عمران غزة بين الإبادة وإعادة التشكل: قراءة سياسية معمارية للمحو والمقاومة

أمد/ حين يتحول العمران من حاضنة للذاكرة إلى هدف في مرمى النسيان، تصبح المدينة ساحة مواجهة أخرى لا تقل ضراوةً عن الجبهات العسكرية. لا يقتصر العنف في الحرب على الخسائر البشرية أو تدمير البنى التحتية، بل يمتد ليطال الذاكرة، والهوية، والمكان ذاته. ففي الحروب الحديثة، لا يُستهدف العمران بوصفه مجرد كتلة مادية، بل باعتباره تجسيدًا حيًا للثقافة، والهوية، ورمزًا صامتًا للبقاء والمقاومة. لذا، يغدو في صميم الصراع على الذاكرة والمكان.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الحالة العمرانية في قطاع غزة كنموذج دالّ على استهداف الذاكرة الجمعية من خلال تدمير المكان، وتحليل تموضع العمران الفلسطيني بين الإبادة وإعادة التشكل، ضمن سياق صراع استعماري يسعى إلى تفكيك الإنسان والمكان معًا.
الفضاء العمراني كذاكرة جمعية
الفضاء العمراني ليس محايدًا، بل هو نتاج تراكمي لعلاقات اجتماعية، وسياسية، وثقافية تتجسد في الأبنية والفراغات. وفقًا لعالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس (Halbwachs, 1992)، فإن الذاكرة الجمعية تتجسد في المكان، وتنمو داخل الفضاء المعاش، حيث يشكّل الفضاء إطارًا ماديًا تستند إليه الجماعة في تذكّر ماضيها وتعزيز هويتها. بناءً عليه، فإن استهداف الفضاء العمراني لا يقتصر على تدمير البنية، بل يشكل محاولة لمحـو الذاكرة، وفكّ ارتباط الجماعة بتاريخها ووجودها.
في السياق الفلسطيني، وتحديدًا في غزة، لم يكن تدمير العمران مجرد نتيجة عرضية للعمليات العسكرية، بل جزء من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى تفكيك البنية الثقافية والاجتماعية. تحوّلت البيوت والمساجد والمكتبات والمراكز الثقافية وحتى الشوارع إلى رموز حية للهوية، وأصبح استهدافها وسيلة لتمزيق هذه الرموز وإعادة تشكيل الرواية وفق منطق القوة.
غزة: حين يصبح الإعمار شكلاً من أشكال المقاومة
تعاني غزة في كل عدوان من تدمير منهجي يتجاوز “الأضرار الجانبية” ليبلغ حدود الإبادة المكانية. لكن في المقابل، ينبثق فعل الإعمار كأحد أبرز أوجه المقاومة. هنا لا يكون البناء مجرد استجابة طارئة، بل فعلًا رمزيًا لاستعادة الكرامة وتأكيد الوجود. يشير المعماري إيال وايزمان (Weizman, 2012) إلى أن تدمير العمران في فلسطين يشكّل “استراتيجية سياسية” تهدف إلى إعادة تشكيل الفضاء وفق شروط السلطة المحتلة، في حين يشكّل الإعمار الذاتي رفضًا لتلك الشروط.
إعادة ترميم بيت مهدوم، أو تثبيت حجر في موقعه السابق، يصبح فعلًا سياسيًا بامتياز. في غياب العدالة الدولية، يتحوّل الفعل العمراني إلى وسيلة توثيق للذاكرة، وتصبح الخرائط المعمارية بمثابة شهادات على الجريمة.
الإبادة الرمزية ومحو المشهد البصري
لا تقتصر الإبادة العمرانية على الهدم الفيزيائي فحسب، بل تمتد لتشمل محو المشهد البصري الذي يشكّل هوية المدينة. فحين تُزال المعالم المعمارية التاريخية وتُستبدل بمبانٍ حديثة باهتة وخالية من الجذور، يفقد المكان جزءًا من ذاته. يرى إدوارد سعيد (Said, 1994) أن “الاستعمار لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يسعى للهيمنة على التمثيلات والمعاني”.
في غزة، يؤدي التكرار القسري للإعمار بعد الدمار، مدفوعًا بضيق الوقت وضعف التمويل، إلى إنتاج عمران هشّ، مؤقت، ومفتقر إلى الهوية البصرية. وتنعكس هذه الحالة على أزمة أكبر تتعلق بالذاكرة والهوية. لذلك، فإن إعادة إنتاج المشهد البصري يجب أن تُفهم ضمن إطار النضال الثقافي والسياسي، لا فقط كعملية هندسية.
هوية متجددة في ظل التهديد
رغم محاولات المحو المتكررة، تستمر الهوية العمرانية في غزة بالتشكل، ولكن بشكل متغير يتفاعل مع واقع الحرب والنزوح. لم تعد هذه الهوية تُمثّل استمرارية ماضٍ ثابت، بل باتت تعبيرًا حيًا عمّا يعيشه الناس من صراع وصمود. ففي كل دورة من الهدم والتهجير، تنبثق أشكال جديدة من المقاومة المعمارية، مثل الخيام التي تحوّلت إلى رموز للتهجير القسري، والمدن المؤقتة التي تُعبّر عن إرادة الحياة.
ورغم طابعها المؤقت، فإن الخيام تشكّل في الوعي الجمعي رمزًا للوجود والإصرار على البقاء. تلك الهياكل البسيطة التي تفتقر إلى الجدران الثابتة، باتت تمثل مساحة مقاومة للحذف الكامل، ومحاولة لإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والأرض المحاصرة. إنها لا تستند إلى التصميم بل إلى الإرادة.
في هذا السياق، يصبح أي ترميم أو بناء جديد محاولة لصياغة هوية جمعية جديدة. المعماريون والحرفيون، بل وسكان المخيمات أنفسهم، يعيدون إنتاج رمزية المكان، ويؤسسون لفضاء يتجاوز البنية ليعبّر عن المعنى. التفاعل مع المواد البسيطة، وخلق لغة جديدة للعمران، يشكّلان معًا نموذجًا لمقاومة صامتة، لكنها عميقة التأثير.
الخاتمة: العمران كوثيقة مقاومة
في ظل غياب العدالة الدولية، يتحول العمران في غزة إلى وثيقة مفتوحة للاتهام، وإلى فعل مقاومة يومي. وسط الأنقاض، تتشكل ذاكرة جديدة لا تكتفي بالحزن، بل تعيد تشكيل المشهد وتصرّ على تسجيل الوجود. الحفاظ على الذاكرة العمرانية لا يعني فقط استعادة ما تم هدمه، بل إعادة بناء الوعي الجمعي بالمكان، وبالحق في البقاء فيه. إن توثيق الشواهد الرمزية والمعمارية التي طالها التدمير، هو فعل مقاومة ضد النسيان المفروض بالقوة، وضمان لاستمرارية الذاكرة الفلسطينية الجمعية.