اخبار المغرب

العقيدة الأمنية في عهد الملك الحسن الثاني بين المرتكزات والآليات (1)

 

انصرفت بعض الكتابات الاكاديمية القليلة إلى الاهتمام بالعقيدة الأمنية بالمغرب ومحاولة بلورة تعريفات لها

وهكذا حاول الاكاديمي عبد اللطيف أكنوش تعريفها من خلال اعتبارها ” مجموعة من القواعد من شأنها التنصيص على مجموعة من التدابير.”(1). ولعل هذا التعريف العام يجمل أساس كل عقيدة أمنية لأي نظام سياسي في أي دولة من الدول. لكن يمكن أن نضيف إلى هذا التعريف بأن الجوهر السياسي لأي عقيدة أمنية يقوم بالأساس على ضمان الاستقرار من منظور المؤسسة الحاكمة والتهديدات التي ترى بأنها تمس بهذا الاستقرار، لتبلور الآليات التي ترى بأنها تمكنها من تحييد هذه التهديدات . وبالتالي ، فكل عقيدة أمنية تقوم على ثوابت ومتغيرات تتطور وفق مستجدات البيئة السياسية والاجتماعية الداخلية ، وتحولات البيئة الخارجية من تداعيات حروب وأزمات اقتصادية. وفي هذا السياق ، فقد ارتكزت العقيدة الأمنية بالمغرب خاصة في عهد الملك الحسن الثاني على مركزة المؤسسة الملكية (2) لكل الأجهزة الأمنية المتخصصة في بلورة وتنفيذ السياسة الأمنية بالمملكة. فمباشرة بعد الاستقلال تم إحداث المجلس الأعلى للدفاع الوطني في 9 نونبر 1957 بظهير ملكي، حيث كان الهدف الأساسي من إنشائه “عرض كافة القضايا التي تؤثر على السياسة الدفاعية للبلاد على جلالة الملك والحكومة المغربية وأن كل المقررات المتعلقة بالتسيير العام والتدبير العسكري للدفاع تتخذ من لدن جلالتنا، ويمكن لجنابنا الشريف أن يجمع لهذه الغاية اللجنة العليا للدفاع الوطني”. (3) لكن مركزة هذه الأجهزة الأمنية كان يخضع بالأساس إلى المنظور الأمني الذي كان يتبناه الملك الحسن الثاني في تدبيره للشأن السياسي وتصوراته للتهديدات التي كانت يرى أنها تمس باستقرار الحكم الملكي الذي نعت من بعض معارضيه “بالحكم الفردي “.وكذا بالتهديدات التي كانت تشكلها عليه أنظمة انقلابية في المنطقة العربية كانت ترى أن شرعيتها السياسية تقوم بالأساس على الإطاحة بكل الملكيات بما فيها الملكية المغربية . وبالتالي تركزت العقيدة الأمنية للمملكة ، التي كانت توجه العمل الأمني للدولة على حماية النظام الملكي المتجسد في شخص الملك التي لا تنتهك حرمته دستوريا ومختلف أفراد العائلة الملكية وعدم المس بشرعيته السياسية والدينية مستندة في ذلك إلى ثلاث مرتكزات سياسية أساسية:

1حماية الملكية

تأسست كل الأجهزة الأمنية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن 20 للدفاع في المقام الأول عن “المؤسسة الملكية” وحمايتها مهما كانت الظروف والأحوال باعتبارها مؤسسة جوهرية و”مقدسة”. وفي هذا السياق تمت ملاحقة المعارضين من مختلف التيارات والتنظيمات التي اعتبرها نظام الملك الحسن الثاني تهدد استقراره حيث وظفت أجهزة المؤسسة الأمنية خاصة جهاز الكاب1، في اللجوء إلى أساليب متشددة في التعامل مع معارضي النظام. وقد انعكس ذلك من خلال إسناد رئاسة الأجهزة الأمنية للعسكريين، وتعيين كبار الضباط العسكريين على رأس العمالات والأقاليم والذي لم يكن الغرض منه فقط استتباب الأمن والحفاظ على النظام ، بل كان يتغيا أيضا التحكم في قنوات ومصادر المعلومة السياسية . فإشراف هؤلاء الضباط على مختلف الأجهزة المحلية بما فيها مصالح الشؤون العامة كان يسهل على السلطة المركزية التوصل اليومي بتقارير عن الأنشطة الحزبية والنقابية التي كانت تدور في الأقاليم ، بما فيها أنشطة المعارضة. في حين تم تعيين بعض كبار الضباط العسكريين المقربين من القصر على رأس المديرية العامة للأمن الوطني ، حيث تم تعيين الكولونيل محمد أوفقير كمدير عام للأمن الوطني خلفا لمحمد الغزاوي في يوليوز 1960 . وبعدما رقي إلى رتبة جنرال في غشت 1964 ، جمع بين وزارة الداخلية ، ورئاسة الكاب 1 ، مع احتفاظه بالإدارة العامة للأمن الوطني الشيء الذي مكنه من مركزة مختلف قنوات ومصادر المعلومة السياسية . ليتم بعد فشل محاولتي الانقلاب العسكري التي كانتا تستهدفان الإطاحة بحكم الملك الحسن الثاني تعيين الجنرال أحمد الدليمي على رأس مختلف الأجهزة الأمنية.

2تشتيت المهام الأمنية

عمل الملك الحسن الثاني من أجل الحفاظ على نظام الحكم ، والتحكم في المعطيات الأمنية على بعثرة المسؤوليات الأمنية، على العديد من الأشخاص العسكريين والمدنيين. وذلك بعدما تأكد له أن وضع المسؤوليات الأمنية، بين يدي رجال قلائل، كما كان الأمر مع الجنرال محمد أوفقير بالنسبة للداخلية والجيش والمخابرات، ثم الجنرال أحمد الدليمي بالنسبة للجيش والمخابرات العسكرية يهدد استقرار حكمه وسلطته. وبالتالي فقد لجأ في البداية إلى تفكيك السلطات العسكرية والأمنية، التي كانت بحوزة الجنرال أحمد الدليمي وسلم مقاليدها، إلى أكثر من شخص، حيث عين الكولونيل ماجور محمد الشرقاوي، الذي كان على رأس الحرس الملكي، مديرا لمصلحة أمن القصر، أما مديرية المخابرات العسكرية (لا دجيد) فآلت للجنرال عبد الحق القادري الذي كان مقربا من الملك، ومنصب مُدير الأمن لحميد بخاري بينما أسندت للمديوري مهمة السهر على أمن القصر، في عين الجنرال عبد العزيز بناني، مسؤولا عن قيادة الجيش بالجنوب، وذلك بعدما كانت هذه المسؤوليات مُجتمعة في يد الجنرال احمد الدليمي.غير أن الأهم من ذلك، كان متمثلا في اعتماد الحسن الثاني، على قاعدة ذهبية، تمثلت في زرع الإنقسام بين كبار مُساعديه، حيث عمد إلى ضرب هذا بذاك، عبر شبكة ارتباطات مُعقدة، حيث أصبح كبار المسؤولين المدنيين، في صراعات دائمة التأجج، مع نظرائهم في المجالات العسكرية والأمنية، وأكبر مثال بهذا الصدد، الخصومات والحساسيات الحادة، التي نشأت بين رجال الدرك والجيش وللدلالة على هذا المستوى، الذي وصلت إليه الخلافات الشخصية، بين كبار رجالات الدولة في عهد الحسن الثاني، تجدر الإشارة إلى أن الملك الحسن الثاني كان يوما مُقيما في قصر بوزنيقة يتداول مع بعض مُستشاريه ومساعديه المقربين، في موضوع الصحراء، وكان من بين الحاضرين، الجنرال حسني بنسليمان ووزير الدولة في الداخلية إدريس البصري، وحدث أن اختلف الرجلان في جزئية معينة، وتبادلا كلمات نابية، ليتطور الأمر، إلى حد الدخول في اشتباك بالأيدي، وكان مُلفتا، حسب أحد الذين تابعوا المشهد، أن الحسن الثاني لمعت عيناه حينها من شدة السرور، ذلك أن جهوده كانت قد أثمرت إحدى النتائج الإيجابية وتمثلت في جعل اثنين من كبار رجال الدولة متنافرين إلى ذلك الحد(4)

3 إشاعة الخوف العام بالمملكة

ظلت المسألة الأمنية، ضمن صلب انشغالات الحسن الثاني، على مدى قرابة الأربعة عقود، التي دامها حُكمه. ويبدو من خلال تحليل نوع الحكم الشمولي، الشديد التركيز، الذي أرساه أنه كان أمرا طبيعيا أن تتعدد أجهزة الأمن السرية والعلنية، بمختلف أشكالها وأنواعها، وتتسع تدخلاتها وتتعقد، بشكل جعلها أخطبوطا تنفيذيا، متعدد الرؤوس والأقنعة. ومن المؤشرات الدالة على ذلك، النفوذ المتعاظم، الذي كان لقادة ومسؤولين أمنيين في البلاد. فالجنرال محمد أوفقير بعدما جمع بين إدارة الامن ووزارة الداخلية كان يتحكم في كل صغيرة وكبيرة، من أمور البلاد، لدرجة أن كل الشخصيات في البلاد، مهما بلغ نفوذها وثراؤها، كانت تخطب ود الجنرال القوي، بالنظر إلى السلطات الواسعة، التي كان يحوزها، ولم يكن يقف في وجه قراراته سوى الحسن الثاني، باعتبار أن هذا الأخير، هو مصدر سلطاته، وربما يكون هذا من أهم الأسباب التي دفعت الجنرال أوفقير إلى محاولة الاطاحة بالحسن الثاني مرتين، دون أن يسعفه الحظ في ذلك.ثم جاء من بعده الجنرال أحمد الدليمي، الذي جمع هو أيضا، عدة سلطات عسكرية وأمنية، جعلته الرجل الثاني، بعد الحسن الثاني في هرم السلطة، ليتحول هو عائلته، خلال ما يفوق العشرين سنة إلى أسطورة نفوذ وسلطة وثراء. وكان يكفي أن يتم ذكر اسم الدليمي في مجلس خاص أو عام، ليعم الصمت، فقد كان الرجل مثالا في القسوة والبطش، وهو ما كان بطبيعة الحال، يخدم سياسة الحسن الثاني الأمنية في إشاعة الخوف داخل النخب السياسية. كما كون محمد المديوري، من خلال إشرافه على الأمن الخاص للحسن الثاني، شبكة نفوذ طالت العديد من الأنشطة والمجالات، أكثرها ظهورا، بعض أنواع الرياضات، وعلى رأسها ألعاب القوى، التي كان الآمر الناهي فيها، ناهيك عن الكثير من القطاعات الاقتصادية الريعية، تشمل خاصة القطاع العقاري والخدماتي.لذا فإنه من قبيل تحصيل الحاصل، القول إن الأجهزة الأمنية المغربية، ظلت دائما بمثابة سرداب مظلم شديد العمق، لم يتسن لأحد غير الملك الحسن الثاني، وبعض كبار معاونيه، أمثال الجنرالين محمدأوفقير وأحمد الدليمي ووزير الداخلية السابق إدريس البصري والجنرالين حسني بنسليمان” و”حميدو لعنيكَري”.. وآخرون أقل قيمة وشهرة الغوص فيه ومعرفة الأسرار السياسة للمملكة ، خاصة فترات الاخفاء القسري والتعذيب والتصفية والتي أصبح مصطلحا عليه الآن بـ “سنوات الرصاص”. فحينما كانت مؤشرات المُعارضة، تشرئب بأعناقها، سيما من بعض المكونات السياسية اليسارية، كانت الآلة الأمنية تتحرك بقوة، لتضرب بعنف.وكان طبيعيا، أن يتعاظم الدور الأمني لنظام الحكم، في أجواء عدم الثقة والاستقرار، كما حدث مثلا، بشكل سافر، خلال فرض حالة الاستثناء، على مدى سنوات طويلة.ومما عقد أدوار الأجهزة الأمنية، بمختلف أشكالها وتلاوينها، أن الملك الحسن الثاني، كانت له اعتباراته الشخصية الشديدة الحساسية، حيث كان معروفا عنه هوسه بأمنه الشخصي، واستقرار نظامه، وكان ذلك بمثابة هاجس مُقيم، سيما بعدما كان، أكثر من مرة، قاب قوسين أو أدنى من موت مُحقق. خاصة و أن محاولات الاطاحة بنظامه، كانت من أقرب مُساعديه (الجنرالات المذبوح وأوفقير والدليمي..) لذا أصبحت مسألة الثقة، ممسوحة من ذهنه، وقاموس حكمه، وتوغل، عقب اتخاذه خيار تشديد القبضة الأمنية، على البلاد والعباد، في العمل على استجلاب “الإخلاص” القسري، ليس من أقرب مُساعديه، من كبار رجالات الدولة المدنية والعسكرية، فحسب، بل وتصريف مظاهر الخضوع القهري، في المجتمع بأسره. فقد تحولت كل صغيرة وكبيرة، من الشأن العام، إلى مسألة أمنية، حيث كان يستحضر الهاجس الأمني من طرف المصالح التابعة لوزارة الداخلية( من عمالات ودوائر ومقاطعات …) ، حتى بالنسبة لتأسيس فرقة كرة القدم، في أبسط حي من الأحياء الشعبية أو تأسيس إحدى الجمعيات الثقافية في منطقة من المناطق. فالهاجس الأمني كان حاضرا بقوة . حيث لم يكن الملك الحسن الثاني يتصور أو يقبل إمكانية وجود مغرب آخر، خارج مفهوم “استتباب الأمن” بأي ثمن، ولو على حساب جعل البلاد كلها كتلة من الخوف.(5)

 

هوامش:

 

2 تجدر الإشارة إلى أن التأسيس الحقيقي للشأن الأمني، وبالتالي وضع “عقيدة أمنية” خاصة بالنظام السياسي المغربي، يعود في الحقيقة إلى الملك محمد الخامس الذي بادر بتاريخ 14 و16 ماي 1956 إلى تأسيس القوات المسلحة الملكية والإدارة العامة للأمن الوطني. في هذا الشأن، نلاحظ أننا بصدد الحديث عن “قوات مسلحة ملكية” وليس “قوات وطنية”، كما كان معمولا به ساعتها في بلدان العالم الثالث في إفريقيا، وآسيا وأمريكا اللاتينية

3غير أن هذه اللجنة ألغيت فيما بعد وعوضت “بالمجلس الأعلى للدفاع الوطني” بالظهير المؤرخ في ثاني يناير 1974.

4 هذه هي الأسرار الأمنية الخطيرة التي عجلت بموت الحسن الثاني ن الرباط اليوم في 27 أبريل 2017 9:08

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *