اخبار السودان

لابد من تحسين أنماط التفكير ! (4 5)

د. أنور شمبال

 

كشفت الحرب عورات المؤسسات الإعلامية وظهرت على حقيقتها من غير مساحيق تجميل، ولا ورق توت، وضربت بأهدافها ورسالتها عرض الحائط، وصارت مؤسسات للدعاية والترويج للحرب … حيث تم توظيف المؤسسات الإعلامية الحكومية كافة، وجعلها كوحدة من وحدات الجيش، أو كسلاح يستخدم ضد عدو وهو الشعب الذي توجه إليه رسالة الحرب النفسية، والتضليل الإعلامي والكذب البواح.

وإنهار الإعلام المستقل، وواجه الصحفيون حالة استقطاب حاد، والتزم البعض الصمت. علماً أنّ للمؤسسة العسكرية أجهزتها الإعلامية المتكاملة والتي تتبع لوحدة التوجيه المعنوي، تقوم بذاك الدور، وتلام وتحاسب إن قصرت في عملها، وقد كانت موضوعية أكثر من غيرها. ولكن أن تتحوّل وسائل الإعلام القومية إلى بوق حرب داخلية فهذا هو الخطل.

أحلّوا قومهم دار البوار :

يقول تبارك وتعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴿25﴾ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴿26﴾ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴿27﴾ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴿28﴾ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴿29﴾ سورة إبراهيم

هذه الآيات الكريمات هي الموجهة للعمل الإعلامي في السلم والحرب للمسلم، فالكلمة الطيبة هي: الكلمة الصادقة الأمينة، الدقيقة، الفصيحة، الواضحة، لا فاحشة ولا خادشة ولا قذف فيها. وهي القول الثابت الذي لا يثبت عليه إلّا المؤمنون حقاً، وأمّا من سواهم فيحلّون قومهم دار البوار، كما هو الحالّ بأهل السودان. وهذا من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين، ولا ينتفع بها غيرهم، وهي عليهم عمَي. والله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالذّكرى، وهو أمر لنا كذلك؛ قال تعالى: ﴿‏‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴿10﴾ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴿11﴾ سورة الأعلى، وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّر﴿21﴾ٞ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ﴿22﴾ سورة الغاشية.

مشّاؤون بنميم :

ابرزت الحرب مجموعة من عديمي الأخلاق والمهنية والوازع الديني؛ ومن لا يخجل من فعل أي شيء من أجل المال. أولئك الذين يسمّون أنفسهم بـ(اللايفاتية) أو (ناس الشّيّير) أو أصحاب البث الحي أو البث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، انستغرام، إيكس، واتساب،…)، وتطبيقات تك توك، واليوتيوب، وغيرها. حلّافون مهينون، همّازون لمّازون مشّاؤون بنميم، عتّلون، منّاعون للخير معتدون أثيمون. الذين لا يتورعون من صناعة الكذب، وبث الأراجيف، والصور اللا أخلاقية والمقززة، لإرباك المتلقي وإحداث الفتن، وخلق الفوضى التي تنتشر فيها ثقافة الاستغباء، وافساد كل نقاشٍ موضوعي جاد، وبناء ثقافة تقوم على ظن السوء والانفعال وليس على الوعي المعرفي. وهم يعيشون عقدة الكراهية والرغبة المفرطة في نشر التفرقة والفتنة، والتفاهات.

تجار جهل :

ذكر محمود بكري في تقرير مخدوم تحت عنوان: صناعة التضليل الإعلامي: الأهداف والأدوات وطرق المواجهة: (إنّ تحوّل بعض المثقفين إلى أبواق دعائية لهذه الجهة أو تلك فإنّهم يسهمون في تمزيق الأواصر التي تجمع بين أبناء البلد الواحد … وعندما ينجح الإعلام في تحويل المفكّر والمثقّف إلى “تاجر” وتتحول الأفكار والمواقف إلى سلع تشترى وتباع، فإنّ هؤلاء يتحولون إلى تجار جهل وشقاء واستبداد للأمة، ذلك لإسهامهم الخطير في تكريس الواقع المريض وإعادة إنتاجه بكامل علله). هذا ما حدث ويحدث بالفعل، وهؤلاء لا نعرف إلى أي جهة يتم تصنيفهم؟، هل هم سياسيون أم إعلاميون أم ، أم “مثقفاتيون”، أم هم أصحاب الأعراف؟!.

طارقي الطبول :

هذه الحرب وضعت صحفيين وإعلاميين كنا نعدهم من المهنيين وأساتذة لا يشق لهم غبار، بينهم رؤساء تحرير صحف، في محك صعب، فقد أتوا بما كانوا ينهون عنه وينأون عنه، و(دقوا) طبول الحرب وبثوا دعاية نخرة. ما كان يتوقعها أب ومنظّر الدعاية جوزيف جوبلز وزير إعلام هتلر صاحب المقولة الشهيرة “أعطني إعلاماً بلا ضمير، أعطيك شعباً بلا وعي”، لاعتبار أنّ الحروب المقصودة هي بين الدول وليست داخل الدولة. في حين أنّ حرب السودان هي حرب داخلية بين طائفتين من المؤمنين، والمخاطب هو المواطن السوداني. فباتوا بذلك مع الإسحاقيين (إسحق أحمد فضل الله) الذي جَوّذ الكذب للصحفي لدعم فكرته، وهي الكلمة الخبيثة ما لها من قرار. وأهلنا بقولوا حبل الكذب قصير!. وكان ينبغي لهم أن يتوسطوا للاصلاح، حتى إذا بغت احداهما على الأخرى فليقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله.

الوسيلة هي الرسالة :

الأمر سيّان عندي من اصطف إلى أيّ من طرفيّ الحرب بشطط، فهم ملة واحدة. ولعل بعض الصحفيين اضطر للعمل مع القطاع العسكري والحركات المسلحة قبيل الحرب، على أمل تحسين ظروفهم المادية والاجتماعية، بعد أن ضاقت بهم الأحوال. فباتت مهنة الصحافة تتقاذفها الاتهامات مع التطور التقني والاتصالي، مما جعل تكهنات (ماكلوهان) تتحقق حينما قال الوسيلة هي الرسالة، بمعنى من يملك الوسيلة هو صاحب الرسالة وليس غيره؛ أيّ الذي يمتلك المال والإعلام هو المتحكّم.

وصارت المعلومات تزيد الحَيرة بدلاً من إنّ تزيل الحَيرة. فالظاهرة تستحق الدراسة والتمعن للاعتبار والعظة، وقبلها لابد من اعادة خريطة إعلامنا الوطني وبناء نظام إعلامي يخدم الشعب لا النظام والمصالح الضيقة.

الموضوعية لا الحياد :

نعم تظل وسائل الإعلام مجرد أداة تسويق وترويج موجهة ومسيرة وليست حرة مخيرة؛ ما دامت خاضعة فكرياً وماديّاً لمؤسسات أمنية وإقتصادية وسياسية وفكرية تحاول تحقيقها. وغير مطالبة أن تكون محايدة وألّا تظهر موالاتها علناً! فالسمو الفكري والأخلاقي أمر يندرج في بوتقة المثالية الأفلاطونية ونحن لا نعيش في عالم المُثل بل في العالم الواقعي.

فالإعلام في جوهره فكر وسياسة، والفكر في حقيقته سياسة وإعلام، والسياسة لا تعني شيئا بدون فكر وإعلام. فما نتمناه ونطالب به الموضوعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحق. يقول تبارك وتعالى ﴿لُعِنَ الّذِينَ كفروا من بني إسرآئيل على لسان داوُود وعيسى ابن مريم، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴿78﴾ كانوا لا يتناهَون عن مُّنكر فعلوهُ؛ ولبئس ما كانوا يفعلون﴿79﴾ سورة المائدة.

التزموا بالمهنية :

هذا القول لا يهضم حق مجموعة من الصحفيين والإعلامين الذين التزموا بالمهنية والموضوعية إلى حدٍ ما، ودعوا إلى ما فيه الخير للبلاد والعباد، ومن بينهم أب الصحافة السودانية الأستاذ محجوب محمد صالح الذي ما فتئ يتوسط ويصدح بالرأي الموضوعي والواقعي، إلى أن انتقل إلى جوار ربه في فبراير 2024م، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، وهو صحفي مخضرم ومن العصاميين بنى نفسه بنفسه… وتلك المجموعة بكل أسف ممثلة كأشخاص وتنظيمات مهنية، ولا تمثل مؤسسات الدولة، وإن كان بينهم من يمثل الدولة فإنّهم لم يجهروا بآرائهم.

وعليه نأمل ونطلب من المؤسسات الإعلامية الوطنية أن تتخذ الموضوعية والاستقلالية التي تضعها في مواثيقها موضع الاحترام والتقدير، منهجاً قِيَماً. وذلك بالالتزام بأخلاقيات المهنة، والنقد البناء الذي يبقي على لحمة البلد، وتعزيز ما يحد من الصراعات المتناسلة؛ وليست بالطريقة الفجّة التي تعاملت بها مع حرب داخلية، وبأموال الدولة، بين وحدتين من القوات المسلحة السودانية نفسها، بحسب قول قائدها.

ونواصل

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *