اخبار المغرب

العدالة الجنائية في زمن الذكاء الاصطناعي.. هل المغرب مستعد للانتقال من الزجر إلى التحليل؟

في وقت تتسارع فيه وتيرة التحول الرقمي عبر العالم، لم تعد قاعات المحاكم بمعزل عن الذكاء الاصطناعي، الذي بدأ يفرض نفسه كفاعل جديد داخل منظومة العدالة. من التحليل التنبؤي إلى تقنيات التعرف على الوجوه، ومن قراءة أنماط الجريمة إلى تصنيف القضايا حسب درجة الخطورة، باتت «الخوارزميات» تتسلل شيئًا فشيئًا إلى مساحات كان القرار فيها حكرًا على البشر.

غير أن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاح في المغرب هو: هل نحن مؤهّلون فعلاً لإدماج الذكاء الاصطناعي في نظامنا العدلي؟ وهل لدينا من الضمانات المؤسساتية والتشريعية ما يكفي لتأمين هذا التحول دون التفريط في الحقوق الأساسية للمواطن؟

تجارب دولية عديدة قطعت أشواطًا كبيرة في هذا المجال. ففي الولايات المتحدة، يُستخدم الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بإمكانية عودة المحكوم عليهم للجريمة، وفي فرنسا يتم الاعتماد عليه لتصفية الملفات حسب الأولوية. أما في كندا، فتُستثمر قواعد البيانات الضخمة لتحليل الاتجاهات الجنائية واستشراف مساراتها. كلها أدوات تهدف إلى تسريع المعالجة القضائية، وتخفيف العبء عن المحاكم، وتحقيق نوع من الإنصاف التكنولوجي.

في المقابل، يظل السياق المغربي أكثر تعقيدًا. فرغم بعض المبادرات التي أطلقتها وزارة العدل في إطار رقمنة الخدمات القضائية، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في صلب العدالة الجنائية ما زال محدودًا جدًا، بسبب ضعف البنية التحتية الرقمية، وغياب تكوين مؤسسي للقضاة وضباط الشرطة القضائية، بالإضافة إلى هشاشة الإطار القانوني الذي يحكم حماية المعطيات الشخصية والمعالجة الرقمية للمعلومات الحساسة.

هذا الوضع يطرح إشكالية جوهرية تتعلق بغياب التوازن بين «الفعالية القضائية» و«صيانة الحقوق»، خصوصًا في ظل غياب قوانين تؤطر بدقة استعمال أدوات الذكاء الاصطناعي، وتحدد الجهات المؤهلة للولوج إليها، وتضمن حق المتقاضين في الاعتراض والمراجعة.

ومن هنا، تبدو الحاجة ملحّة اليوم أكثر من أي وقت مضى لوضع استراتيجية وطنية واضحة للعدالة الرقمية، تشمل على وجه الخصوص إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن آليات تطوير العدالة، ولكن داخل إطار قانوني وأخلاقي صارم. كما يبرز ضرورة إحداث لجنة وطنية لأخلاقيات استعمال التكنولوجيا القضائية، وتوفير تكوين متخصص للقضاة والضباط، وتحيين مدونة المسطرة الجنائية لتواكب التحول الرقمي دون الإخلال بثوابت العدالة الجنائية.

فالذكاء الاصطناعي، إذا استُخدم بوعي ومسؤولية، يمكن أن يكون رافعة حقيقية للعدالة. لكنه، إذا أُطلق بدون ضوابط، قد يتحول إلى أداة للإقصاء والتجريم الآلي، ويكرّس ما يسمى بـ«العدالة الغامضة» المبنية على خوارزميات غير مفهومة وغير قابلة للطعن.

المغرب اليوم أمام مفترق طرق حاسم. فإما أن يُبادر إلى استباق التحول التكنولوجي بإصلاح تشريعي ومؤسساتي جاد، وإما أن يُفاجأ بتقنيات تتسلل إلى جسد العدالة من دون مناعة قانونية تحمي الحقوق والحريات. في كل الأحوال، يبقى المبدأ الأسمى: الإنسان يجب أن يظل هو من يصنع القرار، لا الآلة.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *