الانتهاكات ليست قيدًا أبديًا براغماتية السياسة ترسم الاعتراف

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.
إن التمعن في مسارات السياسة الدولية يكشف عن حقيقة مفادها أن ملف الانتهاكات وحقوق الإنسان، على الرغم من ثقله الأخلاقي والقانوني، قد لا يشكل دائمًا العائق الأبدي أمام الاعتراف السياسي ورفع العقوبات. ففي عالم تحكمه المصالح المتضاربة وتوازنات القوى المعقدة، غالبًا ما تخضع المبادئ المعلنة لمنطق (فن الممكن).
تأملوا حالة أحمد الشرع، الذي شغل واجهات دبلوماسية رفيعة واعتُرف به دوليًا وإقليميًا في فترات سابقة، على الرغم من الاتهامات التي تلاحقه. إن رفع العقوبات عن سوريا في عهده، يطرح سؤالًا جوهريًا، ألا يمكن أن تتغلب المصالح السياسية على ملف الانتهاكات، خاصة عندما تتوافق هذه المصالح مع أهداف قوى إقليمية ودولية؟
هذا المنطق يصبح أكثر وضوحًا عند مقارنته بحالة صوماليلاند. هذا الكيان، الذي أقام خمس انتخابات حرة ونزيهة وشهد انتقالًا سلميًا للسلطة، ووضع دستورًا ديمقراطيًا بعد سنوات من الصراع، يمثل نموذجًا للاستقرار والحكم الرشيد. ومع ذلك، لا يزال هذا الكيان يكافح من أجل الحصول على الاعتراف الدولي. إن تجاهل قصة نجاح كهذه، بينما يتم التعامل بواقعية مع أنظمة تحمل سجلات حقوقية مثيرة للجدل، يسلط الضوء على أن معايير الاعتراف قد لا تكون دائمًا متسقة مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هذا المنطق يقودنا إلى احتمالات أخرى تلوح في الأفق الإقليمي. ففي ظل الصراعات والتحولات الجارية، قد نجد أنفسنا أمام سيناريوهات مماثلة. لننظر مثلًا إلى الديناميكيات المعقدة في السودان. في ظل الصراع الدائر، تتهم أطراف متعددة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، ومع ذلك، قد يصبح هذا الملف ثانويًا أمام الحاجة إلى الاستقرار الإقليمي أو تحقيق مصالح استراتيجية لقوى خارجية. بل قد نجد أنفسنا أمام سيناريو يتم فيه الاعتراف بحكومة تأسيس التي تضم قوى مختلفة مثل الدعم السريع، والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركات مسلحة أخرى، بالإضافة إلى تنظيمات سياسية، أو حتى بحكومة بورتسودان القائمة، وذلك بهدف تحقيق تسوية سياسية شاملة أو الحفاظ على مصالح إقليمية ودولية محددة، بغض النظر عن ملف الانتهاكات.
إن هذا السيناريو المحتمل في السودان يجسد بوضوح كيف يمكن أن تتغلب براغماتية السياسة على الاعتبارات المتعلقة بالانتهاكات. ففي ظل سعي القوى الإقليمية والدولية لتحقيق الاستقرار ومنع تفاقم الأزمة الإنسانية، قد تجد هذه القوى نفسها مضطرة للتعامل مع أي كيان يملك القدرة على فرض الأمر الواقع، حتى لو كان تشكيله يثير تحفظات أخلاقية وقانونية. ويضاف إلى ذلك دور الفاعلين غير الحكوميين، مثل الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الإنسانية الدولية، الذين قد يضغطون من أجل تسهيل عملهم أو تحقيق مصالحهم الاقتصادية، مما يقلل من الضغط على الأطراف المتصارعة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان. كما أن تأثير الإعلام والرأي العام الدوليين قد يكون محدودًا أو منحازًا، مما يقلل من الضغط الشعبي على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر صرامة.
علاوة على ذلك، يتداخل مفهوم السيادة الوطنية أحيانًا مع مسؤولية الحماية (R2P). فالدول قد تستخدم السيادة كذريعة لعدم التدخل في شؤونها الداخلية، حتى في حالات الانتهاكات الجسيمة، بينما يمثل مبدأ R2P محاولة لتجاوز ذلك، لكن تطبيقه لا يزال غير متسق.
إن تغييب العدالة الانتقالية وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات يحمل عواقب طويلة الأمد، حيث قد يؤدي إلى تفاقم دورات العنف وزعزعة الاستقرار وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب. كما يجب الأخذ في الاعتبار الآثار الإنسانية للعقوبات على السكان المدنيين، والتي قد تثير تساؤلات حول فعاليتها وأخلاقيتها كأداة للضغط السياسي.
في الختام، من الضروري أن ندرك أن الاعتماد المطلق على ملف الانتهاكات كمعيار دائم وحاسم في السياسة الدولية قد يكون تبسيطًا مخلًا للواقع المعقد. فبينما يبقى السعي نحو العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الفظائع هدفًا نبيلًا، فإن براغماتية السياسة، بمفهومها القائم على (فن الممكن)، قد ترسم مسارات مختلفة نحو الاعتراف والشرعية، مدفوعة في كثير من الأحيان بتوازنات القوى والمصالح المتغيرة، وهو ما تجسده بوضوح حالة صوماليلاند في مقابل حالات أخرى شهدت اعترافًا رغم علامات الاستفهام حول ملف حقوق الإنسان فيها.
المصدر: صحيفة الراكوبة