لابد من تحسين أنماط التفكير ! (5 5)

د. أنور شمبال
ينطبق على حال أهل السودان المثل القائل “ميتة وخراب ديار”!؛ لأنّ العقلية أو الأفكار التي تدار بها الحرب، بكل أسف، هي ذات العقلية القديمة التي أوردت البلد مورد التشظي والانقسامات، وفصل جزء عزيز منه، ولا تغيير فيها. والتدهور الآن يسير بمتوالية هندسية وبسرعة البرق؛ نسبة لدخول التكنولوجيا في إشعالها، وأوار نارها، وبشقها التدميري لا التعميري. فربما تم تجريب كثير من تقانات “تكنولوجيا” الاتصال، والإعلام، والبرمجيات والأسلحة في هذه الحرب من قبل الجهات المصنعة لها، كما قد تكون هناك بحوث علمية وتجارب أجريت في بلادنا ولا علم لنا بها.
دوائر الحرب!:
حرب السودان هذه عبارة عن دوائر تدميرية ذات أمواج بأطوال اقطار متعددة ومتتالية، بدأت بدائرة متسعة تبعتها أخرى تضيق بتدرج، كل دائرة منها لها تبعاتها السالبة، بحسب طول قطرها. الدائرة الأكبر “المتسعة” عدد ضحاياها أكبر (حرثاً ونسلاً ومن الأموال)، من عامة الناس والمهمشين المغرور بهم، والجنود وعائلاتهم. والدائرة التي تليها من موجة الدوائر ضحاياها أصحاب الأنشطة والاستثمارات، والكوادر الوسيطة المحركة لعجلة الإنتاج. وفي الدائرة الثالثة ضحاياها العلماء وأصحاب الخبرات بما فيهم المهاجرين. والدائرة الرابعة يتأثر بها الساسة ومشعلوا الحرب أنفسهم وبصورة مباشرة. وتتوقف في الدائرة الضيقة غالبية الأنشطة الحيوية، وتبقى أنشطة معيشية محدودة، وأنشطة الحرب فقط. وفي بؤرة الدائرة تكون الدولة عالة على الآخرين (المجتمع الدولي)، وحينها يتناساها الآخرون لتواجه مصيرها.
الاعتراف بالوقائع:
أذن الأمر يتطلب مراجعة المواقف والتعامل بحكمة لاخراج بلادنا من هذه الحرب بأقل الخسائر ما أمكن!… يقال من لم يستطع تطوير وتحسين أفكاره، لن يكون قادراً على تغيير الواقع، ولا رشد له. والذي نريده من مراجعة المواقف وتحسين أنماط تفكيرنا هو وقف الحروب الداخلية إلى الأبد، وبجهد وفكر ابناء السودان. وأولى خطوات تحسين نمط التفكير واللحاق بما يمكن اللحاق به : هو قبول الآخر، والاعتراف بالواقع والوقائع التي ذكرتها في الحلقات السابقة، ومحاولة فهما بتجرد وموضوعية والتعامل معها بحكمة. وايجاد صيغة مرضية للعدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والحق الخاص، قديمها وجديدها. حيث لا ينفع البكاء على الأطلال، ولا الندم على ما فات، ولكن ذلك لا يمنع الاعتبار مما حدث، واقتناص الفرص.
لا حسم بالسلاح!:
من حِكَم التاريخ التي رواها ابن المقفع في كتابه “كليلة ودمنة”: إنّ الجاهل المغتر من استعمل في أمره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق. وأربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الحاكم: الغضب فإنّه أجد الأشياء مقتاً، والبخل فإنّ صاحبه ليس بمعذور مع ذات يده؛ والكذب فإنّه ليس لأحد أن يجاوره، والعنف في المحاورة فإنّ السفه ليس من شأنه. والمؤمن لا يكذب، كما أنه ليس بلعّان همّاز.
ومن الحِكَم التي استنتجتها التجربة الحديثة أنه لا تستطيع دولة دخلت في حروب داخلية أن تطور نفسها ما لم يكن هناك اتفاق سياسي يعالج كل المشكلات عبر التفاوض، وقانون نافذ، وقضاء مستقل، وأقرب نموذج دولة رواندا الجارة. فالحروب الداخلية لا تحسم بالسلاح، وإن تغلب طرف على آخر أو آخرين؛ لأنّ الآخر أو الآخرين أولئك لا يتيحون فرصة للغالب لاعمار ما دمرته الحروب.
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ!
يقول تبارك وتعالى في كتابه الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴿65﴾ سورة الأنعام. فالحرب التي نعيشها هي قدر من أقدار الله التي لا مناص منها، وفتنة للاختبار والتمحيص، وربما نجّانا الله بها من كرب أكبر منها لسنا بها بعالمين. ولكن العبرة في أن نتدبّر ونفكّر ونفقه كنهها ونعتبر. وأن نتعلم من التجربه، والعظة من التاريخ ونضع حداً لهذه الفوضى.
أفسحوا المجال لغيركم:
تقع مسؤولية معالجة قضايا الحرب والحكم المدني على قادة طرفي الحرب، وإلى مؤسسات الدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، وعليه لابد من مراعاة الظروف الإنسانية الحرجة التي يمر بها المواطن والوطن، وما فقده من ثروة. ولا يأتي الحل من الخارج (مستورد)، وإنما من الداخل، (ما حك جسمك مثل ظفرك)، على النحو التالي:
أولاً: ايقاف الحرب بمبادرات ذاتية من قيادة طرفي القتال مع إعلان تنحيّ القادة من مواقعهم تلطفاً بهذا البلد الأبيّ، واحساساً بمعاناة شعبه؛ بوساطة مؤسسات المجتمع المدني، وليس بوساطات وتدخلات خارجية بعد أن عرف كل طرف قوة خصمة، وعرفوا حجم التربص ببلادنا من القوة الخارجية. وكما هو معلوم بالضرورة إنّ هذه الحرب لا يمكن لها أن تحسم بالضربة القاضية، مهما امتلك أي طرف من عدة وعتاد. ويقول مثلنا الشعبي الذي تُكثر استخدامه الأمهات والحبوبات “الجدّات”: (ليس هناك مخلوق يعدم مخلوق)، فتنحوا بعزة وافسحوا المجال لغيركم ستذكرون بالخير، ويقول المثل “السمعة ولا طول عمر”، وسوف يخلدكم التاريخ إن صدقتم وأحسنتم النوايا؛ فإنّ دامت لغيركم لما آلت إليكم، وهي سنة الحياة.
الاعتراف:
ثانياً: الاعتراف بتقصير مؤسسات الدولة في القيام بمهامها بمسؤولية والوجهة المثلى التي تمكّن من الحيلولة دون استفحال الصراعات في البلد. والسعي الجاد لوضع المعالجة بصورة عملية، خاصة إذا علمنا إنّ لهذه المؤسسات نصوص مثالية من القوانين والسياسات.
ثالثاً: تتحرك كل مؤسسات الدولة، لتتحمل بمسؤولياتها الموكلة إليها ولا تتجاوزها، ولا يرهن مصير بلد كامل لمؤسسة واحدة المؤسسة العسكرية أو الأمنية. وذلك بتحديد دقيق لمسؤوليات المؤسسة العسكرية، ومسؤوليات المؤسسات الأخرى.
تطوير مناهج التفكير:
رابعاً: تطوير مناهج التفكير في ادارة الدولة بصورة كاملة، بحيث تكون دولة مواطنة، والتي هي أساس الحقوق والواجبات. والذي يتطلب تغيير مناهج التعليم وبرامجها. واضافة مقرر لمناهج وأنماط التفكير، يدرس بالمرحلة الثانوية والجامعات.
خامساً: تقليص عدد الأحزاب والتنظيمات السياسية، وذلك باعتماد ضوابط أكثر احكاماً، ودوائر تحركها بحسب برامجها وعدد منتسبيها وفاعليتها، مع الزامها بتحديد أهداف أيّ حزب ومقاصده، وتصوّر مكتوب لادارة البلاد.
سادساً: فتح الكسب الاقتصادي بحيث لا تتحكم عليه مجموعة محدودة، وعدم التطفيف في تطبيق القوانين المنظمة للأنشطة الاقتصادية المختلفة. بمعنى آخر بناء اقتصاداً في خدمة الناس، لا الناس في خدمة الاقتصاد.
توزيع الخدمات بعدالة:
سابعاً: اعداد نظام إعلامي سوداني يضع الأولوية القصوى للوطن والشعب، ومعالجة التشوهات التي أحدثتها الحرب ومواقع التواصل الاجتماعي من شروخات اجتماعية وحساسيات. واحكام وضبط معاني مصطلحات الشأن العام كالشعب، والمواطن، الحكومة والدولة…و…
ثامناً: توزيع الخدمات بعدالة كماً وكيفاً. حقوقي واجبات الآخر، وحقوق الآخر واجباتي.
تاسعاً: تحريم استخدام القبيلة كأحد معايير للعمل في مؤسسات الدولة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة