اخبار السودان

ترامب بالشرق الأوسط مقايضات النفوذ

✍️ محمد هاشم محمد الحسن

لم تكن زيارة دونالد ترامب الأخيرة للشرق الأوسط مجرد جولة دبلوماسية عابرة، بل كانت تعبيرًا مكثفًا عن فلسفته السياسية (أمريكا أولاً)، متجسدة في دبلوماسية المقايضة الصارمة. هذه الجولة، التي تركزت على دول الخليج، كشفت عن إعادة ترتيب لأولويات واشنطن تحت مظلة ترامب، وتحولًا لافتًا عن مسار التحالفات الأمريكية التقليدية في المنطقة.

جوهر هذه الزيارة كان اقتصاديًا بامتياز، تجلى في الإعلان عن استثمارات خليجية هائلة في الولايات المتحدة، بلغت أوجها بتعهد إماراتي بـ 1.4 تريليون دولار على مدى عقد. هذه الأرقام ليست مجرد صفقات، بل هي دلالة على استراتيجية براغماتية بحتة من جانب ترامب، فبدلاً من التركيز على نشر القيم أو الالتزامات الدفاعية التقليدية، يسعى ترامب لجذب رؤوس الأموال الضخمة لتعزيز اقتصاده المحلي.

الشراكة الإماراتية في الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات (مع خطط لاستيراد 500 ألف رقاقة Nvidia سنوياً) تبرز هذا التوجه نحو بناء اقتصاد معرفة خليجي يتكامل مع المصالح التكنولوجية الأمريكية، في سباق مع النفوذ الصيني المتنامي. هذا التحول يؤكد أن قيمة الحليف في قاموس ترامب تقاس بمدى قدرته على المساهمة المادية في (أمريكا أولاً).

تُظهر جولة ترامب هذه توجهًا أمريكيًا نحو صياغة شراكات استراتيجية جديدة تتجاوز التحالفات التقليدية مع الاتحاد الأوروبي. فبينما لطالما انتقد ترامب الشركاء الأوروبيين لعدم كفاية مساهماتهم الدفاعية أو ممارساتهم التجارية، يجد في دول الخليج شركاءً أكثر استعدادًا للاستثمار المباشر في الاقتصاد الأمريكي، لا سيما في قطاعات المستقبل مثل التكنولوجيا المتقدمة. هذا لا يعني استبدال كامل للعلاقات الأوروبيةالأمريكية، بل هو تغيير في الأولويات والتوقعات. مردود ذلك على العلاقات الأوروبيةالأمريكية قد يكون تزايد الشعور بالتهميش لدى بعض العواصم الأوروبية، ودفعها لإعادة تقييم مدى اعتمادها على الولايات المتحدة في مجالات معينة، مما قد يدفعها لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية. ترامب، بمنهجه (التجاري) للعلاقات الدولية، يبحث عن أقصى عوائد ممكنة لأمريكا، وهذا ما يبدو أنه يجده حاليًا في الشرق الأوسط.

تكتسب هذه الصفقات الخليجية أبعاداً أعمق في سياق الصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي. إن استثمارات دول مثل الإمارات والسعودية وقطر في قطاعات التكنولوجيا الأمريكية الحيوية، وخاصة الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، تخدم استراتيجية واشنطن في عزل بكين تكنولوجياً أو على الأقل تقليل اعتماد الشركاء الرئيسيين على التكنولوجيا الصينية. هذه الدول الخليجية، التي حافظت على علاقات اقتصادية قوية مع الصين، أصبحت ساحة لتنافس القوى العظمى. من جانبها، لا تعتبر دول الخليج أن هذه الصفقات نوعًا من الابتزاز من قبل ترامب، بل هي صفقات استراتيجية ذات فائدة متبادلة. هي تضمن لها الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية المتطورة، وتعزز أمنها عبر الروابط الاقتصادية مع واشنطن، وتخدم رؤيتها الاقتصادية لما بعد النفط، بينما تستفيد أمريكا من تدفق الاستثمارات وتأمين حصتها في أسواق التكنولوجيا المستقبلية.

لا تقتصر تداعيات هذه الشراكات على العلاقات الثنائية أو التنافس العالمي فحسب، بل تمتد لتشمل تأثير النفوذ المتزايد لدول الخليج في القارة الأفريقية. فالدعم المالي والتقني الذي تحظى به هذه الدول من واشنطن، إلى جانب ثرواتها الهائلة، يمنحها قدرة أكبر على تعميق استثماراتها الاقتصادية والسياسية في أفريقيا. من الموانئ الاستراتيجية على البحر الأحمر، إلى المشاريع الزراعية والتحكم في الموارد، باتت دول مثل الإمارات والسعودية لاعبين رئيسيين قادرين على تغيير المشهد السياسي والاقتصادي الأفريقي، مدفوعين بمصالح أمنية (مثل مكافحة الإرهاب والقرصنة)، واقتصادية (مثل الأمن الغذائي والتوسع الاستثماري)، وحتى بمصالح جيوسياسية في صراع النفوذ الإقليمي. هذا يجعلها أطرافاً رئيسية في أي حلول للأزمات الأفريقية، كما يتجلى في ملف السودان، الذي يقع ضمن دائرة اهتمام ونفوذ الإمارات بحكم دعمها أحد أطراف الصراع، مما يعكس مدى عمق وتوسع تأثيرها.

إن غياب إسرائيل ومصر عن جدول أعمال هذه الجولة هو نقطة تحول تحليلية فارقة، تعكس تراجع الدبلوماسية التقليدية القائمة على المساعدات والعلاقات التاريخية لصالح الدبلوماسية القائمة على المكاسب المباشرة والتوافق الاستراتيجي.

▪︎إسرائيل: ربما تُعزى أسباب الغياب إلى تضارب مصالح حاد بين نتنياهو وترامب. تصريحات نتنياهو (المزعومة) حول فصل الشراكات الدفاعية الأمريكيةالإسرائيلية واستقلالية إسرائيل في حربها ضد الحوثيين وغزة قد تكون مستفزة لترامب الذي يرى نفسه داعمًا أساسيًا. الأدهى هو التقرير عن تفاهمات ترامب مع الحوثيين بمعزل عن إسرائيل، وتصريحه بإمكانية الاعتراف بفلسطين كدولة ذات سيادة. هذه النقاط لا تضع ترامب في موقع التحدي العلني لإسرائيل فحسب، بل تُظهر رغبته في إعادة خلط الأوراق بطريقة تخدم مصالحه الأوسع، حتى لو تعارضت مع الأجندة الإسرائيلية الراهنة. زيارة إسرائيل في هذا التوقيت لن تخدم أجندة ترامب لـ(الانتصارات السهلة).

▪︎ مصر: تُعد مصر حليفًا تاريخيًا رئيسيًا، لكنها تفتقر إلى الملاءة المالية الكافية لتقديم الصفقات الضخمة التي يبحث عنها ترامب. رفضها القاطع لصفقة القرن وتهجير سكان غزة إلى سيناء/الأردن، إلى جانب تراجع نفوذها الإقليمي مقارنة بقوى خليجية صاعدة، وتدهور أوضاعها الاقتصادية، كلها عوامل تجعلها أقل جاذبية في سوق ترامب السياسي. الدبلوماسية الترامبية ليست مبنية على المساعدات طويلة الأمد، بل على المعاملات ذات العوائد السريعة والواضحة.

خاتمة:
إن جولة ترامب هذه ليست مجرد زيارة، بل هي إعادة تشكيل واقع للتحالفات الأمريكية في الشرق الأوسط. إنها تعكس تحولاً من نموذج الشراكة القائمة على القيم أو الالتزامات التاريخية، إلى نموذج (شراكة المستثمر) حيث يُقاس الولاء بالنفوذ المالي والقدرة على تلبية الأجندة الاقتصادية الأمريكية. هذه الديناميكية الجديدة ستترك بصماتها على مستقبل المنطقة، وتُعيد تعريف أدوار اللاعبين الرئيسيين فيها.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *