لعبة التهديد والتفاوض

يعد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب العدو الأول لإيران، إذ كان هو من قرر الانسحاب من الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران سنة 2016، وهو الذي أمر بتصفية الجنرال قاسم سليماني، أحد أبرز القادة العسكريين الإيرانيين في العصر الحديث، في الثالث من يناير 2020.
وفوق ذلك، فرض ترامب على إيران عقوبات غير مسبوقة، وبذل مجهودا كبيرا لتقليص صادراتها النفطية إلى الحد الأدنى، فلم تتمكن إيران من بيع نفطها إلا للصين، وبسعر أقل من السوق العالمية، وبما لا يتجاوز 40٪ من قدرتها الإنتاجية. وقد تسبب ذلك في أزمة اقتصادية خانقة تمثلت في ارتفاع معدل التضخم إلى 35٪، وتفاقم البطالة، وانهيار العملة المحلية، حتى أصبح الدولار يساوي مليون ريال في السوق السوداء، وعانت البلاد من نقص حاد في العملة الصعبة.
ورغم كل هذه الضغوط، رفضت الحكومة الإيرانية التفاوض مع إدارة ترامب تحت الإكراه، وتمسكت بموقفها، مما دفع الرئيس الأمريكي إلى إرسال رسالة تفهم على أنها تهديد عسكري مباشر، مضمونها “إما مفاوضات خلال شهرين، أو قصف للمنشآت النووية الإيرانية”. وقد أدركت طهران أن التهديد حقيقي، في ظل أوضاع اقتصادية وعسكرية حرجة، وأنها تواجه التحدي الأكبر منذ انتصار الثورة عام 1979.
هذا الأمر، دفع رأس النظام الإيراني إلى قبول مبدأ التفاوض، رغم صعوبة القرار. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أعدته الصحفية الإيرانيةالأمريكية فرناس فسيحي، المعروفة بقربها من دوائر صنع القرار الإيرانية ومصداقية أخبارها، فقد عقد اجتماع سري ضم المرشد الأعلى علي خامنئي، ورئيس الجمهورية، ورئيس البرلمان، ورئيس السلطة القضائية، حيث تم عرض رسالة ترامب، التي جاء فيها أن رفض التفاوض قد يؤدي إلى قصف منشأة نطنز النووية. وقد تزامن ذلك مع تحرك لحاملة طائرات أمريكية وعدة قطع بحرية قرب المياه الإيرانية.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت إيران على دراية بأن الصين وروسيا لن تدعماها عسكريا في حال اندلاع حرب، حيث صرح وزير الخارجية الروسي في حديث علني بأن بلاده لن تتدخل إذا تعرضت إيران لهجوم أمريكي. كما تخشى إيران مما يعرف بـ”القنابل الذكية”، وهي قنابل قادرة على تدمير أهداف تقع في عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، وهي نفس النوع من القنابل الذي استخدم في استهداف حسن نصر الله في أعمق طابق أرضي.
لكن لماذا أصر ترامب على التفاوض مع إيران؟
السبب الأول أن ترامب اعتبر أن سلفه باراك أوباما تفاوض مع الإيرانيين بسذاجة، ووقع معهم اتفاقا نوويا لم تجنِ الولايات المتحدة منه أي مكاسب اقتصادية تذكر. وفي أعقاب توقيع الاتفاق ورفع جزء من العقوبات، سارعت إيران إلى توقيع عقود ضخمة مع شركات أوروبية، منها “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”سيمنس” الألمانية، وتقدمت بطلب لشراء مئة طائرة من “إيرباص”، بينما خرجت الشركات الأمريكية خاوية الوفاض.
وفي المفاوضات الجديدة، استبعد ترامب الدول الأوروبية والصين، وعين رجل الأعمال ستيف ويتكوف، الذي لا ينتمي للمؤسسات الرسمية التقليدية، للإشراف على الملف. وقد فهمت إيران الرسالة، ووفقا لمستشار المرشد علي لاريجاني، قدمت عرضا اقتصاديا يفوق تريليون دولار، بل إن وسائل إعلام إيرانية مقربة من الحكومة تحدثت عن عرض يتجاوز تريليوني دولار.
إيران تعتبر أرضا خصبة للاستثمار بالنسبة للشركات الكبرى، لما تملكه من احتياطات نفطية ضخمة، إضافة إلى حقل غاز مشترك مع قطر لم يستغل بعد، واحتياطي يبلغ مليار برميل من النفط، ومعادن متنوعة. كما أن موقع إيران الاستراتيجي يجعلها فاعلا مهما في صراع الممرات البحرية بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما يعزز دوافع التفاوض.
من جهة أخرى، فإن الخيار العسكري يبقى معقدا للغاية. فقد تطلب غزو العراق أكثر من 100 ألف جندي، في حين أن إيران تفوقه مساحة بثلاثة أضعاف، وتعد أكبر منه سكانيا بمرة ونصف، وتمتلك ترسانة عسكرية وصاروخية قوية، وتهدد بشكل دائم بإغلاق مضيق هرمز، الذي يعد شريانا حيويا لتصدير النفط الخليجي. كما أن غزو إيران قد يكلف الولايات المتحدة ما يزيد عن 6 تريليونات دولار، وهو رقم يصعب تحمله في ظل عجز الميزانية الأمريكية المستمر منذ أكثر من 25 سنة، والذي بلغ هذه السنة حوالي 1.5 تريليون دولار. علما أن ترامب لم يتوقف عن وصف جورج بوش الابن بأنه “رئيس غبي”، لأنه أنفق تريليونات من أموال دافعي الضرائب على غزو العراق.
تصريحات المفاوضين من كلا الجانبين تشير إلى أن الجولات الأولى من اللقاءات كانت إيجابية للغاية، ويعتقد عدد من المراقبين أن مشاركة وفود تقنية في الجولة الأخيرة تعد اختراقا مهما قد يفضي إلى اتفاق في الشهر المقبل. وهو ما سيكون تحولا نوعيا في العلاقات الاقتصادية بين إيران والولايات المتحدة، التي كانت توصف من قبل المرشد بـ”الشيطان الأكبر”. ومما يسهل الوصول إلى تفاهم، أن وزير الخارجية الإيراني الحالي هو نفسه من قاد الوفد الإيراني في مفاوضات 20142015، ما يجعله ملما بالتفاصيل الدقيقة.
في الختام، لا بد من استحضار المقولة الشهيرة لهنري كيسنجر، أحد أبرز وزراء الخارجية الأمريكيين الذي قال: “لا يمكن لإيران أن تنتقل من كونها دولة إلى أن تصبح أمة، دون التسامح مع إسرائيل”. والسؤال المطروح اليوم هو: هل سيقود تطبيع العلاقات الأمريكية الإيرانية، والانخراط الاقتصادي العميق، إلى تغيير موقف طهران من إسرائيل؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، وهو بالتأكيد ما تسعى إليه كل من أمريكا وإسرائيل.
المصدر: العمق المغربي