مهنييون رهن الاعتقال .. حين تسجن “السياسة القانون

“نسينا شكل النقود”.. يقول عبد الله يوسف الموظف في أحد المؤسسات الرسمية بالسودان. حالة عبد الله لا تبدو استثناء؛ مئات الألاف من موظفي الحكومة لم يتلقوا رواتبهم منذ أندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع قبل عامين. لكن حال الذين لم يتلقوا رواتبهم بدأ افضل وبمراحل من أوضاع مهنيين أخرين وجدوا أنفسهم تحت مطاردة السلطات بتهم تصل عقوباتها للاعدام وللمفارقة هم متهمون بجرائم موجهة ضد الدولة . يقبعون في معتقلاتها وفي أنتظار المحاكمات
حسناً وفي حضور أسئلة حرب إبريل السودانية حرب من وضد من وما هو هدفها ؟ برزت في الأونة الاخيرة موجة من الاعتقالات طالت مهنيين “معلميين .. محاميين وصحفييين وسط أتهامات للنيابة العامة بتوظيف القانون لخدمة مرامي سياسية وهي الأتهامات التي تنفيها النيابة العامة عبر بياناتها الرسمية التي تؤكد من خلالها قيامها بدورها في ملاحقة ما تعتبره جرائم موجهة ضد الدولة .
في سياق تفسيرها لما يجري بأنه حرب ضد الدولة السودانية قيدت النيابة العامة بلاغات في مواجهة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وعدداً من القيادات السياسية المعارضة للحرب . لكن المفارقة أنه تم اعتقال المحامي منتصر عبد الله سليمان بعد تقديمه طلباً للنيابة العامة من أجل الاطلاع على ملف التحقيقات في القضية المرفوعة ضد حمدوك وأخرين . بالطبع عملية أعتقال منتصر أثارت السؤال الرئيسي حول حدود الحقوق القانونية للمحاميين ونفت النيابة بشدة أن يكون أعتقال منتصر له صلة بالطلب الذي تقدم به حول القضية وانما لمخالفات قانونية أخري فيما يؤكد محامو الطوارئ ان التهم التي يواجهها منتصر ملفقة وتؤكد على توظيف الاجراءات القانونية في المعارك السياسية .
في مدينة الدمازين ومنذ يناير للعام 2024 يخوض المعلم والناشط النقابي محمد بابكر معركته في المعتقل دون أن يتم تقديمه لمحاكمة فيما يقول سامي الباقر الناطق الرسمي باسم لجنة المعلميين ان عمليات الاعتقال التي تطال المعلمين ومنسوبي اللجنة لا تخلو من الظلال السياسية مشيراً في الوقت نفسه ان شريحة المعلمين تعرضت لكافة أشكال الانتهاكات في فترة الحرب .
الحرب هي الانتهاك الأكبر لكن حتى الذين منوط بهم كشف هذه الأنتهاكات يتعرضون لها .. الاسبوع الفائت أوقفت السلطات الأمنية في ولاية كسلا الصحفية المستقلة “امتثال سليمان وتعرضت أمتثال التي تم ايقافها في احد الارتكازات للحبس لمدة ثلاث أيام قبل ان يتم أطلاق سراحها وهي الخطوة التي وصفها بيان صادر عن نقابة الصحفيين بالمخالفة للضوابط القانونية المتعارف عليها وفي الوقت ذاته لا تملك نقابة الصحفيين أو غيرها من النقابات وسيلة للضغط لايقاف مثل هذه السلوكيات التي بدأت وكانها ملمح اساسي من ملامح سودان الحرب حيث أن عمليات الاعتقال وأطلاق السراح تتم وفقاً لمزاجية النظامي الذي يقوم بها ما يؤكد وبشكل كبير غياب لسلطة القانون وأن قانون الحرب هو الذي يضبط سلوك النظاميين ويضع المدنيين تحت رحمتهم
بالنسبة للقانوني المعز الحضرة الناطق الرسمي باسم الهيئة القومية للدفاع عن الحقوق والحريات فأن ما يجري من اعتقالات الأن لا يستند على وقائع قانونية بل يمثل أعلى درجات استغلال السلطات للاجهزة القانونية بغية تحقيق أهدافها السياسية وهي ذات الاجهزة التي يتم استغلالها لمواجهة دعاة رفض الحرب . وهو مشهد يمكن متابعته وبشكل يومي في المحاكم المختلفة التي تنظر قضايا تحت دعاوى “التعاون” مع قوات الدعم السريع كما ان السجون التي عادت للعمل في المدن التي استعاد الجيش سيطرته عليها تعج بالمعتقلين تحت هذه القضايا والذين يتم حبسهم في ظروف غير إنسانية بحسب تقارير لمهتمين حول سجن ود مدني . حيث تم هناك ايقاف أطباء كانوا يعملون في مستشفي المدينة وظلوا يؤدون واجباتهم ويقدمون الخدمة العلاجية اثناء سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة قبل ان يتم أطلاق سراحهم مؤخراً .
في قضية الاستاذ محمد بابكر فأن بيان صادر عن لجنة المعلمين السودانيين أتهم هيئة الاستخبارات العسكرية باعتقاله وتعريضه للتعذيب الجسدي والنفسي وسوء المعاملة مع حرمان اسرته من زيارته وهو المدني الذي اضطر للهروب من مقر اقامته بأمدرمان للدمازين بسبب وصول قوات الدعم السريع وقالت اللجنة ان بابكر اجبر على الادلاء باعترافات امام محكمة محلية في ولاية النيل الازرق في مخالفة واضحة لمبادئ العدالة والقوانين مشيراً الا أنه لا يجوز قانوناً لاي جهة غير النيابة العامة ممارسة سلطات القبض والتحقيق بالطبع يضع البيان سؤالاً اخر مفاده هل يجوز لهيئة الاستخبارات العسكرية مباشرة اجراءات القبض والتحقيق مع المدنيين ؟
بعد عامين من الحرب وسنوات ست من الثورة التي أشعل فتيلها “المهنييون” السودانييون ضد نظام الرئيس المخلوع البشير يجد المهنيون السودانيون أنفسهم في مواجهة سيل من الأنتهاكات تبدو فيها عملية عدم الحصول على رواتبهم الأقل حدة مقارنة مع ما يواجهه أخرون قد يجدون أنفسهم وقد فقدوا أرواحهم .
الصورة الأن معلم في محابس الاستخبارات في الدمازين ومحامي معتقل في بورتسودان وصحفية تم القبض عليها واطلاق سراحها دون ان تجد اجابة على السؤال لماذا حدث ما حدث ومئات يواجهون ذات المصير دون أن تسلط على معاناتهم كاميرات الاعلام .. وما لا يمكن العبور فوقه هو العودة للوراء حيث زمان القانون في خدمة السلطة . والحرب ان لم ترديك بأطلاق النار مباشرة على صدرك سترديك عبر قانونها الخاص.
أفق جديد
المصدر: صحيفة الراكوبة