اخبار السودان

فاعتبروا يا أولي الأبصار

عمر القوني

 

عندما عدت إلى السودان لإلقاء الوداع الأخير على أبي رحمه الله قبل أكثر من عشرين عاما، وأثناء تواجدي في البلاد التقيت بعدد كبير من قدامى معارفي الذين أصبحوا من كبار موظفي العهد البائد، وكنت في زيارة لأحدهم في مكتبه، فحدثني عن وجود فرص وظيفية عاجلة في شركة النيل للبترول، فلم أتحمس للفكرة، فسدر الرجل يحدثني عن أشياء من طبيعة أن “للأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق” إلى آخره، فقبلت الفكرة على مضض لأسباب منها أني كنت لا أدري كم سأمكث في البلاد، فأنا كنت علي يقين بأن متى ما شفي أبي أو انتقل إلى جوار ربه، سوف أخرج مرة أخرى من البلاد بلا عودة، فلما قبلت الفكرة أعطاني الرجل رسائل واتصل بالهاتف بأحد المسؤولين في شركة النيل للبترول، واتفقا على إجراء مقابلة لي في اليوم التالي، فأمضيت ليلتي أتقلب على فراش السهاد من الحيرة في هذا الأمر، فقلبي لم يتقبل الفكرة تماماً، لأني سأكون في معية مجموعة من الفاسدين المفسدين من الكيزان لا محالة، وكنت أبغضهم لأسباب سوف أفصلها في سلسة مقالات قادمة إن شاء الله. وكان عندي مشكلة أخرى أكبر من تلك، هي كوني أحمل جوازاً أجنبياً، وكنت أحس بأن تعليمي أكبر من المؤهلات المطلوبة للوظيفة بكثير.

وفي صباح اليوم التالي، أخذت أوراقي وذهبت إلى المقابلة وأنا متوجس وكاره للفكرة تماماً، ولكني لم أدر كيف المخرج ولا كيف أعتذر لصديقي القديم وأطلب منه إلغاء اللقاء وقد قال ما قال من خطبة عصماء عن واجبي تجاه وطني ووطن أجدادي برغم حملي لجواز أجنبي، وكان مكان اللقاء في مبنى في منطقة العمارات، فدلفت إلى الاستقبال قبل موعدي بربع ساعة أو أكثر، فجلست أنتظر في الردهة، وطال انتظاري أكثر من ساعة، لأني قد وصلت قبل الموظفين! ثم بدأ الموظفون بالتقاطر إلى مكاتبهم، فهالني شيء في منظرهم : كانوا يشبهون بعضهم بعضاً كأنهم إخوة أشقاء أو أبناء عمومة! فتعجبت من هذه الظاهرة ولكني لم أتفطن لحقيقة سوف تظهر لي بأبشع صورة عما قليل! وكانوا جميعاً يرتدون بزة السفاري السخيفة التي كان يلبسها الكيزان للدلالة على علاقتهم بالدولة والحركة الإسلامية.

وبعد أن استقر كل موظف في مكتبه، جاءني شاب وسألني إن كنت أنا الشخص المبعوث من قبل فلان الفلاني الكوز المشهور، فأجبت بالإيجاب، فأخذ أوراقي ورجع إلى الداخل ثم لبث هنيهة، ثم جاء فاستدعاني، فتبعته إلى داخل مكتب كبير جداً ذي أثاث وثير جداً، يشغله رجل سمين ترى عليه نضرة النعيم، لم أدر ما وظيفته ولكني أظنه كان مديراً للموارد البشرية أو مسؤولاً عن التوظيف، فقدم الشاب أوراقي إلى الرجل وهمس في أذنه بكلمات لم أسمعها، فاستقبلني الرجل وهش في وجهي وباسطني وسألني عن الرجل الذي بعثني وعن بعض قيادات الكيزان من معارفي، منهم من قضى نحبه في الجنوب، ومنهم من بدل تبديلا قبيحاً وعاث في الأرض فساداً، يستحل من المال العام ما حرم الله، ومكثنا وقتاً بدا لي أطول من اللازم ونحن نتحدث عن فلان وفلان من قدامى الكيزان الذي يسمع أسماؤهم في الأناشيد البدعية التي أحدثها الترابي وأتباعه، ، وكان الأمر غريباً بالنسبة لي، لأني كنت أتوقع الأسئلة أن تكون عن مؤهلاتي، وعن كيف يمكنني المساهمة في تحقيق أهداف الشركة، وما إلى ذلك من الأسئلة النمطية التي تدور في مقابلات التوظيف.

ثم انبته الرجل لاسمي، فتغيرت ملامح وجهه، وسألني هل أنت عمر القوني؟ قلت نعم!

فتغير كل شيء رأساً على عقب! ونهرني وقال: قوم أطلع بره!

فصعقت ولم أتحرك من هول المفاجأة، فكرر ذلك أكثر من مرة: قوم أطلع برة! قوم أطلع برة! برة! برة!

فقمت لأخرج متحيراً مصعوقاً، لا أدري كيف حملتني رجلاي، وقبل وصولي إلى الباب التفت الرجل السمين إلى الشاب الذي أدخلني إليه ونهره قائلاً :

ما قلت ليكم ما تدخلوا مكتبي واحد من الغرب؟

وكان الشاب مصعوقاً مثلي فاغراً فاه كأنه غير قادر على استيعاب ما يحدث أمامه!

فخرجت مذهولاً، ومشيت إلى قريب من مطار الخرطوم، ولم أدر كيف مشيت كل هذه المسافة ولم أدر كم من الوقت مضى وأنا مستغرق في الذهول والدهشة، ثم انفجرت ضاحكاً، وضحكت وضحكت، وضحكت على نفسي وكيف أتيت إلى هذه المقابلة كارهاً بدلاً من الاعتذار إلى من بعثني، وضحكت على الرجل وبلاهته، وعلى كيف انتقل من إسلامي يكثر من قول ما شاء الله، الله يتقبل الشهيد فلان والشهيد فلان إلى غول عنصري بسرعة مذهلة، وضحكت على السودان والسودانيين وعلى كل شيء، فالمسألة برمتها كانت مهزلة!

ثم توفي أبي وخرجت من السودان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في طريقي إلى كندا، ولكن قدر الله أن أمكث في الإمارات عدة سنوات، عملت خلالها في شركة أدنوك للبترول، ثم انتقلت لوزارة الدفاع، ثم لما وصلت إلى كندا عملت وما زلت في إحدى أكبر شركات البترول في أمريكا الشمالية، وعملت في إنشاء عدة شبكات لأنابيب البترول التي تربط شمال كندا بجنوبها والولايات المتحدة، أي أن أصغر مشروع عملت فيه يفوق شركة النيل للبترول برمتها بكلها وكليلها! والحمد لله على ذلك!

وعندما كنت في الإمارات كنت صديقاً لثلاثة رجال تجمعني بهم عدة صفات : كلنا من أصول سودانية دارفورية، ونحمل الجوازات الغربية وكنا جميعاً نعمل للحكومة الإماراتية، وكان السودان في أمس الحاجة لنا ككفاءات لولا أصولنا الغرباوية، فكان أكبرنا سناً ووظيفة ضابط سابق في سلاح الجو الأمريكي، تقاعد ثم انتقل للعمل مستشاراً في وزارة الدفاع الإماراتية، والثاني فرنسي كان يعمل مستشاراً في وزارة الداخلية، والثالث أمريكي كان يعمل في بنك، وأنا كنت أصغرهم سناً ووظيفةً، وكنا نجلس ونتسامر معاً كل ليلة من بعد صلاة العشاء إلى منتصف الليل تقريباً، ومن الطرائف كثرة شكواهم من زوجاتهم الأجنبيات، وكانوا يحثونني على الزواج من سودانية والحذر من الأجنبيات!

ثم حدث أن حضر أحد معارف صديقنا السوداني الفرنسي من قطر حيث كان يعمل في مجال النفط والغاز، وكان رئيس قسم في شركة من شركات الطاقة هناك، وكان معه في القسم عدد من السودانيين، فقرروا جميعاً للعودة إلى السودان للعمل في شركة النيل للبترول، فتم قبول كل أفراد قسمه ما عداه، لأنه من دارفور، فعاد إلى وظيفته في قطر! فتعجبت كيف أننا رضينا بالهم والهم مش راضي بينا كما يقول المثل الدارجي.

وكنت أحسب نفسي قد نسيت ما حدث لي من إهانة في شركة النيل للبترول، ولكن بعد فراغنا من أحد المشاريع في شمال غرب كندا، كنت أتأمل مخططات ما بعد الإنشاء، وكان علينا أن نبعث بها إلى شركات أخرى تعمل في المنطقة وإلى جهات حكومية كإجراء روتيني، وكان أحد كبار مهندسي إحدى الشركات سوداني جنوبي اسمه دينق، وعندما رأيت اسمه ابتسمت وقلت: يا ريتنا لو كنا عملنا مثل هذه الشبكات للسودان! وهناك انهمرت دموعي، وتذكرت الإهانة التي تلقيتها في شركة النيل للبترول!

وبعد اندلاع الحرب، كنت أعمل في إنشاء خط جديد لأنابيب البترول، وكنت أفتح موقع الراكوبة على هاتفي بين الفنية والأخرى لأتابع أخبار الحرب في السودان، فهالني منظر شركة النيل وهي تحترق! سبحان الله!

وهذه القصة لم أحكها لأحد قط من قبل، لأني لم أرد أن أوغر صدور الناس على ولاة أمورهم، فأتسبب في ما لا يحمد عقباه، فالناس في هذا الزمان لا يعلمون متى وكيف يخرجون على ولاتهم، فالأثرة (وإن شئت فسمها التهميش) ليست سبباً شرعيا يسيغ حمل السلاح وقتال الأمراء، وهذه مسألة أفتى فيها كثيراً الألباني وابن باز والعثيمين رحمهم الله، فأكثروا من التحذير من الخروج على الأمراء والحكام الظلمة وحمل السلاح عليهم بسبب أن مفاسد الخروج في هذا الزمان تربو على المصالح التي ينشدها الخارجون على الحكام، وهذه مسألة لا يتسع الوقت والمجال للخوض فيها الآن.

واخترت هذا التوقيت بالذات لأحكي عليكم قصتي مع شركة النيل لأن الحرب وضعت أوزارها، وحان وقت التعمير، ولا ينبغي للسودان أن يخسر الكفاءات بسبب أصولهم وقبائلهم أكثر مما خسر من قبل، كتبت هذه الأسطر وأنا آمل أن يقرأها ولو شخص سوداني واحد فينتفع بها! آمل ذلك! أصلح الله القلوب والأعمال.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *