اخبار المغرب

وثيقة تصدم البوليساريو .. عزلة قاتمة وأفق مسدود وعطالة سياسية

فيما كانت قيادة البوليساريو تستعد لإحياء الذكرى 52 لتأسيس التنظيم الانفصالي الذي وُلد في لحظة صراع وانتهى إلى حالة انتشاء بالسلطة، فاجأتها مجموعة من الأطر الصحراوية داخل المخيمات وخارجها بوثيقة صادمة دعت إلى تنظيم مؤتمر استثنائي يعيد ترتيب البيت الداخلي للجبهة التي لم تعد تمثلبرأيهمسوى ذكريات انتصارات صوتية ووعود مؤجلة منذ نصف قرن.

الوثيقة التي حملت عنوان “عريضة مفتوحة إلى النخب الوطنية وكافة الجماهير الصحراوية”، لم تكتف بالتشخيص، بل اتهمت القيادة الحالية بتحويل المشروع التحرري إلى ما يشبه شركة عائلية مغلقة تتوارث المناصب وتوزع الامتيازات، في ظل عزلة قاتمة وأفق مسدود وعطالة سياسية لا يجاريها سوى ثقل الشعارات المشروخة والمتكررة.

وتزامن توزيع الوثيقة مع الذكرى السنوية لتأسيس البوليساريو، التي مرت بفتور غير مسبوق، خصوصا في مدينة العيون، كبرى حواضر الصحراء المغربية، حيث عاينت جريدة هسبريس الإلكترونية غياب أي مظاهر للاحتفال كما كان يحدث في سنوات قليلة خلت، في مشهد يُختصر بعنوان: “من صوت الجماهير إلى صمت المقاطعين”.

الموقعون على الوثيقة، من مدراء مركزيين وسفراء وأطر جامعية وصحافيين، قالوا بوضوح إن الوقت حان لتسليم المشعل، وقطع الطريق على “جيل الخلود في القيادة”، مؤكدين أن “المشروع الوطني” تحول إلى ما يشبه مسرحية مكررة، يعاد فيها توزيع الأدوار نفسها تحت إضاءة خافتة وبجمهور ملّ المشاهدة.

وفي الوقت الذي دأبت فيه قيادة البوليساريو على رفع شعار “التحرير والاستقلال”، رددت الوثيقة في المقابل: “الإصلاح الآن أو السقوط لاحقا”، محذرة من أن الاستمرار في سياسة الإنكار والمناورة لن يؤدي سوى إلى مزيد من القطيعة بين القيادة وقواعدها، وتفاقم معاناة الساكنة بالمخيمات القابعة على الأراضي الجزائرية أمام خيارات ضيقة ومستقبل غامض.

ويرى مراقبون أن الوثيقة تمثل مؤشرا واضحا على بداية تصدع داخل جبهة البوليساريو، بسبب توالي الجمود السياسي في السنوات الأخيرة، مشيرين إلى أن الرسالة التي حملتها العريضة ليست مجرد نداء إصلاحي، بل هي إنذار حقيقي بسحب ما تبقى من شرعية تنظيمية من قيادة لم تعد تعبر عن تطلعات القواعد.

فقدان البوصلة

قال حمدات لحسن، باحث في العلاقات الدولية مختص في قضية الصحراء، إن جبهة البوليساريو بوصفها حركة انفصالية مسلّحة، تعيش اليوم حالة من التآكل البنيوي والسياسي، بعد أن فشلت في الحفاظ على بوصلة مشروعها، الذي بات في نظره متجاوزا من طرف المنتظم الدولي ومرتهنا بالكامل لإرادة المؤسسة العسكرية الجزائرية.

وأوضح حمدات، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن القيادة الشائخة للجبهة تتبادل الأدوار فيما بينها، في ظل تصاعد مؤشرات الفساد المالي والأخلاقي، وغياب أي أفق سياسي أو ميداني واقعي، ما عمّق من الشعور بالإحباط داخل المخيمات، خصوصا في أوساط الشباب والنخب الجامعية، الذين باتوا يتساءلون بمرارة عن جدوى البقاء في بيئة منغلقة، تحكمها الولاءات القبلية ويهيمن عليها منطق الريع والمحاباة.

وأضاف أن “التآكل الحاصل داخل البوليساريو لم يعد مجرد انشقاقات ظرفية، بل ظاهرة متكررة في الزمن السياسي للجبهة، تؤشر إلى فقدانها التدريجي لأي شرعية تمثيلية، وهو ما تعكسه بوضوح الوثيقة الأخيرة التي وقعها عدد من الأطر والمثقفين داخل المخيمات، مطالبة بمؤتمر استثنائي وتغيير على مستوى القيادة.

“الواقع اليوم يشير إلى أن مشروع الانفصال فقد بريقه لدى فئات عريضة من ساكنة المخيمات، التي باتت تتجه إما نحو العودة إلى الوطن الأم، أو إلى البحث عن بدائل إنسانية واجتماعية خارج المخيم، من خلال الهجرة أو الاندماج في دول الجوار”، يسجل الخبير في ملف الصحراء، قبل أن يضيف أن “هذا الوضع تفاقم مع انتشار مظاهر خطيرة كالسلاح والمخدرات والاتجار بالمساعدات والاحتجاجات الصامتة؛ وهو الشيء الذي ينبئ بانفجار اجتماعي وشيك”.

وختم حمدات حديثه لهسبريس بتأكيد أن “مقترح الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب منذ سنة 2007، والذي وصفته قرارات مجلس الأمن بأنه جدي وواقعي وذو مصداقية، أصبح يشكل اليوم المرجعية السياسية الأكثر واقعية، في ظل الدينامية الدبلوماسية التي تعززت بالاعترافات الدولية المتتالية، خاصة من الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، إضافة إلى عدد من الدول الإفريقية والعربية والأمريكية اللاتينية، وهو ما زاد من عزل البوليساريو وعرى هشاشة خطابها”.

قيادة خارج الخدمة

يرى ددي بيبوط، باحث في التاريخ المعاصر والحديث، أن السنوات الأخيرة تشهد تحوّلا جذريا في ذهنية فئات متزايدة من الصحراويين القاطنين بمخيمات تندوف وفي دول المهجر، ممن كانوا في السابق يناصرون جبهة البوليساريو سواء في السر أو العلن، معتبرا أن “هذا التحول لم يعد مرتبطا بحالة مزاجية عابرة أو استياء مؤقت ناتج عن سلوك فردي لمسؤول في الجبهة أو جهة أمنية، بل أصبح تعبيرا عن وعي جماعي متصاعد بحجم المأساة وبضرورة التغيير”.

وأكد بيبوط ضمن تصريحه لهسبريس أن “الانتهاكات الجسيمة داخل مخيمات تندوف ليست وليدة اليوم بل تعود إلى عقود مضت، وقد تستمر ما لم تخضع المخيمات لضوابط القانون الدولي ويتم تصحيح المركز القانوني للصحراويين المحتجزين فيها، الذين لا يتوفرون حتى على الحد الأدنى من الحق في التنقل”، مشددا على أن “هذه الوضعية تفرض تدخلا دوليا مستعجلا من أجل إلزام الجزائر بتحمل مسؤولياتها القانونية، وتعزيز وعي الساكنة المحلية بضرورة التعبير العلني عن معاناتها اليومية وتطلعاتها نحو آفاق أرحب تضمن حقوقها تحت إشراف أممي ودولي بعيدا عن أي وصاية”.

وأشار المتحدث إلى أن استمرار جبهة البوليساريو لنحو نصف قرن دون أي تغيير داخلي، مردّه إلى القبضة الأمنية الجزائرية المحكمة على المخيمات، لافتا إلى أن “كل محاولات التجديد أو فتح النقاش الداخلي كانت تصطدم بجدار الصمت والتضييق؛ وهو ما تجلّى في أحداث عنف سابقة كأحداث سنة 1988، أو خلال مؤتمرات الجبهة وتشكيل أمانتها الوطنية؛ إذ يستحيل تصور وصول شخصيات مستقلة أو منتقدة إلى مواقع المسؤولية”، مضيفا أن “إعادة تنصيب إبراهيم غالي على رأس التنظيم، مع إقصاء وجوه قيادية لم تعد تحظى بثقة القيادة، يؤكد هذه المعادلة الأمنية المتحكمة في تفاصيل المشهد داخل المخيمات وخارجها”.

وأوضح المتتبع لخبايا الملف أن هذه التناقضات البنيوية في تدبير شؤون المخيمات، وفي طبيعة العلاقة بين البوليساريو وسلطات الدولة المضيفة، أدّت إلى بروز حالة من القلق داخل التنظيم نفسه، وأسهمت في صعود أصوات رافضة للمنطق الذي تدار به الأزمة، مسجلا أن من بين أبرز هذه الأصوات، حركة “صحراويون من أجل السلام”، التي عبّرت في مؤتمراتها المنعقدة بإسبانيا والسينغال عن رغبتها في كسر الجمود وفتح قنوات اتصال مباشر مع المغرب، بحثا عن تسوية سياسية تنهي معاناة آلاف المحتجزين في تندوف.

ونبه الباحث عينه إلى أن تكرار مثل هذه المواقف الرافضة، سواء داخل المخيمات أو في المهجر، يعكس حجم القطيعة التي بدأت تتشكل بين الأطر الصحراوية الشابة وتنظيم البوليساريو، الذي أصبح، حسب تعبيره، “رهينة منطق عبثي تُسيّر به المخيمات، وتُؤبَّد به معاناة السكان في أرض لا تضمن لهم شروط الكرامة والعيش الكريم”.

كما نوّه بيبوط إلى أن الغضب العام داخل المخيمات لم يترجم إلى مجرد دعوات للنقاش، بل تبلور في مقترحات ملموسة، من بينها تنظيم استفتاء شعبي لساكنة المخيمات حول مشروعية القيادة الحالية للبوليساريو؛ وهي مبادرة تسعى إلى تجاوز أسطوانة “الشرعية الثورية” التي تتذرع بها الجبهة منذ عقود، مردفا أن “الأصوات الداعية لهذا المسار لا ترى إمكانية حقيقية لتنفيذه إلا من خلال عقد مؤتمر استثنائي قبل شهر شتنبر المقبل، يُدار بقواعد جديدة ومغايرة لما تم فرضه خلال مؤتمر سنة 2020”.

واعتبر أن زخم هذا الحراك يعكس تحولا نوعيا في وعي سكان المخيمات، لا سيما مع تزايد الأحداث المأساوية، من حوادث قتل لمدنيين صحراويين على يد الجيش الجزائري، وانفلاتات أمنية متكررة داخل المخيمات، واستمرار مسلسل الانتهاكات الحقوقية منذ تأسيس المخيمات، وهو ما يشير بوضوح إلى استفحال الأزمة، وعجز قيادة الجبهة عن تقديم أي مخرج دائم ومستدام لمعاناة المحتجزين، في ظل تحكم أجهزة الجيش الجزائري في القرار السياسي والتنظيمي.

وأكمل ددي بيبوط تصريحه بالتشديد على أن هذه الدينامية الرافضة داخل المخيمات ليست لحظة عابرة، بل تحمل في طياتها ملامح ثورة حقيقية ضد أيديولوجيا البوليساريو التي حكمت حياة الصحراويين لعقود، مبرزا أن “تصاعد الاحتجاجات وارتفاع منسوب الغضب قد يفتحان الباب أمام قبول أوسع للمقترح المغربي المتعلق بالحكم الذاتي، باعتباره خيارا واقعيا لتسيير شؤون الأقاليم الجنوبية في إطار سيادة المغرب، وإنهاء المشروع الانفصالي الذي لم يورّث الصحراويين سوى الألم والتبعية، في وقت يتزايد فيه الدعم الدولي للمبادرة المغربية، ويُسجّل فشل الجزائر والبوليساريو في الانخراط الجاد في أي مسار سياسي حقيقي ينهي هذا النزاع المفتعل”.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *