، ومن الشريعة واجهة، بينما جوهرهم تحالف قُدّ من الكذب والبطش والانتهازية.

باسم الإسلام، شرعنوا الظلم، وقدّسوا الطغيان، وجرّموا الحق.

أقاموا دولة لا تعرف الله إلا أداة ترهيب، ولا تعرف الشريعة إلا قناعًا لخداع البسطاء.

 

وها هم اليوم، بعد أن أُطيح بهم، يعودون لا تائبين، بل متحوّلين.

من الزنازين إلى الشاشات.

من الوزارات إلى غرف الدعاية الإلكترونية.

تنظيم سريّ محكم، يُدير غرفًا مغلقة من تركيا وماليزيا وبعض دول الخليج، يوزّع الأدوار بدقة أمنية بين كتّاب، ومصممين، وموجّهي رأي، وحسابات وهمية تتخفّى وراء قناع “المواطن البسيط”.

 

الأدوات تغيّرت، لكن المنهج كما هو :

 

غرف واتساب وتيليغرام محكمة الإغلاق بإشراف استخباراتي.

 

سرديات خادعة تمجّد عهد الإنقاذ، وتُشيطن الثورة، وتروّج لنوستالجيا مزيفة عن “زمن الرغيف” و”الأمان”، وتُحاول اختزال الدين في الجماعة.

 

محتوى مفبرك، ممول، ومعدّ بعناية لإرباك الوعي، والتلاعب بالعقول، واستهداف النفوس المُنهكة.

 

محاولات ممنهجة لاختراق قوى الثورة، بزرع الانقسامات، وتسريب المعلومات، وتأجيج الفتن.

 

هؤلاء لا يتوبون … بل يتنكرون.

لا يعترفون … بل يُنكرون.

لا يُصلحون … بل يُعيدون إنتاج الخراب بأساليب ناعمة.

 

وبين “توبة الكيزان” وواقعهم، يتجلى الكذب في أبلغ صوره:

مشروعهم ليس توبة، بل تكتيك مرحلي للعودة من نافذة الغفران بعد أن طُردوا من باب العدالة.

 

إنه استعمار ديني مقنَّع، يُفرغ الخطاب الإسلامي من روحه، ويُعيد تشكيله كأداة سلطوية.

ومن عمق المأساة تنبثق النكتة السوداء كصرخة وعي:

رجل يبكي أمام الحجر الأسود، يسأله أحدهم: “مالك؟”

فيجيب: “انتهكت عرضًا، يوم الجمعة، في نهار رمضان، داخل الجامع!”

فيردّ الآخر: “الراجي مغفرتك؟ التراب دا في خشمو!”

 

نكتة صادمة، لكنها فاضحة.

إنها تختزل ما يعجز البيان عن قوله: بعض الذنوب لا تُغتفر، لأن أصحابها لا يعترفون، ولا يندمون، ولا يقلعون.

 

التوبة الحقة ليست شعارًا، بل التزام.

فعل لا ادّعاء.

ندم لا خطاب.

إقلاع لا مراوغة.

 

والكيزان لم يتوقفوا عن الكذب طرفة عين، بل جعلوه بنية تنظيمية، وأسلوب تواصل، وسلاحًا أيديولوجيًا.

وصدق الحديث النبوي الشريف:

“ما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابًا.”

 

لا غفران لمن يُصرّ على الجريمة.

وحديث “توبة الكيزان” يشبه محاولة غسل يد الذئب بعد أن التهم ضحيته.

 

الغفران ليس حنينًا عاطفيًا، بل قيمة أخلاقية تُمنح لمن صدق في اعترافه، وتجرد في ندمه، وقطع صلته بالماضي.

 

أما من يبدّل أدوات الخراب دون أن يُنهي مشروعه، فلا يُسامَح، بل يُحاكم.

 

الشعب السوداني اليوم أكثر وعيًا من أن يُخدع مرة أخرى.

لقد عرف عدوَّه، وتعلم من جراحه.

ولن يعود إلى قيده باسم الله.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *