اخبار السودان

من سرق السودان؟ شهادات من قلب النهب المنظّم

نبيل منصور

 

عقب نشر المقال السابق “دولة النهب: عندما تحالفت الجريمة المنظمة والإسلام السياسي في السودان”، تواصل معي عدد من الأصدقاء والمهتمين بالشأن العام، ودار بيننا نقاشٌ عميقٌ كشف عن سرديات جديدة وأسئلة حاسمة ينبغي طرحها، لأنها تسلط الضوء على ما لم يُروَ بعد من تفاصيل جريمة النهب الكبرى.

 

ما خف وزنه وغلا ثمنه

 

أحد الأصدقاء سرد مشهدًا لافتًا: “كانوا يسرقون الضلف ويتركون الحلق”، في إشارة إلى لصوص لا يهتمون إلا بما يسهل حمله ويباع سريعًا. هذه الصورة تُظهر أن النهب لم يكن عشوائيًا تمامًا، بل كان قائماً على حسابات دقيقة: ما الذي يُنهب؟ وما قيمته؟ وما سهولة تصريفه؟

 

أين ذهبت العربات؟

 

ملاحظة أخرى جديرة بالتأمل طرحها أحدهم: “لنفرض أن كل فرد في الدعم السريع سرق عربة واحدة، وهم مئة ألف؛ الخرطوم وحدها كانت تحوي مليونًا أو مليونين من المركبات. فأين ذهبت بقية العربات؟”

هذا السؤال لا يُجيب فقط عن حجم السرقة، بل يفتح باباً لفهم الشبكة الأوسع التي استوعبت هذا العدد الهائل من المسروقات، من التخزين، إلى التهريب، إلى التصريف خارج الحدود. إنها شبكة تتجاوز حدود اللصوص الصغار، وتشير إلى جهات عليا تعلم وتخطط وتربح.

 

سرقة النحاس: جريمة بحسابات هندسية

 

ما جرى لنهب النحاس، على وجه الخصوص، يثير الريبة:

• تم تفكيك محولات كهرباء،

• وتم انتزاع خطوط نحاسية من البنية التحتية،

• وفُككت موتورات المياه وتوصيلات المصانع،

وهذه ليست مهمة يستطيعها “شفشافة” أو لصوص عاديون. الأمر يحتاج فنيين متخصصين، أدوات معقدة، وشاحنات جاهزة، ومعرفة مسبقة بالمواقع والأنظمة. فكيف تم هذا كله والحرب مشتعلة؟ من نسّق؟ من وفّر الوقت والممرات الآمنة؟ من منح الغطاء؟

الإجابة الأقرب للمنطق: ما حدث تم بتخطيط، وبتعاون من داخل طرفي النزاع، لا سيما من الدولة العميقة وشبكاتها الممتدة في مؤسسات الدولة والمليشيات على السواء.

 

من الذي يعرف ماذا يُسرق؟

 

ما حدث لا يمكن اعتباره “تفلتات أمنية”، بل أقرب إلى تفكيك دولة تحت غطاء الحرب. من الذي يعرف أين يُخزن النحاس؟ من يُصدّر الحديد؟ من يملك قنوات التهريب والموانئ والمعابر؟

إنها بقايا النظام البائد، التي عادت لتعيد تموضعها في ظل الفوضى، وتنفذ ما يشبه خطة انسحاب مع الغنائم، أو بالأحرى “انسحاب مع تفكيك الدولة”.

 

مناشدة مرة أخرى للمواطنين: لا تصمتوا على النهب!

 

إن ما جرى ويجري ليس فقط جريمة ضد الممتلكات، بل ضد الذاكرة والكرامة الوطنية. وما لم يوثّق الآن، سيُطمس لاحقاً.

لذلك، نُناشد جميع المواطنين والمواطنات في كل أنحاء السودان، وبالأخص في العاصمة والولايات التي تعرضت للنهب، أن:

 

• يوثقوا ما رأوه أو عرفوه من وقائع نهب وسرقة،

• يذكروا الأسماء والمواقع والأزمنة وأنواع المنهوبات،

• ينشروا ذلك في وسائل التواصل أو عبر وسائط موثوقة،

• يحتفظوا بنسخ من الصور والمقاطع والشهادات،

• ويربطوا كل حالة بسياقها: هل كان هناك تخطيط؟ هل تم النهب بوجود قوة مسلحة ؟ هل استُخدمت مركبات رسمية؟

هذا الجهد الشعبي ليس مجرد رصد، بل مقاومة حقيقية تُحبط الإفلات من العقاب، وتُسهم في بناء قضية وطنية للمحاسبة الشاملة، على جرائم لا تسقط بالتقادم.

 

فلنكن جميعاً شهودًا لا شركاء صمت.

 

خلاصة

ما تكشفه هذه النقاشات الشعبية، التي جاءت بعد المقال، هو أننا أمام جريمة متواصلة لا تزال تفاصيلها تتكشف. لا يجوز أن تُنسى أو تُطمر في زحام الأحداث.

بل يتوجب علينا جميعًا، كتُوّاقين لوطنٍ عادل، أن نُمعن النظر في هذه الوقائع، ونُراكم شهاداتنا، ونُطالب بكشف الشبكات التي نظّمت وسهّلت هذا النهب الممنهج.

إنها ليست فقط سرقة ممتلكات، بل تصفية منظمة لما تبقى من السودان كوطن يمكن أن يُعاد بناؤه.

 

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *