عمر الصديقي….فنان وروائي بأبعاد تاريخية متكاملة

يقول الكاتب المغربي ”حسن ﴽوريد ‟ في أحد تصريحاته٬ إن ”الرواية ليست تاريخا٬ بل هي توظيف للتاريخ ومساءلة للواقع‟٬ ﴽوريد هنا يتحدث عن نوع أدبي يتقدم بخطى حثيثة في العالم العربي عامة والمغربي على وجه الخصوص.
المسألة تتعلق بالرواية التاريخية كنوع أدبي ذي طابع هجين يعمد المزج بين الخيال الأدبي بحبكته الدرامية مع حقل التاريخ عبر تصوير أحداث أو حتى عصور تاريخية بأسلوب سلس يحمل بين طياته رموزا وجوانب إنسانية عميقة دون الاخلال بجوهر الحقائق التاريخية قصد فهم تأثير التاريخ على الفرد والمجتمع٬ وسبر أغوار الماضي وتأمل الحاضر ولم لا استشراف المستقبل٬ ولفرادة أسلوبها فهي تدفع القارئ دفعا للتفاعل مع شخصياتها وأحداثها بعيدا كل البعد عن السرد التاريخي الجاف.
هذه التوليفة العجيبة بين الأدب والتاريخ تعكس العلاقة الوثيقة بينهما أساسها الإلهام والإبداع٬ مغرية بذلك أقلام كتاب كثر أوصلوها لحدود الاحترافية. ”فلستروي‟ مثلا في سيرورة تأمله لفترة الحروب النابليونية برزت أيقونته الأدبية ”الحرب والسلام ‟٬بينما استطاع ”والتر سكوت‟ في روايته ”ويفرلي‟ أن يساهم في بلورة الرواية التاريخية كنوع أدبي مستقل بذاته٬ ولم يخف هذا الجنس عن المناخ الأدبي العربي حيث يطالعنا عراب الرواية التاريخية ”جورجي زيدان‟ بأكثر من عشرين رواية ناقش خلالها فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي. ليستقر الحال في المغرب حيث وجد هذا الجنس الأدبي مكانه بين كتاب كثر سلطوا الضوء على أحداث تاريخية باستخدامهم لأسلوب سردي مميز يحمل بين طياته ملامح مغربية خالصة.
ولكي يتسنى لنا النقاش بأريحية وإعطاؤنا لأمثلة حية حول الموضوع دعونا نمنطق مجالنا في زاوية ضيقة. نقف الآن عند حدود مدينة تازة وحضورها اللافت في الرواية التاريخية ومن هذا المنطلق يطالعنا الدكتور المبدع ”عمر الصديقي‟ بهيبة في هذا المجال.
بطل مقالنا تازي المولد والهوى٬ رأى النور فيها سنة 1969م وترعرع بين أحضانها٬ هو روائي٬ شاعر وفنان تشكيلي له اهتمامات بالدراسات العمومية والتاريخ والثقافة٬ لم لا فهو ينتمي إلى جيل الستينيات الجيل الذهبي. حاصل على درجة الماجستير في القانون العام في ”استراتيجية صنع القرار ‟من كلية الحقوق من جامعة فاس سنة 2017 وعلى درجة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة مولاي إسماعيل سنة 2021 ٬ له عدة مقالات علمية وثقافية وفنية ونصوص بالعربية والفرنسية بمختلف المجالات العلمية والثقافية والجرائد الوطنية والمواقع الإلكترونية وله مشاركات في عدة أنشطة اجتماعية٬ تربوية وخيرية٬ كما حصل على العديد من الشواهد التقديرية نظير مشاركته في عدة ملتقيات ثقافية٬ وهو حاليا يتقلد منصب قيم على فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير مند سنة 2005.
هذه الخلفية الثقافية المثيرة للاهتمام أعطت زخما لأعماله وجعلت من عمر الصديقي لا يقف عند حدود كونه قيما على فضاء التحرير أو حتى كاتبا لعدة مقالات ٬بل تعداها في تشكيل مسار جديد يحمل توقيعه في التشكيل والشعر والرواية٬ فله معرضان تشكيليان الأول جماعي بدار الشباب بتازة والثاني فردي شهدت عليه قاعة مكتبة كليلة ودمنة بالرباط ٬ كما أن إسهاماته في الشعر تكللتا بعنوانين ”نوافذ عاشقة‟ كديوان شعري جماعي و ”بقايا أحلام ‟ فاز على إثره في المسابقة الوطنية لتازة الشاعرة في الشعر الفصيح.
غير أن إسهاماته في الرواية التاريخية لها حضور أعمق . هذا النوع الأدبي الذي سيرى النور في مسار الصديقي سنة2012 بعنوان ”ذاكرة بقلب مفتوح‟ ضمن منشورات المندوبية السامية عن دار أبي رقراق بالرباط ٬ فهذه الرواية التي تشكلت ملامحها من سياق تاريخي أساسه المقاومة وتأثير الاستعمار الفرنسي على المجتمع المغربي عبر بناء سردي أدبي محكم الثراء على القارئ٬ وشخصيات مستمدة من النضال والذاكرة والهوية المغربية مما أضفى عليها ثراء فكريا وأدبيا٬ لتلقى خلاله صدى واسعا في أوساط المثقفين والمؤرخين على حد سواء٬ حيث تم تقديمها في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء سنة 2014 ٬كما تم الاحتفاء بها في متحف المقاومة بتازة في نفس السنة.
هي رواية كان لها الفضل بتعرفنا على عمر الصديقي الكاتب عن قرب بعد أن عرفناه قيما على فضاء التحرير والمقاومة٬ لا زلنا نتذكر حديثه المستفيض معنا عن أحداث روايته وشخوصها وعمق رمزياتها ليقف عند حدود مسألة ”الأرانب الانتحارية‟٬ كونها مسألة تجسد مشاعر الانسان ومعاناته في ظل القهر والظروف القاسية٬ فالصديقي هنا استطاع بذكاء ان يربط هذه الرمزية بالمقاومة ليعكس خلاله واقعا اجتماعيا وسياسيا طغى على تلك الحقبة.
لكن أبرز رواياته تلك التي اتخذت من ”الخبز الاسود‟ عنوانا لها طبق خلالها الصديقي المثل القائل ”عود على بدء‟ عبر عودته لأصوله الريفية ٬ فابن الريف جعل من منطقته منطلقا لإبداعاته ليصل بنا لفضاء أدبي أرحب مشبع بالبهارات التاريخية ٬ من خلال مقاربته لتاريخ المقاومة في الريف المغربي هذه المرة.
هنا يمكننا آن نقول إن الصديقي وصل لحدود النضج والاحترافية في هذه الرواية التاريخية دون أن ينازعنا أحد في القول ٬هي الأخرى لم تغب عنها الرموز فالخبز الأسود عكس الفقر والقحط والمعاناة الاجتماعية التي مرت بها ساكنة الريف أثناء فترات الاستعمار٬ بينما يقف الريف برمزيته عند حدود المقاومة والصمود ضد الحماية الفرنسية والاسبانية ٬وبين هذا وذاك لعب خلالها كاتبنا على وتر العواطف الحساس عبر خلق صراع درامي بين شخصياتها لجعلها تدور في فلك المقاومة أو ضدها بطريقة أدبية مؤثرة تعدت حدود السرد للأحداث التاريخية٬ وجعل من هذا الاثر خليقا من أن يوثق الذاكرة الجماعية بذوق وفهم.
و في نهاية المطاف سوف نلاحظ بجلاء العمق والتكامل في أعمال عمر الصديقي شكلا ومضمونا. مضمون يخرج من عبق الذاكرة والنضال والقيم الوطنية ٬وشكلا ضمن لوحات من توقيعه تمثل استمرارية للأبعاد العاطفية والفلسفية والتاريخية التي يناقشها عبر أسلوب تعبيري وسريالي تتداخل فيه الأشكال والألوان ورموزها مكملة بذلك دورا في الحبكة٬ ومتجاوزة العنصر البصري المحض لتعكس تأثير الكتابة الأدبية في التكوينات الفنية .
المصدر: العمق المغربي