التأثير المؤجل والفرصة الأخيرة

نبيل منصور
رغم ما يبدو من هيمنة تيار محدود ومحدود الرؤية على مشهد السلطة في السودان اليوم، فإن الفرصة لا تزال سانحة أمام القوى السياسية والمدنية لاستعادة زمام المبادرة، لا سيما بعد الضربات الأخيرة التي كشفت هشاشة التوازن العسكري وأنذرت بانهيار وشيك لكيان الدولة نفسها إن استمرت الفوضى دون مشروع وطني جامع.
ما يجهله أو يتجاهله كثيرون، هو أن هذا المعسكر المسيطر حاليًا على السلطة، المكوّن من بعض عناصر الحركة الإسلامية وفلول النظام السابق ومغامرين من المدنيين والعسكريين، يمتلك نفوذًا بلا مشروعية، وسلاحًا بلا رؤية، وسطوةً بلا قبول شعبي حقيقي. أما القوى المدنية، ورغم ما تعرضت له من إقصاء وتشويه، فلا تزال تملك مصدر الشرعية الأهم : التعبير عن تطلعات الناس، وعن حلم الدولة التي تسع الجميع.
في هذا السياق، لم يعد المجتمع الدولي يبحث فقط عن من يملك السلاح، بل عن الطرف القادر على تقديم نفسه كبديل سياسي شرعي ومقبول داخليًا، لملء فراغ بات يشكّل ثغرة خطيرة في منظومة الأمن الإقليمي والدولي، في ظل تصاعد الفوضى وتعدد مراكز القوة بلا أفق واضح. وهذا ما يجعل من القوى المدنية رقماً لا يمكن تجاوزه، إذا ما أعادت تنظيم صفوفها وتحركت بمسؤولية.
لقد آن الأوان أن تدرك هذه القوى أنها ليست في موقع رد الفعل، بل يمكنها أن تكون في موقع الفعل نفسه. إنها قادرة ـ إن هي أرادت ـ على:
• كسر احتكار الحديث باسم السودان في المحافل الدولية،
• وصياغة مشروع بديل واقعي ومقبول،
• وحشد المجتمع السوداني وقواه الحية حول أفق جديد للخلاص،
• واستقطاب دعم إقليمي ودولي لا يريد حربًا بلا نهاية على حدود البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وإن لم تنهض هذه القوى الآن، فإن الضربات الأخيرة، بدل أن تُشكّل منعطفًا نحو الحل، قد تُمهّد لانفجار أشمل وانهيار تام لما تبقى من كيان الدولة السودانية. عندها، لن يسأل أحد عن المسؤولين عن الخراب، بل سيسأل الناس: أين كانت القوى التي ادعت تمثيل الثورة؟ ولماذا صمتت حين امتلكت القدرة على التغيير؟
ما العمل؟ من استعادة الوعي إلى صناعة التأثير
إن إدراك حجم التأثير لا يكفي، ما لم يُترجم إلى خطوات عملية تُعيد تنظيم المشهد المدني والسياسي وتطرح بديلاً حقيقياً. ولعلّ أبرز ما يجب العمل عليه الآن:
١. إعادة تنظيم الصف المدني والسياسي:
• تجاوز الخلافات الأيديولوجية الضيقة والانقسامات القديمة.
• تكوين تحالف واسع عابر للتنظيمات، قائم على الحد الأدنى الوطني: وقف الحرب، حماية المدنيين، وإنقاذ السودان من الانهيار.
٢. طرح مشروع سياسي وطني جامع:
• مشروع يُعرّف ملامح الدولة الجديدة: مدنية، ديمقراطية، عادلة.
• لا يقوم فقط على رفض الحرب، بل على تصور متكامل لبناء السلام والدولة.
• يُطرح للرأي العام ويُناقش في الداخل، لا يُعد فقط للتفاوض في الخارج.
٣. التواصل مع الفاعلين الإقليميين والدوليين:
• التأكيد على أن القوى المدنية تملك القدرة على ملء الفراغ، وضمان الاستقرار.
• تقديم نفسها كبديل جاد وواقعي، قادر على مخاطبة العالم بلغة المصالح المشتركة.
٤. التحرك الإعلامي والشعبي الداخلي:
• كسر الهيمنة الإعلامية للقوى المسلحة والمشاريع المشوهة.
• تحريك الشارع والمجتمع المدني حول أهداف واضحة قابلة للتحقيق، لا شعارات عامة.
٥. فتح قنوات اتصال مع قواعد الأطراف المتحاربة:
• لا لعزل الشعب الذي وقع بين نارين، بل لاحتوائه وإقناعه بأن الحل المدني هو طريق النجاة للجميع وبالذات قيادات الإدارة الأهلية.
• مخاطبة قواعد الجيش والدعم السريع بلغة وطنية تجعلهم يعيدون النظر في خطاب الحرب لوقفها لا لاستمرارها أو استغلالهم.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة