اسئلة لتحقيق فلسطيني مستقل في نكبة 2024

أمد/ ثمّة إجماعٌ في إسرائيل على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في القصور والفشل في مواجهة “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومجريات وإدارة الحرب عامةً، بما في ذلك تحديد أهدافها، واليوم التالي بمهنيةٍ ومن دون حساباتٍ حزبيةٍ ضيقةٍ، مع طرح أسئلةٍ تتعلق بالجاهزية الاستخباراتية والأمنية، كما المسؤولية السياسية عن الأوضاع التي أدت إلى العملية والحرب. بينما يسود شعورٌ أن تشكيل اللجنة مسألة وقتٍ فقط، وحكومة بنيامين نتنياهو المتطرّفة، بل الأكثر تطرّفًا في تاريخ الدولة العبرية، لن تصمد في مواجهة الضغوط المؤسساتية والسياسية والإعلامية والشعبية، وربّما تسقط قبل ذلك، وتتخذ الحكومة الجديدة القرار الذي ينال دعمًا واسعًا في الشارع الإسرائيلي. هذا على الرغم من قيام الجيش بأفرعه ومؤسساته المختلفة، الاستخبارات والمنطقة الجنوبية بما فيها فرقة غزّة، كما جهاز الأمن العام الشاباك بإجراء تحقيقاتٍ خاصّةٍ ومنفصلةٍ، نشر معظم نتائجها علنًا، وأظهرت مدى تغلغل الغطرسة والفوقية المعتادة، وحتّى العنصرية في التعاطي مع الفلسطينيين والعرب، والاستلاب للقوّة الإسرائيلية الغاشمة، في حين تعاطى الإعلام العربي، خصوصًا الداعم للمقاومة، مع التحقيقات باحتفاءٍ كبيرٍ، ومن دون تمحيصٍ، أو انتباهٍ للمغزى والدلالة إسرائيليًا وفلسطينيًا وعربيًا.، وبالجوهر من دون حسرةٍ على عدم امتلاكنا حراكًا ونقاشًا مماثلًا.
إذن لم نشهد فلسطينيًا، للأسف، دعواتٍ لتشكيل لجنة تحقيقٍ مستقلةٍ في “طوفان الأقصى”، والحرب التي استغلها الاحتلال لإيقاع نكبةٍ جديدةٍ موصوفةٍ بالشعب الفلسطيني، ليس في قطاع غزّة فقط، بل في الضفّة الغربية أيضًا مع استنساخ أساليب الحرب ذاتها، وتحديدًا شمالها، حيث تواجه مدنها ومخيماتها، جنين وطولكرم، أوضاعًا مأساويةً، تدمير ونزوح وتهجير، شبيهةً تمامًا بما جرى ويجري في قطاع غزّة، مع إعادة طرح خطط ضمّ الضفّة على الطاولة، بل وضمها فعليًا لكن غير رسميٍ، كما قالت منظمة سلام الآن في تقريرها الأحد الماضي.
بناءً عليه، وبموازاة الحديث عن تشكيل لجنةٍ مستقلةٍ من شخصياتٍ وطنيةٍ ذات كفاءةٍ ونزيهةٍ لإدارة قطاع غزّة مؤقتًا، إلى حين عودة السلطة، أو تأليف حكومة توافقٍ وطنيٍ لحين إجراء الانتخابات العامة، في ظلّ اليقين بعجز السلطة بوضعها الحالي عن فعل ذلك، لا بدّ من طرح تأليف لجنةٍ موازيةٍ من شخصياتٍ وطنيةٍ مستقلةٍ ذات كفاءةٍ ونزيهةٍ متعددة الخلفيات والتخصصات للتحقيق في النكبة، حتّى لو بطريقةٍ غير رسميةٍ، كونها خطوةٌ ضروريةٌ باتجاه اللجنة الرسمية، كما جرى فعلًا في إسرائيل.
في ما يلي أسئلةٌ برسم اللجنة التي يفترض أن يكون تأليفها اليوم أمرًا حيويًا لنا جميعًا، بموازاة العمل الدؤوب على إنهاء الحرب، التي باتت في أيامها وأسابيعها الأخيرة لوقف النكبة الممتدة، وإفشال ومنع خطة تهجير أهل غزّة وتملّكها والسيطرة عليها، التي لا تزال مطروحةً على الأجندة فعليًا، مع عدم تخلي دونالد ترامب عنهاـ وتأليف إسرائيل إدارةً رسميةً لتنفيذها.
بدايةً، يقتضي التحقيق الجدي بالضرورة العودة إلى الوراء لعقدين من الزمن على الأقلً، أي إلى الاقتتال الفلسطيني 2007، وسيطرة حركة حماس على السلطة، وحصار الاحتلال لغزّة، والتساؤل عن تكوين هذه المعطيات مجتمعةً السيرورة التي أدت إلى جولات القتال المتتالية عديمة الجدوى والعبثية في غزّة، والطوفان والحرب والنكبة الجديدة في ما بعد، من دون أيّ تأثيرٍ جديٍ واستراتيجيٍ على الصراع بملفاته المركزية، وقضايا الوضع النهائي الكبرى، القدس والمستوطنات والدولة وحدودها والأمن والمياه واللاجئين، بدليل أنّ النقاش حول بنود اتّفاق وقف إطلاق النار، التي تطرحه حماس، لا يتضمن أبدًا تلك القضايا، إنّما تهدف إلى العودة لمساء السادس من أكتوبر 2023، وكأنّ شيئًا لم يكن، رغم التكلفة الباهظة جدًا، والمتضمنة ربع مليون شهيدٍ وجريحٍ، وربع مليون نازحٍ خارجيٍ، ومليوني نازح داخلي، وتدمير غزّة وإعادتها سنوات بل عقودًا للوراء، كما أنّ عملية إعادة إعمارها، إذا ما أبصرت النور فعلًا، ستستغرق سنواتٍ، وربّما عقودًا، وحتّى قرونًا، حسب بعض توقعات الأمم المتّحدة المتشائمة، وذلك في حال استمرار واقع السادس من أكتوبر، مع تكلفةٍ أضخم بعشرات مليارات الدولارات.
ثمّة سؤالٌ مركزيٌ آخر يتعلق بالانقسام، الاقتتال السياسي والجغرافي بين فتح وحماس، والسلطتين في رام الله وغزّة، وهل كان حتميًا لا رجعة عنه، وهل كان بالإمكان منعه أو لا؟ باعتباره صراعًا على السلطة الهشة والهزيلة الناتجة عن اتّفاق أوسلو 1993. ومرتبطٌ بما سبق، اتّفاق أوسلو، لماذا لم تجرِ مراجعةٌ شاملةٌ وجذريةٌ للاتّفاق؟ وهل صحيحٌ إنّ الطبقة السياسية لم تمتلك الشجاعة للإعلان عن نهايته، وبلورة خياراتٍ وطنيةً أخرى جامعةً، بعيدًا عن التفاوض العبثي، والعسكرة العدمية للسلطتين في رام الله وغزة، وتستند بالضرورة إلى خيار المقاومةالشعبية وفضائه الرحب متعدد المستويات والأبعاد؟
ضمن الأسئلة المطروحة، سؤالٌ متعلقٌ بإدارة غزّة، مع فشل حوارات المصالحة المتنقلة عبر العواصم، رغم تل الوثائق والتفاهمات والأوراق، التي يمكن التوصل إليها. ومن يتحمل المسؤولية الكبرى عن فشل المصالحة، واستمرار تكريس، بل تأبيد الانقسام؟ وهل تتحمل حماس مسؤولية إهدار آخر فرصة؟
في ظلّ صعود الثورات العربية، مع إعلان الدوحة 2012، باعتباره الفرصة الاخيرة لمصالحة جدية قائمة على الشراكة، ثمّ تعثرها مع تعثر الثورات، وتغيير السلطة لمقاربتها، إذ باتت تتحدث عن تمكين لا شراكة، وتجاهل تنفيذ تفاهمات ووثائق المصالحة بنزاهةٍ وشفافيةٍ، وصولاً إلى عرقلة الانتخابات، التي هرب منها الرئيس المسن محمود عباس هروبًا منهجيًا، وبنظرة إلى الوراء بدت الانتخابات، التي كانت مقررة في 2021، مناسبةً لتحول المشهد الفلسطيني برمته، وربّما منع وقطع السيرورة التي أدت إلى الطوفان والحرب والنكبة
في ما يخص السلطة، وإضاعة الفرصة بعدم إنهاء الانقسام خلال السنوات الماضية قبل الطوفان، والتخلي عمليًا عن غزّة، بل والمشاركة، بطريقةٍ ما، بحصارها، وأخيرًا عدم قراءة اللحظة بمسؤوليةٍ ونزاهةٍ بعد الحرب، والمبادرة إلى تشكيل حكومة جديدة خاضعةٍ عمليًا للرئيس المنفصل عن الواقع، رغم فشل خياراته السياسية، وعدم تأليف حكومة توافق جديدة برئاسة وعضوية شخصيات ذات كفاءة ونزيهة وجديرة، تُعطى الصلاحيات التي طلبها بنفسه من القائد المؤسس ياسر عرفات، عندما ابتداع منصب رئيس الوزراء قبل عقدين تقريبًا، والهروب إلى الأمام، وتنفيذ إصلاحاتٍ وهميةٍ وفق معيار الولاء قبل الكفاءة، وتضييع الفرصة التاريخية، التي كانت لتنقذ غزّة وتشجع على إعادتها لوصاية السلطة، باعتبار ذلك الخطوة الضرورية لوقف الحرب، والخروج من النفق المسدود.
الآن، وفي ما يخص “طوفان الأقصى”، والإعداد له جملةً وتفصيلاً، هل بدء الأمر بعد حرب 2014، لم تكتمل إعادة إعمار ما دمرته حتى الآن، أم ضمن الاستنتاجات والقراءات الخاطئة والمنفصلة عن الواقع لمعركة سيف القدس مايو/أيّار 2021، التي أجهضت هبة الشيخ جراح، رغم إعادتها القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي بصفر ضحايا.
لا خلاف بالطبع حول حقّ المقاومة الأكيد والمشروع للشعب الفلسطيني، لكن ما شهدناه قد يتجاوز ذلك عمليًا، إلى ما اعتبره بعضهم بمثابة إعلان الحرب على إسرائيل، ما يطرح السؤال عن امتلاك قيادة حماس شرعية ذلك، بما في ذلك التحكم بقرار السلم والحرب بتداعياته الهائلة على غزّة والضفّة والقضية الفلسطينية عامةً. حتّى لو فرضنا جدلًا أنّها تمتلك الشرعية والمناقبية والقدرات لشن الحرب، فهل جرى نقاشٌ منظمٌ داخل مؤسسات الحركة، قال عضو المكتب السياسي، والقيادي المؤسس موسى أبو مرزوق إن شيئًا كهذا لم يحصل، كما أنّه كان ليرفضها، حول تداعيات مآلاتها ومساراتها بما في ذلك أسئلة المدرسة والجامعة والمستشفى والمزرعة والمصنع والبنى التحتية وحبة الدواء ولقمة الخبز وشربة الماء.
قبل ذلك وبعده هل غزة المحاصرة مؤهلة لحربٍ فاصلةٍ تصفها حماس نفسها بالعالمية؟ وهل جرى الإعداد للمعركة والاستغراق بيوم واحد فقط، السابع من أكتوبر؟ حسب التسريبات، ووثائق النقاش، فقد كانت كلّها ذات طابعٍ أمنيٍ وعسكريٍ، ولم يكن أيّ نقاشٍ استراتيجيٍ سياسيٍ واقتصاديٍ واجتماعيٍ.
هل صحيح أن قيادة حماس صدقت وهم وحدة الساحات، واعتمدت على إيران وأذرعها الطائفية الذين تخلوا عنها، بينما لم يطلق بشار الأسد رصاصةً واحدةً، ولا حتّى كلمةً واحدةً رغم عودة حماس معتذرةً إليه، فتح حسن نصر الله، ذراع إيران الإقليمي المركزي، والمنظّر لوهم وحدة الساحات، جبهةً مساندةً، لم تسمن ولم تغني عن جوع، نيابةً عن إيران، مع استعداد الأخيرة لقطف الثمار والمبارزة على طريقتها.
هل صحيحٌ أن بعض القيادات العسكرية الحمساوية بالخارج قرأت المشهد بدقةٍ بعد أسابيع قليلة على الطوفان، ونصحت بشق مخرجٍ لوقف الحرب، ولم تستمتع إليها قيادة الداخل؟
ضمن الحسابات الخاطئة؛ هل صحيحٌ أنّ قيادة الحركة المتنفذة بالداخل، التي همشت وتجاهلت قيادة المكتب السياسي العام، اعتقدت أن إسرائيل لن تبادر، أو حتّى تجرؤ على التفكير بعمليةٍ بريةٍ، واجتياحٍ واسعٍ للقطاع، علمًا أنّنا سمعنا أصواتًا وآراءً كهذه من ناطقين رسميين وغير رسميين باسم الحركة، مفادها أنّ إسرائيل لن تجرؤ على التقدم ولو مترًا واحدًا في غزّة.
في السياق ذاته؛ هل راهنت القيادة المتنفذة فعلاً على جولة قتالٍ معتادةٍ ومحدودة الأيام أو الأسابيع؟ ثمّ يتدخل الوسطاء، والمجتمع الدولي للتوصل إلى تبادل الأسرى، والعودة إلى التهدئة والهدنة وتفاهمات ما قبل السابع من أكتوبر، وهل يؤكد بيان يحيي السنوار، نهاية أكتوبر 2023 هذا الأمر؟
في ما يخص الطوفان لماذا تم اتخاذ قرار اجتياح المستوطنات الـ 22، وحتى الحفل الموسيقي بقرار ميداني، وعدم الاقتصار على القواعد العسكرية الـ11، ولماذا حدثت الفوضى على الحدود صباح السابع من أكتوبر، ورأينا أسر مدنيين وأطفال ونساء ومسنين في مشهدٍ أساء للمقاومة وشرعيتها.
ولماذا أخفت حماس العملية عن بقية الفصائل؟ نتيجة عدم الثقة بها! ولماذا سمحت لها باجتياح الحدود والمشاركة بعد ذلك؟
بالمدى الأوسع هل جرت دراسة التداعيات على الضفّة الغربية والتحريض على نقل نموذج غزّة إليها؟ وهل راهنت قيادة الحركة على تحركاتٍ ومقاومةٍ شعبيةٍ تستنزف الاحتلال، وتمنعه من الاستفراد بغزّة؟ وهل كانت الضفّة بعد سنواتٍ من المقاومة والانتفاضة غير المعلنة قادرةً على ذلك، رغم قيامها بما بوسعها، مع آلاف الشهداء والجرحى، وعشرات آلاف المعتقلين، وتدميرٍ هائلٍ في مخيّمات الشمال، جنين وطولكرم، وحتّى مدنها. هل جرت قراءةٌ واعيةٌ وواقعيةٌ لردود الفعل الإسرائيلية تجاه الضفّة والقدس والأقصى؟ وقيامها بمضاعفة نشاطات وفعاليات الاستيطان والتهويد، وحتّى العمل على ضم الضفّة رسميًا؟
هل درست التداعيات على الأسرى؟ مع شطب تبييض السجون من قائمة المطالب، واستفراد الاحتلال بهم، والتنكيل والتجويع والقتل البطيء، وحرمانهم من الامتيازات والمكاسب التي تحققت بفعل نضال عشرات السنين.
إلى ذلك هل قرأت حماس الواقع الإسرائيلي، والاستقطاب الداخلي في الدولة العبرية، حول خطة الإصلاح/ الانقلاب القضائي قراءةً خاطئةً؟ ولم تتوقع التكتل بذهنية القبيلة تجاه الحرب لشهورٍ طويلةٍ، إلى حين استنفاذ الخيار العسكري، بعد احتلال رفح بمعبرها ومتنفسها الوحيد ومحورها الحدودي مع مصر، في مايو الماضي، وهل تعاطت قيادة الحركة تعاطيًا خاطئًا، وحتّى سطحيًا ومستخفًا، ولم تفهم مغزى معركة رفح الفاصلة؟
هل جرت دراسة ردات الفعل العربية والإسلامية والدولية؟ وحدود القدرة على دعم غزّة، ووقف نكبتها؟ هل جرى ترجيح الرأي في ما يتعلق بالمكاسب/ المغانم مقابل الخسائر؟ وهل امتلكت حماس خطةً للخروج ووقف الحرب، بعد اتضاح الحسابات الخاطئة؟ وهل جرى فعلاً الاهتمام المبالغ فيه والزائد بتبادل أسرى معظمهم من الضفّة؟ لتعظيم مكاسب الحركة الحزبية على حساب مئات آلاف الضحايا، وتدمير غزّة، وإعادتها سنواتٍ بل عقودًا إلى الوراء.
أخيرًا هل جرى ويجري التفاوض بطريقةٍ خاطئةٍ وساذجةٍ؟ رغم كلّ التضحيات، وهل امتلكت الحركة رؤيةً لليوم التالي في غزّة؟ وهل التشبث بالسلاح أطال الحرب؟ رغم أنّه وسيلةٌ لا هدفٌ، كون استمرار المقاومة بأساليب أخرى، كما الأرواح والأرض أهمّ وأجدى. في الختام وباختصار؛ هل صحيح أن “حماس” متشبثةٌ بالسلطة، وتسعى إلى العودة بأيّ ثمنٍ إلى مساء السادس من أكتوبر 2023؟ مع تكرار الحركة حرفيًا، وبلا توقف، موقفها الثابت بضرورة أن “يحقّق أيّ اتفاقٍ قادمٍ: وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وانسحابًا كاملًا لقوات الاحتلال من قطاع غزّة، والتوصّل إلى صفقة تبادلٍ حقيقيةٍ، وبدء مسارٍ جادٍ لإعادة إعمار ما دمّره الاحتلال، ورفع الحصار عن القطاع”.
عن العربي