الجنجويد: من التوظيف السلطوي إلى التموضع السياسي

دكتور الوليد آدم مادبو
*“التمسك بالتاريخ بوصفه قدَرًا هو أحد أخطر أشكال التنميط؛ لأنه يُحوّل الظلم من حدث قابل للنقد إلى حقيقة لا يمكن تغييرها.”*
إدوارد سعيد، الاستشراق
إن محاولة فهم ظاهرة الجنجويد بوصفها “ظاهرة إنسانية عالمية” متجذّرة في التراث البشري، كما ورد في بعض المقولات التي تم تداولها مؤخرًا دون التعرف على هوية كاتبها، تمثل انزلاقًا خطيرًا نحو الجوهرنة التاريخية (essentializing through historicizing). فباسم المقارنة الحضارية يتم سحب الظاهرة من سياقها السياسي والاقتصادي المعاصر، وتقديمها كاستمرارٍ لسلوك بدائي متجذر في “الهامش البشري”، وكأنّ الجنجويد مجرد إعادة إنتاج للتتار أو الفاندال أو المغول، يمرون في الفضاء التاريخي كقدر لا يُردّ، وكأن السودان مسرح أبدي للفوضى، لا فكاك منه.
*غير أن هذه القراءة المسطحة تتجاهل تمامًا الشروط البنيوية التي أدت إلى نشوء وتضخّم هذه الظاهرة في السودان الحديث.* فهي ليست نتيجة فورة عرقية، ولا تعبيرًا عن “الطبيعة البدوية الجامحة”، بل نتاج مباشر لتحولات الدولة ما بعد الاستعمار، التي أعادت إنتاج المركزية القهرية والتهميش العنيف في هوامشها الجغرافية والاجتماعية. لقد تم تصنيع الجنجويد سياسيًا، وتمويلهم وتسليحهم وتأطيرهم أيديولوجيًا، ضمن مشروع سلطوي واضح، هدفه الأساس تفكيك حركات المقاومة في دارفور، وتجفيف منابع التمرد الاجتماعي والثقافي. وكما وصف ميشيل فوكو أدوات “القوة الحيوية” (biopower)، فقد استخدمت الدولة الجنجويد للضبط والتأديب والإبادة، لا كخارجين عن الدولة، بل كامتداد لها.
إن القول بأن “الجنجويد ظاهرة بشرية متكررة” هو في جوهره خطاب نزع للسياق، يحذر منه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، حيث أوضح أن *أخطر ما يفعله المثقف هو تقديم العنف والمظلومية في صورة قدر ثقافي أو جغرافي.* فبهذا المنطق، يتحول الجنجويد من كيان وظيفي داخل المنظومة السلطوية إلى كائنات فوضوية، خارجة عن التاريخ، عن الدولة، عن القانون، وعن المسؤولية. وتصبح الجرائم التي ارتكبت في دارفور وجنوب كردفان والخرطوم، مجرد نتوءات عشوائية في سردية الغابة، لا ما هي عليه: مشروع عنف منظم ذو بُعد سياسي طبقي عرقي واضح.
بل إن هذا النوع من الخطاب يُعيد إنتاج منطق الاستعمار المعرفي، في تصوير شعوب الجنوب على أنهم “همج بالفطرة”، لا يصنعون تاريخهم بل يُستدرجون إليه. إنها الأطروحة ذاتها التي فندها فرانز فانون، حين بيّن أن *العنف الاستعماري لا يقتصر على احتلال الأرض، بل يحتل الوعي، ويُنتج نخبًا فكرية محلية تبرر القمع،* لا باسم المصلحة، بل باسم “الهوية” و”الطبيعة” و”التراث”.
هنا تكمن خطورة الخطاب التأصيلي: أنه يخلط بين التحليل والتبرير. فبدل أن يُفكك الجنجويد كظاهرة اجتماعية معقدة نتجت عن التحالف بين السلطة المركزية والإقطاع العسكري، يُقدَّم لنا وكأنهم “صدى تاريخي”، يتكرّر حيثما كان الجن والجيم والجواد. وهكذا يُمحى الجاني، ويُعاد تشكيل الضحية كجزء من مسرحية لا مسؤول فيها ولا حساب.
غير أن *القراءة الأكثر عمقًا لا تقف عند لحظة الاستخدام السلطوي للجنجويد، بل تتجاوزها إلى لحظة التحوّل اليوم:* حين بدأ هؤلاء الذين صُنِعوا في هوامش الدولة، يتجاوزون منطق التوظيف العسكري إلى التموضع السياسي. لقد بدأت هذه الجماعة، بفضل المواجهة الأخيرة مع العصابة الإنقاذية، في إدراك مكانتها خارج المركز، لا بوصفها أداة، بل كفاعل. وبهذا المعنى، تحوّل بعض أفرادها من مجرّد مرتزقة إلى ساعين بصدق أو بمصلحة إلى تحالفات ريفية جديدة، وإلى إعادة تشكيل معادلات السلطة.
هنا تبرز المفارقة: فظاهرة الجنجويد التي ولدت في أحشاء الدولة السلطوية، قد تكون في طريقها إلى التحلل من تبعيتها القديمة، لتصبح فاعلًا ضمن صراع جديد حول الهوية الوطنية، والمواطنة، وتوزيع الموارد. وهذه مرحلة تتطلب قراءةً جديدة، لا تكتفي بالإدانة ولا تسقط في التبرير الواهي (المتمثل في عبارة “عرب الشتات”)، بل تسعى لفهم الظاهرة في ضوء توازنات القوة الاجتماعية، وتركيبة الهوية، وخطاب المقاومة.
*ختاماً*، إننا إذ نُعيد النظر في ظاهرة الجنجويد، مطالبون بتفكيكها لا كمجرد فئة مقاتلة، بل كمؤشر على أزمة الدولة السودانية في علاقتها بهوامشها، وعلى فشل المشروع الوطني في استيعاب التعدد والتنوع والتهميش. وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج ظواهر أكثر عنفًا، لا لأنها متأصلة في “ثقافتنا”، بل لأننا فشلنا في مواجهة بنيتنا السياسية نفسها.
المصدر: صحيفة الراكوبة