صناعة السياسة في إسرائيل (2)

أمد/ يديعوت أحرونوت يهودا شوحط: في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ضرب الإرهاب الفلسطيني عمق الدولة، وقد كنت فتاة تبلغ من العمر 18 عامًا تم تعيينها لتوها كمراسلة عسكرية في إذاعة الجيش (ﭼـالي تساهل).
كان الجيش الإسرائيلي ينفذ في الليل عمليات عسكرية في المدن الفلسطينية للقضاء على أوكار الإرهابيين. ومع مرور الأيام، تم تزويدي بإثنين من أجهزة النداء وميكروفون، تم إرسالي لمرافقة القوات في رام الله وجنين ونابلس وتغطية ساحات الهجمات الإرهابية والجنازات. أحيانًا تكون عدة جنازات متتالية في يوم واحد. لقد حاولوا تهيئتنا نفسيًّا لهذه اللحظة، التي يجب التوجه فيها إلى عائلة ثكلى، بعد فترة وجيزة من وقوع أسوأ ما في الأمر. لكن لا شيء يهيئنا، ولا يمكن أن يهيئنا، لحقيقة وقوع عدد كبير من الضحايا، والتي بالكاد يمكن إعطاء كل واحد المكان اللائق. ربما لن أعتاد أبدًا على هذا الجزء من العمل الإعلامي.
كانت هذه أول مهمة لي في الإعلام، وقد شكلت إلى حد كبير الصحفية التي أنا عليها اليوم.
حان الوقت لنقول إن عمل المراسلين في إذاعة الجيش لا يقتصر على إعداد المقالات وعلى البث المباشر، بل يشمل أيضًا “مناوبات” مناوبات رمادية في مكتب الأخبار. يصل إلى هذه المناوبات مراسلون ذوو عيون مرهقة في الساعة 4:00 فجرًا ويساعدون في إعداد البث الذي يبدأ في 7:00 ويصل دائمًا مبكرًا جدًّا لأولئك الذين يعملون عليه.
كانت مهمتي هو اقتطاع بضع جمل من كل مقابلة في البرنامج لصالح عناوين اليوميات التي يتم بثها كل ساعة. صدق أو لا تصدق، ولكن في ذلك الوقت، في عام 2001، كنا لا نزال نعمل على البكرات والقص واللصق بشريط سيلوفان خاص. ذات صباح كنت أستمع إلى مقابلة وقطعت منها مقطعًا مدته 25 ثانية. ووضعت العجلة في سلة المقاطع الجاهزة وواصلت إلى المهمة التالية. أدركت أن المقطع تم بثه وفقًا لصراخ رئيس التحرير. خرج من الاستوديو بطريق الخطأ وبحث بجنون عن المراسلة التي قصته. اتضح أنني ارتكبت جريمة بقص مقطع طويل. أوضح المحرر إذا كان بإمكانك تسميتها صرخات تصم الآذان أن المستمعين عندما تكون المقاطع طويلة جدًا ينتقلون إلى محطة أخرى، أو كما يطلق عليها في عالم التلفزيون: تمرير القنوات بواسطة جهاز التحكم عن بُعد. كان هذا أول تعارفي الشخصي مع “المقطع الصوتي” وهو مصطلح أصبح على مر السنين رمزًا لإدمان وسائل الإعلام على العناوين المثيرة على حساب الرسالة المعقدة.
عندما كنت في السادسة من عمري، انتقلت عائلتي إلى الولايات المتحدة. شغل والدي ألون منصب القنصل العام في أتلانتا وانتقلت من “عاصمة إسرائيل ” القدس إلى عاصمة الجنوب الأمريكي. أتذكر نفسي وأنا أقف مفتونةً عند مدخل فرع ماكدونالدز الضخم الذي يشبه مدينة الملاهي. كان الذهاب إلى مطعم في البلاد، في أواخر الثمانينيات، دلالاً مخصصًا لأيام السبت أو المناسبات الخاصة، بينما كان في أتلانتا شأناً يومياً. وجبة كاملة بأقل من دولار. كانت ثورة الوجبات السريعة متاحة ولذيذة وتستحق كل قرش. في ذلك الوقت لم يعرف أحد كم تضر الأطعمة المصنعة بالصحة.
عندما أنظر إلى وسائل الإعلام، أتذكر صورة البروفيسور كال نيوبورت، الباحث في العصر الرقمي، عن ثورة استهلاك الغذاء. بعد سنوات استهلكت فيها وسائل إعلام سريعة وسهلة الفهم، أراد الجمهور شيئًا إضافيًّا آخر. ليس بدلاً من الوجبة السريعة بل إضافة إليها، إلى جانبها. شيء أبطأ وأكثر عقلانية يغذي الفضول الطبيعي.
حتى اليوم هناك الكثير ممن لا يتخلون عن موجز الأخبار والتحديثات في النشرات، ولكن في عصر المعلومات هذا لا يكفي. بطبيعة الحال، لا تستطيع الصحافة اليومية الانخراط في العمق في مختلف المواضيع التي على جدول الأعمال. يبلغ متوسط نشرة الأخبار حوالي 50 دقيقة صافية، وما لا يقل عن 15 مجال تغطية حدث فيها شيء مهم الأمن والسياسة والاقتصاد والشرطة والقانون والتعليم والرياضة والثقافة وغير ذلك، وذلك قبل أن نقول كلمة واحدة عن الأحداث العملاقة مثل وباء عالمي. في دقيقتين أو ثلاث دقائق من الممكن ربما تضمين الميمات الخمس المعروفة: مَنْ وما ومتى وما الداعي ومكان، ولكن لم يتبق مجال للميم السادسة المعنى والسياق الواسع.
في السنوات الأخيرة، وجد المستهلك الإعلامي نفسه في “تكتيك الكماشة” فمن ناحية، تقدم وسائل الإعلام القليل جدًا من المعلومات لأولئك الذين يرغبون حقًا في فهم القصة بعمق، ومن ناحية أخرى، محيط المعلومات على الشبكة يعطي أكثر بكثير. هناك حاجة إلى منصة إضافية توفر سياقًا واسعًا ومعلومات موثوقة. هكذا ولدت البودكاست (المدونة الصوتية) “صناعة السياسة”.
حدث ذلك قبل خمس سنوات، أثناء تناول فنجان قهوة في أبراج عزرائيلي في تل أبيب. جلست مع ران ليفي، رئيس تحرير شبكة البودكاست “صناعة التاريخ”، ولم يكن واضحًا لكلينا ما إذا كانت هناك فرصة لذلك. اعتاد الجمهور على حقيقة أن المناقشات السياسية تحتدم في لحظة وتتحول إلى معركة صراخ في الاستوديو. لم نكن نعرف من سيكون له صبر لسماع رجل سياسي أو خبراء ينشرون فكرة إلى العمق. علاوة على ذلك، السياسة ليست تاريخًا، المجال الذي كان حتى ذلك الحين يلعب دور البطولة في تقييم استماعات البودكاست. إنها ديناميكية مثل صورة سحابة في الرادار. فقط ارفع عينيك عن الشاشة، سترى الصورة بالفعل تعمل بشكل مختلف قليلاً. من ناحية أخرى، يجب أن يكون البودكاست سريع الزوال وأن يظل ذا صلة لسنوات.
احترنا وترددنا، لكننا قررنا المضي في ذلك. بدأنا الفصول التي تعيد فحص القضايا في السياسة مثل لماذا يتحول قادة اليمين إلى اليسار؟ هل تم بالفعل إفساد السياسة على مر السنين؟ وما سر قوة جماعات الضغط؟ قمنا تدريجياً بتفكيك القضايا السياسية المشتعلة التي تهم المجتمع الإسرائيلي إلى عوامل، من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحتى قضايا الدين والدولة. درسنا أيضًا القضايا الأساسية التي لا تتأخر عادة في وسائل الإعلام، مثل كيفية اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء المصغر (الكابينيت)، وكيفية إجراء الاقتراع، ولماذا يعتبر قانون التجنيد خدعة كبيرة. إن ما يميز “صناعة السياسة” هو أنك تبدأ من الصفر، بحيث يكون الجميع في نفس الصفحة، ومن هناك نبني برج المعرفة. يخلق الكل صورة معكوسة للسياسة الإسرائيلية في بداية العقد الثالث من الألفية.
كان البودكاست مجرد همس شفوي ثن نما بوتيرة مذهلة. في أقل من عام ونصف وصلنا إلى مليون مستمع إجمالاً، ومنذ ذلك الحين تضاعف هذا الرقم عدة مرات. اليوم كل حلقة يتم عرضها لديها عشرات الآلاف من المستمعين، وأكثر أو أقل عدد مشاهدات العناوين الرئيسية على أحد مواقع الإنترنيت الرائدة. من الناحية العددية، أصبحنا وسيلة إعلامية بانتشار وطني ونحن لم نعد الوحيدين.
جميع وسائل الإعلام الرائدة في البلاد تقريبًا لها اليوم قسم للبودكاست يوفر سياقًا واسعًا للعمل الصحفي. أصبح الـ “slow food ” الغذاء البطيء لوسائل الإعلام منتجًا استهلاكيًا جماعيًا.
طوال هذه الرحلة تأثرت عدة مرات. مرة بسبب الشاب الحريدي المتزمت الذي أخبرني أنه لم يكن يعرف شيئًا عن المنظومة العامة إلى أن تعرف على البودكاست؛ ومرة بسبب الجندي الذي اقترب مني وقال إنه ما كان لينجو من الحراسة بدون حلقاتنا؛ ومرة بسبب معلمة التربية الوطنية التي أخبرتني أن البودكاست يجعل الطلاب مهتمين بالسياسة. والحقيقة هي أنه يجبرني أيضًا على التعلم المستمر وعدم الانغماس في عناوين الأخبار التي تتحدث عن “هنا والآن”. مرة كل أسبوعين، أحصل على موضوع، وأدرسه من جميع الاتجاهات، وأخيراً أجلس لاختبار صعب جدًّا ملاحظات المستمعين.
بعد ما يقرب من أربع سنوات في الهواء، بدأنا نرى أن النقاط تتصل. في كل مرة كنا نعود فيها إلى موضوع معين ونتعمق فيه، تنكشف طبقة أخرى من المعرفة بكنوز جديدة ورائعة. وجدنا مناقشات تلامس بعضها البعض، تكمل بعضها البعض وتخلق مساحة أوسع. يقدم الكتاب الذي أمامكم لمحة عامة عن السياسة الإسرائيلية. فهو يجمع 110 حلقات بودكاست تم بثها في أفكار رئيسية ويضيف رؤى جديدة إليها.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام: يتناول أولها الموضوع السياسي ويركز على الاتجاهات الجديدة لفكر اليمين واليسار والوسط والفلسطينيين. في القسم الثاني سنتعرف بشكل أعمق على السياسة العربية والسياسة الحريدية المتزمتة ونركز على القضايا المتفجرة التي تهمهم. القسم الثالث مكرس للتغيرات التكتونية التي مرت بها السياسة في عصر المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعية. أما القسم الرابع فيتعلق بالسياسة نفسها كيف تجري عملياً، بدءًا من الاستطلاعات والحملات وانتهاءً باللجنة الوزارية للتشريع ومجلس الوزراء المصغر (الكابينيت).
من وجهة نظري، الكتاب هو دليل الحيارى للعالم السياسي كما يدار من خلف الكواليس نوع من زيارة الممرات التي تسمح بإلقاء نظرة على الغرف المغلقة التي تدار من داخلها حياتنا. آمل بصدق أن يتمكن الكتاب من صقل القضايا الأساسية التي تؤثر على كل واحد منا كمواطنين في الدولة وأن يساهم في تفكيك الألغام التي هي في صميم الخطاب الإسرائيلي. إنه مخصص لمئات الآلاف من مستمعي “صناعة السياسة” مجتمع ضخم وشغوف للمعرفة يتكون من أناس يهتمون ويفهمون أن القرارات المصيرية يجب أن تُتخذ معًا، بناءً على المعلومات والإلمام الحقيقي بجميع فئات المجتمع.
الفصل الثاني مركز اليمين * بنيامين نتنياهو
ستوجهك البوصلة إلى الشمال الحقيقي من المكان الذي تقف فيه، لكن ليس لديها نصائح بالنسبة للمستنقعات والصحاري والهاوية التي ستصادفها على طول الطريق. إذا كنت في المطاردة تندفع إلى الأمام وتتجاهل العقبات، وكل ما تحققه هو الغرق في المستنقع.. فما فائدة معرفة مكان الشمال الحقيقي؟
(كلام ابراهيم لينكولن، من فيلم “لينكولن ” لستيفن “لينكولن “)
نقطة أرخميدس التي بموجبها تدار السياسة الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين هي بنيامين نتنياهو؛ الشخص الوحيد الذي قيل عنه إنه قادر على جلب 70 مقعدًا 35 معه و35 ضده. عدد لا نهائي من الأفلام والمسلسلات والكتب كُتبت عن الرجل، الذي كان حتى وقت قريب الرجل القوي في السياسة الإسرائيلية ويقود اليمين منذ عقدين ونصف، على التوالي تقريبًا.
يعتبر فحص التصور السياسي لنتنياهو مهمة تحدي. يبدو أحياناً أنه لا يوجد مثل هذا التصور وأن نتنياهو يحاول فقط “العودة إلى البيت بسلام”. الوضع ليس هكذا. وصل نتنياهو إلى النظام السياسي برؤية متبلورة، غيرت أنماط التفكير في إسرائيل والشرق الأوسط بأكمله. نتنياهو هو اليوم تلاحقه التصورات السياسية التي روج لها في السنوات الأخيرة وأصبحت بحكم الواقع سياسات اليمين السلام الإقليمي وإدارة الصراع والسلام الاقتصادي، وهي مترابطة بعضها ببعض.
قدم نتنياهو تصوره السياسي والأمني للعالم منذ عام 1993، في كتابه “مكان تحت الشمس “،[1] وهو “أنا أؤمن ” كتاب سميك نُشر بعد مرور عامين في طبعة عبرية.[2]
الصحفي أنشيل بيبر، الذي كتب سيرة شاملة عن نتنياهو،[3] يوضح أن “مكان تحت الشمس” في الواقع ثلاثة كتب: “تاريخ الشعب اليهودي” و”الصهيونية أليبا دانتنياهو”؛ خطته لحل النزاع المسماة “السلام المستدام”، والكتاب الثالث “دليل للمفسر الوطني”. “في التصور التاريخي لنتنياهو “، يلخص بيبر، ” نحن هنا لأننا بنينا هذا البلد قبل 2000 عام. إنه يذكر الدين والكتاب المقدس (التاناخ)، لكن حجته الرئيسية هي الحجة الكلاسيكية “كنا هنا من قبل”. ليس فقط من حيث الكتاب المقدس، ولكن أيضًا تاريخيًا ولأننا طورنا البلاد”.
هناك نقطة مهمة في الكتاب: من وجهة نظر نتنياهو، بما أن اليهود كانوا الأغلبية في أرض إسرائيل حتى القرن السابع الميلادي، فإن نقطة المغادرة والمنفى ينبغي أن تُرى ليس في خراب الهيكل والغزو الروماني سنة 70 بعد الميلاد، بل بعد مرور مئات السنين، في القرن السابع.
يشرح بيبر: “لماذا؟ لأنه في ذلك الحين وصل الاحتلال الإسلامي”. “نتنياهو في الحقيقة يدمج التاريخ اليهودي مع الصدام بين الحضارات الإسلامية والغربية. بالنسبة له، أرض إسرائيل هي البؤرة الأمامية للعالم الغربي”.
نتنياهو لا يكرر عبارة جولدا مئير الشهيرة، “لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني”، ولكن في النص الفرعي يفعل كل شيء لادعاء أنه (الشعب الفلسطيني) ضرب من الخيال، شعب خلق بعد الحركة الصهيونية، كرد فعل يهدف إلى خدمة المسلمين. يتابع بيبر: ” يستخدم نتنياهو عبارة إسرائيل زانغويل، ” أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض “. “في الواقع، بحسب نتنياهو، لم يكن هناك أناس آخرون ولكن كانت هناك برية وجاء الصهاينة وطوروا المنطقة. بل إنه يزيد ويدعي أنه بعد وصول طلائع الصهاينة (هحلوتسيم) الذين طوروا البلاد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جاء المزيد من العرب”.
المؤرخون بالطبع، جادلوا وسيجادلون، كعادتهم، لكن ما هو وثيق الصلة بقصتنا هو الافتراض الذي عمل نتنياهو على غرسه في الجمهور على مر السنين نحن، اليهود، الوحيدون الذين لهم حقوق على هذه الأرض، بينما الفلسطينيون هم حصان طروادة الذي وُجد لمساعدة العالم العربي على القضاء على الكيان الغربي الصغير الذي نشأ على أرض إسرائيل.
يصف بيبر نهج نتنياهو: “مهما جئنا نحوهم وحاولنا التوفيق بينهم فهذا لن يساعد”. لقد رأى منظمة التحرير الفلسطينية على أنها محتال يحاول العمل على مرحلتين أولاً الحصول على الأراضي التي تكون إسرائيل مستعدة للإفراج عنها مقابل اتفاقية سلام، ثم محاولة السيطرة على الدولة بأكملها”.
ومع ذلك، كيف يمكن تحقيق “السلام المستدام” كما يعرِّفه هو؟ بحسب بيبر، يرى نتنياهو أمام عينيه سلام ردع. السلام، في رأيه، ليس شيئًا نحتاج إلى الوصول إليه الآن، بل هو تفاهم تدريجي يتشكل بين الشعوب العربية، بحيث لا يمكن تحريكنا وإزاحتنا من هنا، وفقط عندما يستوعب جيراننا أننا أقوياء وحازمون ومتجذرون هنا يتحقق السلام الذي طال انتظاره.
إلى حد كبير، يستند هذا التصور إلى “الجدار الحديدي” لزئيف جابوتنسكي، الذي ادعى بأن السلام لن يتحقق إلا عندما تقيم إسرائيل جدارًا حديديًّا وهميًّا، يوضح لجيرانها أن وجودها في الساحة لا يمكن تقويضه. “هذا مفهوم مختلف تمامًا عن المفهوم الدبلوماسي الغربي الكلاسيكي، والذي بموجبه أن صنع السلام يتم مع الأعداء، من خلال الاتفاقات التي يتنازل فيها كل طرف للآخر، ” يتابع بيبر. “نتنياهو لا يعتقد ان مثل هذا السلام يمكن أن يُصنع مع العرب “.
كما قال نتنياهو في خطاب ألقاه في الكنيست في 15 أكتوبر 2020، بمناسبة توقيع اتفاقات أبراهام، إن “السلام لا يصنع مع الأعداء”، خلافا لتصريح رابين الشهير الذي ذكر عكس ذلك تماما. وأضاف أن السلام يتحقق “مع من قرر بالفعل أنه يريد السلام ولم يعد ملتزمًا بتدميرك”. بالنسبة لنتنياهو، هذا لا علاقة له بالفلسطينيين، لأنهم من وجهة نظره لم يتقبلوا وجود دولة إسرائيل. نتنياهو جلب إلى الساحة مقلوب الهرم. بدلا من “الفلسطينيون أولا ” “العالم العربي أولا “. بالنسبة له، يأتي الفلسطينيون في النهاية، كملاذ أخير. لقد كان هذا ابتكارًا ثوريًّا، بعد سنوات من التصور السائد بأن الدول العربية لن تتخلى أبدًا عن شقيقتها الصغيرة، السلطة الفلسطينية.
في الواقع، بدأ الجانبان، اليمين واليسار، في تطوير نهج إقليمي في اليمين، كانت النية هي إبرام اتفاقيات مع الدول العربية، والتي ستقود الفلسطينيين إلى الاعتراف بأن إسرائيل هي أمر واقع ويجب التفاوض معها بشروط مقبولة. وفي اليسار، كانت النية هي التوصل إلى اتفاقية سلام بصفقة شاملة اثنتان على بطاقة واحدة الفلسطينيين والدول العربية. شرق أوسط جديد، إذا صح التعبير.
في عام 2014، في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة، قال نتنياهو إنه من أجل تعزيز عملية السلام، يجب أن ننظر ليس فقط إلى القدس ورام الله، ولكن أيضًا إلى أبو ظبي والرياض وأماكن أخرى.
كان توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية بمثابة التحقيق النهائي لتصور “العالم العربي أولًا”، وذلك رغم أنه حتى نهاية ولاية نتنياهو لم يكن هناك دلائل على أن التقدم أمام دول الخليج أدى إلى تحول في الساحة الفلسطينية أو أن نتنياهو مهتم على الإطلاق بمثل هذا التحول. بعد إنهاء ولايته كرئيس للولايات المتحدة، ادعى دونالد ترامب في مقابلة مع باراك رافيد أن نتنياهو لم يرغب أبدًا في إبرام صفقة مع الفلسطينيين.
قال ترامب لرافيد: “طوال حياتي كنت أبرم الصفقات”. “أنا مثل صفقة كبيرة واحدة. عندما التقيت نتنياهو لأول مرة، نظرت إليه وبعد ثلاث دقائق قلت: أنت لا تريد عقد صفقة، أليس كذلك؟ قال لي: هه… هه… هه… شعرت أنه يمكننا الحصول على صفقة مع الفلسطينيين، لكنه لم يكن يريد… “.[4]
هنا دخلت في الصورة عناصر أخرى في تصور نتنياهو، والتي وجهته على مر السنين السلام الاقتصادي وإدارة الصراع. هذان في الواقع هما وجهان لعملة واحدة. الهدف من إدارة الصراع هو الحفاظ على الوضع بدون التصعيد الأمني، كنوع من المراوغة، تحدد إسرائيل خلالها حقائق على الأرض وتنتظر عملية الاستيعاب لدى الفلسطينيين. وسيلة تهدئة الأرض من المفترض أن يكون السلام الاقتصادي.
في 20 يناير 2008، عرض نتنياهو، زعيم المعارضة آنذاك، النهج في مؤتمر هرتسليا ومنذ ذلك الحين استمر في التلويح به.
“السلام الاقتصادي ممر لإمكانية السلام السياسي فيما بعد… صحيح أنه لا يحل مشكلة التطلعات الوطنية، لكن يفترض أن يتيح لنا الوصول إلى حوار بشأنها في وضع أفضل “..قال ذلك من على المنصة. كان المنطق بسيطًا: كلما ارتفعت جودة حياة الفلسطينيين، زاد “ثمن خسارتهم”، وزادت فرصة التوصل إلى تسوية سلمية.
تم تبني الخطة من قبل أجنحة عريضة في اليمين، لكن اليسار وبعض دول العالم اعتبرها محاولة للتهرب من حل النزاع وتأجيل النهاية. ادعى البعض بأن نتنياهو لن يطبقها على الإطلاق، وخلال فترة ولايته زادت جودة الحياة في السلطة الفلسطينية، ولكن ليس بشكل كبير. على مر السنين، امتنع نتنياهو عن تقديم خطوات اقتصادية مهمة في الضفة الغربية خوفا من دفع ثمن سياسي لها في اليمين. كانت معظم التحركات التي قام بها لتحسين جودة حياة الفلسطينيين طفيفة وتم إجراؤها تحت ضغط أمريكي. المفارقة هي أن نتنياهو فشل، على سبيل المثال، في الترويج لبناء 14 ألف وحدة سكنية للفلسطينيين غرب قلقيلية بسبب ضغوط من بينيت، الذي تفتخر حكومته اليوم بتعزيز السلام الاقتصادي وتحسين جودة حياة الفلسطينيين. في الواقع، كانت إحدى الخطوات الأولى لحكومة بينيت لابيد هي منح تصريح عمل لـ 15 ألف فلسطيني إضافي واستئناف اجتماعات العمل بين الوزراء الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومع ذلك بينيت يعلن أنه لن يدفع في أي مرحلة في اتجاه مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، وبالتالي فإن السلام الاقتصادي بالنسبة له هو المحطة الأخيرة وليس وسيلة لتمهيد الأرضية للمفاوضات، كما يطرح نتنياهو. من الناحية العملية، يبدو أن نتنياهو أيضًا لم يكن مهتمًا حقًا بالتحدث مع الفلسطينيين، لكنه استخدم هذا التكتيك لدرء الضغوط.
يقول بيبر: “بكل ما يتعلق بالفلسطينيين، عاش نتنياهو طوال العشرين سنة الماضية وفقًا لبوصلته الداخلية”. “لديه هدف وهناك بوصلة، لكنه سياسي ماكر بما فيه الكفاية ليقوم بالالتفافات في طريق العودة إلى المسار الرئيسي. بعض الناس ينظرون إلى فترة ولايته ويرون خوفًا من تغييرات دراماتيكية، والبعض يراها على أنها اختيار متحفظ “. هو يعتقد أن الوقت يعمل لصالح إسرائيل. ينبغي أن نتذكر أن نتنياهو هو رئيس الوزراء الذي قُتل خلال فترة ولايته أقل عدد من الجنود والمدنيين.
على عكس بيبر، الصحفي أرييه إلداد، الذي شغل سابقًا منصب عضو الكنيست عن الوحدة الوطنية والقوة لإسرائيل، ومؤلف كتاب “أشياء يمكن رؤيتها من هنا “،[5] يدعي أن نتنياهو ليس مفكرًا بل ينتمي إلى سلالة زعماء براغماتيين مثل أرئيل شارون وإيهود أولمرت. يقول إلداد: “لقد جاء بحمولة ضخمة من بيت أبيه”. “كان بنتسيون نتنياهو زعيمًا أيديولوجيًّا، وسكرتير جابوتنسكي. ونجح نتنياهو الابن نظريًّا لكنه فشل في الاختبار. ووافق على تقديم تنازلات مؤلمة
من حيث أن قادة أيديولوجيين مثل إسحاق شامير لن يجرؤوا على التفكير فيهم “.
ويزعم إلداد أن شروط نتنياهو تتسم بالخطاب اليميني قبل الانتخابات وعكس ذلك بعدها. عندما كان نتنياهو سفيراً لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، أوضح أن اتفاقيات أوسلو كانت كارثة وغير أخلاقية، لكن عندما تولى منصبه لم يلغها. بل بالعكس، وقع في عام 1998 اتفاقية واي مع عرفات، التي حددت جداول زمنية لتنفيذ اتفاقيات أوسلو ونقل للفلسطينيين 13 في المائة من الأراضي في الضفة الغربية ومدينة الخليل بأكملها تقريبًا “.
وهذا، بحسب إلداد، كان أيضًا على الجبهة السورية. عندما كان في المعارضة، كان نتنياهو هو المنظر اليميني، وعندما تم انتخابه غيّر الاتجاه. وأوضح “لقد هاجم بشدة رابين بشأن المفاوضات مع سوريا، وعندما حل محله، أرسل رون لاودر لإدارة المفاوضات نفسها”، وادعى أنه عندما عاد إلى المعارضة، كان يقول “لن ننسحب من مرتفعات الجولان، وعندما عاد إلى الحكم عاد إلى المفاوضات. ما أنقذ مرتفعات الجولان في النهاية هو الربيع العربي وليس نتنياهو”. “وبالفعل، في أكتوبر 2012 كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت ” أنه في أواخر عام 2010، بالقرب من اندلاع المظاهرات، أرسل نتنياهو رسالة إلى الأسد بأنه سيوافق على الانسحاب من هضبة الجولان مقابل التزام سوريا بقطع التحالف مع إيران وحزب الله.[6] توقفت الاتصالات السرية في مارس 2011. عندما تبين أن مظاهرات الربيع العربي تتطور إلى ثورة حقيقية ضد الأسد.
مواقف نتنياهو خلال فترة فك الارتباط، بحسب إلداد، هي اختبار كلاسيكي لشخصيته. بعد كل شيء، صرح نتنياهو مرارًا وتكرارًا أنه يعارض هذه الخطوة، لكنه دعمها على المستوى العملي في الكنيست. واستقال من الحكومة قبل أسبوع واحد فقط من بدء فك الارتباط.
يعتبر إلداد خطاب بار إيلان في عام 2009، رسالة استسلام كامل: “لقد قال هناك أشياء تتعارض مع أيديولوجيته الأساسية ومدلولها إقامة دولة فلسطينية على أرض إسرائيل “. هكذا قال نتنياهو مساء ذلك اليوم: “إذا تلقينا ضمانًا بشأن نزع السلاح والترتيبات الأمنية اللازمة لإسرائيل، وإذا اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، فسنكون مستعدين في اتفاق سلام مستقبلي للتوصل إلى حل لدولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب الدولة اليهودية.
“إلداد مستعد لقبول أن هذه كانت مناورة تكتيكية لنتنياهو، لكنه لا يأبه بالعواقب والتداعيات. وأضاف: “عمليا هذا البيان هو عمل سياسي لا رجوع عنه. هكذا أيضًا التنازلات التي قدمها داخل غرف التفاوض حتى لو لم تؤد إلى اتفاق”.
الصحفي أنشيل بيبر رأيه مختلف. صحيح أنه خلال فترة ولايته الأولى، اضطر نتنياهو إلى توقيع اتفاقية واي واتفاقية الخليل، إلا أن الحديث عمليًّا يدور حسب كلامه حول جزء بسيط من نسبة مئوية، وهو ميراث من حكومة رابين، ومنذ ذلك الحين لم يقدم أي شيء. “في شروطه الأخيرة، لم يكن نتنياهو مستعدًا بأن يُري خريطة للفلسطينيين والتحدث عن نسب الأراضي والحدود، وبالتأكيد ليس عن القدس واللاجئين. كما وضع شرطا شبه مستحيل على الفلسطينيين لاستئناف المحادثات عندما طالب “أولا وقبل كل شيء، اعترفوا بحقنا في الأرض، وبعد ذلك سنتحدث”.
حتى في خطاب بار إيلان، لا يرى بيبر تغييرًا في الخط. “صحيح أن نتنياهو وافق على قول عبارة “دولة فلسطينية” بضغط أمريكي، لكن الشروط التي وضعها كانت من النوع التي لا يمكن لأي زعيم فلسطيني أن يوقع عليها اعتراف بالرواية الإسرائيلية (دولة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي)، حل مشكلة اللاجئين خارج حدود دولة إسرائيل ونزع السلاح من الدولة الفلسطينية المستقبلية. إنه كان يعلم أن ذلك لن يحدث أبدًا ولذلك يجب اختباره حسب النتيجة. البلاغة على حده والأفعال على حده.
بيبر يميز بين نتنياهو المتحدث ونتنياهو الكتاب. وقال: “نتنياهو ما زال يؤمن بكتابه”، “طوال فترة حكمه، أنهك الفلسطينيين وجميع الدبلوماسيين الغربيين. حتى جون كيري الذي أجرى 400 مكالمة هاتفية للأطراف خلال أربع سنوات، وكان مقتنعا بأنه سيكون قادرا على شق الطريق”.
وفقا لبيبر فقد اضطر نتنياهو إلى أن يكون مرنًا خطابياً بسبب دخول أوباما إلى الصورة وتعزيز رواية الدولتين على الساحة الدولية. “حقيقةً أن هذا البرنامج استمر في الحصول على دعم هائل هو أكبر فشل إعلامي لنتنياهو في الثلاثين عامًا، الأخيرة “، يقول بيبر. عندما حل ترامب محل أوباما، تبنى نتنياهو المصطلح “دولة ناقصة”، رغم أنه يعارض في كتابه حتى دولة منزوعة السلاح. وفقا له، بمجرد انسحاب إسرائيل، لن تكون لها سيطرة على ما يحدث في السلطة الفلسطينية وستبقى بحدود غير دفاعية، خاصة في الشريط الضيق من السهل الساحلي.
حتى في المحادثات مع ترامب حول الضم، يمكن رؤية تشدد نتنياهو تجاه الفلسطينيين. يقول رافيد إنه عشية 1 يوليو 2020، التاريخ الذي أمكن فيه تعزيز الضم بموجب اتفاق الائتلاف مع غانتس، عمل نتنياهو مع الأمريكيين لضم ما بين 13 و 14 في المائة من الضفة الغربية. لقد أراد هذه الخطوة بشدة لدرجة أنه هدد بتنفيذها من جانب واحد. لم ينكر الأمريكيون الضم الرمزي، لكنهم سعوا بألا يُنظر إليه على أنه استيلاء على الأراضي، بل كخطوة أولية لعقد صفقة القرن. لذلك طلبوا من إسرائيل بأن تقوم على الأقل بإيماءات تجاه الفلسطينيين، مثل ترخيص منازل غير قانونية أو توسيع الحكم الذاتي. رفض نتنياهو بشدة ووافق على الاعتراف بنسبة 0.2٪ فقط من البناء غير القانوني في المناطق. لقد كان هذا بالطبع “non starter”، والضم أماته. قيل للصحافيين الذين تساءلوا عن سبب مجيء الأول من تموز ولم يحدث شيء أن “المناقشات الأمنية مستمرة ” ولم يسقط الموضوع على الإطلاق.
في نقطة واحدة، يتفق بيبر مع إلداد: في موضوع الإفراج عن الأسرى تصرف نتنياهو بشكل مخالف لرؤيته وفضل المصالح السياسية. عندما دخلت صفقة جبريل حيز التنفيذ في مايو 1985، عمل نتنياهو سفيراً لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، كتب لاحقًا في كتابه أنه عارض بشدة الصفقة، التي تضمنت إطلاق سراح 1,150 سجينًا أمنيًّا مقابل ثلاثة سجناء، بزعم أنها أدت إلى موجة من القتل وسفك الدماء: “رأيت في صفقة جبريل صفعة قاتلة لكل جهود إسرائيل لتشكيل جبهة مكافحة دولية ضد الإرهاب. كيف يمكن لإسرائيل أن تحث الولايات المتحدة والغرب بتبنيها سياسة عدم الاستسلام للإرهاب بينما تستسلم هي نفسها بهذه الطريقة المخزية؟
كنت مقتنعًا بأن إطلاق سراح نحو ألف إرهابي ليدخلوا أراضي الضفة الغربية والقطاع سيؤدي إلى تصعيد رهيب للعنف، لأن هؤلاء الإرهابيين سيقبلون كأبطال، كقدوة للشباب الفلسطيني… والنتائج لم تتأخر. اليوم من الواضح بالفعل أن إطلاق سراح ألف إرهابي كان أحد العوامل التي وفرت مخزونًا من المحرضين والقادة الذين أشعلوا نيران الانتفاضة “.[7]
كلمات فصيحة ولا يزال يُذَكِّر بيبر، أن نفس نتنياهو أطلق أكثر من 1000 أسير أمني مقابل جلعاد شاليط بعد 26 سنة.
إذن ما الذي جعله يدور ويفعل شيئاً يرى أنه خطر من الناحية الأمنية؟ وفق بيبر، “أن مبادئ الاتفاق وضعت أمام نتنياهو قبل وقت طويل من توقيع الصفقة، لكنه ألغاها تمامًا كما فعل أولمرت من قبله. لقد غير موقفه في وقت كان فيه عند مستوى منخفض في الاستطلاعات، وفي العناوين الرئيسية، تألق الاحتجاج الاجتماعي الذي أضر به. لقد أدرك ببساطة وجود فرصة لتحويل الأضواء عن الاحتجاج”. وبعبارة أخرى نتنياهو لم يقاوم إغراء تحسين وضعه السياسي وانحرف بشكل حاد عن المبادئ التي دعا إليها على مر السنين.
كيف ستُذكر أيام نتنياهو؟ من المبكر أن نعرف. هل سيُنظر إلى السنوات الـ 12 من ولايته الثانية على أنها سنوات لم يحدث خلالها شيء في الساحة الفلسطينية أم كنقطة تحول سواء في التصورات العامة أو في الواقع على الأرض؟
إذا سألنا نتنياهو عن أعظم إنجازاته، فلن يختار على الأرجح اتفاقات أبراهام. من وجهة نظره، فإن أعظم إنجازاته هو حقيقة أنه تمكن من إيقاف المفاوضات مع الفلسطينيين، دون دفع ثمن سياسي كبير من إسرائيل. إنه ببساطة عوَّد العالم على واقع جديد لا توجد فيه اتصالات سياسية ولم ينتهِ العالم. يؤمن نتنياهو بكل إخلاص أنه الشخص الوحيد القادر على وقف الضغط السياسي لإعادة الدولة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات.
كما أنه على مستوى الوعي الداخلي سجل نتنياهو إنجازا. خلال فترة عمله، انكسرت “الرابطة “السياسية بين اليمين واليسار، وجزء كبير من الجمهور الإسرائيلي قَبِلَ نهج الجمود الذي تبناه، والتصور بأن المفاوضات لا جدوى منها. لقد حقق نتنياهو نجاحًا مذهلاً في وصف السلطة الفلسطينية بأنها غير شرعية وكسلطة تشجع الإرهاب من خلال دفع مخصصات للمخربين. كما أزال من الأجندة الخطاب حول معاناة الفلسطينيين وثمن السيطرة الإسرائيلية وركزه على مسؤولية الفلسطينيين عن الوضع.
الواقع على الأرض قد تغير أيضا. حقيقة أن نتنياهو ترك عقارب الساعة تدق هو عمل سياسي مهم. وفقًا لمكتب الإحصاء المركزي الفلسطيني، في نهاية عام 2009، عندما وصل نتنياهو إلى السلطة للمرة الثانية، كان يعيش 290 ألف يهودي في الضفة الغربية. بعد عقد من الزمن، أصبح عددهم 432 ألف. يدور الحديث حول زيادة بنسبة 49 بالمائة. أرقام مجلس يشاع متشابهة 313 ألف مستوطن في عام 2009 مقابل 484 ألف مستوطن في عام 2021.
ومع ذلك، لم يتم تسجيل نفس التحرك على الساحة الدولية. لا تزال دول العالم تؤيد حل الدولتين وقرارات الأمم المتحدة التي تدعمه تحظى بأغلبية ساحقة. أحدها القرار رقم 19/67 الذي صادقت عليه الأمم المتحدة في عام 2012 بالضبط في الذكرى 65 لقبول خطة التقسيم، الذي رفع مكانة السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة من كيان مراقب غير دولة، إلى دولة مراقبة ليست عضوًا. في الوقت الحقيقي بدا القرار أنه رمزيٌّ فقط، لكنه فتح الباب أمام الفلسطينيين لمنتديات إضافية داخل المنظمة. على سبيل المثال، تمكنوا من قبولهم كأعضاء في محكمة العدل الدولية في لاهاي ومن خلالها تُقدم دعاوى قضائية ضد إسرائيل.
كما أوضح القرار الدعم الهائل في العالم الاعتراف بدولة فلسطينية صوتت لصالحه 138 دولة وعارضته تسع دول و41 دولة امتنعت عن التصويت. في عام 2021 أيضًا، ركزت معظم القرارات السياسية للجمعية العامة للأمم المتحدة على إسرائيل. على سبيل المثال، القرار الذي يعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير تم تمريره منتصف ديسمبر بأغلبية 168 مؤيدًا مقابل خمسة معارضين وامتناع 10 عن التصويت. حتى الرئيس ترامب الذي قال في مؤتمر صحفي في منتصف مدة ولايته، “إذا أراد الإسرائيليون والفلسطينيون دولة واحدة، فلا بأس بذلك. إذا كانوا يريدون دولتين، هذا جيد أيضًا ” أخيرًا روج لحل الدولتين.[8]
نتنياهو سجل إنجازا تاريخيًّا بتوقيع الاتفاقات الإبراهيمية، لكنها عبرت عن إرادة دول الخليج لتعزيز مصالحهم في المنطقة (“دول الخليج أولاً first ” إذا صح التعبير). ولا تعكس إهمال حل الدولتين كالحل المفضل لديها ولدى العالم. على العكس تماما، كان أحد الحوافز الرئيسية لدولة الإمارات العربية المتحدة في دفع اتفاقيات إبراهيم هو إيقاف الضم، الذي هدد بدفن نهائي لحل الدولتين.
فلماذا سقط نتنياهو؟
في استطلاع تم نشره في “أخبار12 ” يلخص فترة ولاية نتنياهو، أعرب 66٪ من الإسرائيليين عن رضاهم عن الطريقة التي تعامل بها مع القضايا الأمنية. وهذا يعني أن نتنياهو سقط رغم التأييد الشعبي لسلوكه السياسي والأمني المحافظ وليس بسببه. لذلك من المثير للاهتمام بشكل خاص دراسة تسلسل الأخطاء التي أدت إلى تبادل القيادة في منتصف عام 2021. ربما يكون هذا مزيجًا مميتًا، تضمن توجهًا حادًا نحو اليمين، وهاجسًا بوسائل الإعلام، ومحاولات هندسة المنظومة القضائية وإدارة الظهر للشركاء السياسيين على طول الطريق.
“سنبدأ بالتوجه نحو اليمين”، يقترح روتم دانون، نائب مدير عام المحتوى في “أخبار 13 ” ومؤسس المجلة السياسية “ليبرال” حتى قبل جولات الانتخابات التي بدأت في عام 2019، حافظ نتنياهو على تواصل بصري مع المركز، وعندما عاد إلى الحكم عام 2009 كان أهم شريك له هو إيهود باراك، لدرجة أنه جرت بين الإثنين محادثات حول إنشاء حزب وسط جديد بقيادة نتنياهو “.
بقي نتنياهو في الليكود، لكنه لم يغير ممارسته: قام بتضمين أحزاب الوسط واليسار مرارًا وتكرارًا. في عام 2013 فعل ذلك مع حزب “يش عتيد ” وفي عام 2015 شكل تحالفًا يمينيًا، لكنه تعامل بقوة مع يتسحاق هرتسوغ، الذي ترأس المعسكر الصهيوني، في محاولة لإدخاله في حكومته.
الاتصالات بين نتنياهو وهرتسوغ جرت لفترة طويلة سرًّا. كان من المهم لهرتسوغ أن يخفي هذا الاتصالات في ظل المعارضة الشديدة التي أثيرت في حزب العمل. ووصفته منافسته في ذلك الوقت، شيلي يحيموفيتش، بأنه كالذي يركض على أربع خلف العظام المجردة من اللحم التي يلقيها نتنياهو إليه. ذات صباح في أغسطس 2016 تلقيت مكالمة هاتفية من مصدر في أحد المكاتب. أخبرني أنه رأى هرتسوغ يدخل منزل ليون إدري في قيصارية للقاء نتنياهو. قدّرت أنهما سيحاولان تقزيم الحدث والادعاء أنه كان اجتماع تحديث روتيني بين رئيس الوزراء وزعيم المعارضة، على الرغم من أن مكان اللقاء لم يكن بالتأكيد روتينيًّا. بدلاً من ذلك، اختار الاثنان، بطريقة منسقة بالطبع، إنكار أنهما التقيا أبدًا. كنت محتارًا حول ما إذا كنت سأقوم بنشر القصة بناءً على مصدر واحد فقط، ولكن نظرًا لأنني كنت أعرفه شخصيًا وكان قادرًا على تقديم تفاصيل دقيقة، فقد اخترت نشرها في اليوم التالي في “أولبان ششي (ستوديو الجمعة)”. فقط بعد النشر، اتصل أحد المقربين واعترف بأنه كذب علي بدون أي خجل. بصفته وسيطًا للمصالحة، قدم مزيدًا من التفاصيل التي أدت إلى عدم نزول القصة عن العناوين الرئيسية لعدة أيام. بالنسبة لنتنياهو، لم يمسه ذلك بأذى لأنه لم يُنظر إليه على أنه سياسي ذو مصداقية بشكل خاص، لكن هرتسوغ تلقى ضربة قاسية. إن الإنكار يضر به أكثر من الاتصالات نفسها.
على كل حال، التغيير لدى نتنياهو حدث في الجولات الأخيرة من الانتخابات. سعى زعيم الليكود إلى ائتلاف يضم فقط أولئك الموجودين على يمينه. يقول دانون: “التوجه إلى اليمين”، “يعني أن نتنياهو ربط مصيره السياسي بعدة أحزاب شاس ويهدوت هتوراة “الصهيونية الدينية، وحتى عوتسما يهوديت”.
الارتباط مع الحريديم، لقد نسينا، لم يكن نصيب نتنياهو دائما. عندما كان وزيرا للمالية عام 2003، كان أكثر شخص مكروه لدى الحريديين بسبب الاستقطاعات والإصلاحات الاقتصادية التي أضرت بمخصصات الأطفال. التحالف الاستراتيجي مع المتدينين، والذي سيتم تناوله لاحقًا تم قطعه فقط على الطريق. على مر السنين وافق الجمهور على هذه “الصفقة الشاملة ” كأمر مسلم به. “الجمهور يقول دانون: “كان يعلم أن الاستقلالية الحريديت موجودة، لكنه لم يرها مشكلة”. “في العام الأخير من ولاية نتنياهو، أصبح هذا الارتباط مهمًا بسبب الشعور بأن الحريديم يفعلون ما يحلو لهم ويضرون بإدارة أزمة كورونا. فبدلًا من أن تمنح هذه الكتلة نتنياهو ميزة وتقويته جماهيريًّا، أضعفته وتسببت في خسارته للحكم” بعبارة أخرى، يزعم دانون، أن الجمهور شعر بالفعل أن الحديث لا يدور حول تحالف بين نتنياهو والحريديم، بل حول حكومة يسيطر عليها اليهود الحريديم ونتنياهو يقوم بعملهم.
تحالف آخر تعمق في الجولة الرابعة من الانتخابات كان مع حزب اليمين المتطرف “عوتسما يهوديت “، وهو امتداد لحركة “كاخ”، التي اعتُبرت باطلة بين جمهور كبير جدًا في إسرائيل.
نتنياهو كان معنيًّا ببقائها بعد أن أدرك أنه ليس لديه إمكانية أن يكبر في المركز، وكل ما تبقى له هو أن يحقق أقصى استفادة من مخزون الدعم الموجود في اليمين، بما في ذلك الموجود على الهامش. إنه كان مشاركًا شخصيًا في إجراء مفاوضات بين “عوتسما يهوديت” وحزب سموتريتش وفي محاولة لاستكمال الارتباط وُعد بن غفير بمنصب وزير وحفظ لأحد أعضاء القائمة العربية الموحدة مكانه في الليكود. بعد اكتمال الوحدة، دعا نتنياهو الجمهور صراحة صوتوا لبن غفير وسموتريتش. وأعلن في مؤتمر بشيفع: “أريدكم أن تصوتوا لي ” قبل أقل من أسبوع من الانتخابات، “لكن ليس لدي مشكلة إذا قررتم التصويت للصهيونية المتدينة “هتسيونوت هداتيت”، سموتريتش سيكون معنا بالتأكيد. باختصار، سعى نتنياهو إلى حكومة يمينية حريدية كاملة وسيكون بن غفير فيها الصوت الواحد والستين.
قرار تأهيل بن غفير يلاحق نتنياهو حتى يومنا هذا. عندما تودد إلى غانتس في محاولة لحمله على ترك حكومة بينيت لابيد لصالح حكومة يرأسها غانتس، أوضح أعضاء الكنيست من كحول لفان لرئيس حزبهم أنهم لن يجلسوا أبدًا مع نتنياهو في نفس الحكومة مرة أخرى. لا فضائح الفساد ولا حقيقة خرق نتنياهو لاتفاق التناوب مع غانتس كانت بالنسبة لهم الخط الفاصل، بل تلميع بن غفير.
لماذا قرر نتنياهو التوجه إلى اليمين؟ السبب الرئيسي هو صدمتنا جميعًا. لقد أدرك نتنياهو أن الحريديم وحزب الصهيونية المتدينة “هتسيونوت هداتيت ” فقط سيدعمان بإخلاص التحركات التي خطط لها ضد المنظومة القضائية. في الواقع، يريد سموتريتش وبن غفير الحد من سلطة المنظومة القضائية أكثر من نتنياهو. خلص نتنياهو إلى أن الحلفاء المعنيين فقط بهذه التحركات لأسباب أيديولوجية يمكن أن يكونوا شركاء مناسبين للمضي قدمًا في خطة الإنقاذ الشخصية الخاصة به، والتي تضمنت قانونًا لوقف المحاكمة، وبند التغلب الذي يمنع القضاة من التدخل في التشريع وتعيين مستشار قانوني للحكومة والمدعي العام أكثر تعاطفًا من غيرهم. وقد وصف عضو الكنيست ميكي زوهار ذلك بشكل جيد، الذي تحدى أعضاء الكنيست من المعارضة في النقاش حول قانون الحصانة: “تخيلوا تم تمرير بند التغلب، وتمرير قانون الحصانة، ونتنياهو عالق معهم لمدة عشر سنوات أخرى!”[9] زئيف إلكين، الذي كان في يوم من الأيام أحد أقرب المقربين لنتنياهو، قال لصحيفة “يديعوت أحرونوت” في مقابلة إنه اتخذ القرار النهائي بمغادرة الليكود بعد أن اعترف له نتنياهو بأذنيه بأنه يسعى لإجراء جولة رابعة من الانتخابات، لا يستطيع أن يسمح لنفسه أن شخصًا آخر سينتخب المدعي العام للدولة.[10]
في النهاية، تضرر نتنياهو مرتين جماهيريًّا وسياسيًا: تقوية حزب الصهيونية المتدينة “هتسيونوت هداتيت “عادت إليه مثل “بوميرانغ “، عندما رفض بتسلئيل سموتريتش السماح له بتشكيل ائتلاف مع القائمة العربية الموحدة (راعام). موضوع آخر مرتبط بسقوط نتنياهو هو هوسه الإعلامي، مما أدى إلى تورطه القانوني. نتنياهو، ابن مؤرخ، يعتبر الإعلام أداة مهمة في تشكيل الإدراك العام. الصحافة في عينيه هي “المسودة الأولى للتاريخ ” مثلما صاغ ذلك بشكل جيد فيليب جراهام، ناشر “صحيفة واشنطن بوست “.
الاتصال المعقد بين نتنياهو ووسائل الإعلام بدأ من الطفولة، عندما وُزعت الأسرة وقتها بين إسرائيل والولايات المتحدة. في إسرائيل، واجه الأب، البروفيسور بنسيون نتنياهو صعوبة في الاندماج، في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كانت إسرائيل دولة ذات حزب واحد وفي مؤسسة مابينيكي تم القبض على الرجل الصارم الذي كان من معارضي خطة التقسيم، كمعارض تعديلي. لاحظ نتنياهو اختلافا كبيرا بين إسرائيل والولايات المتحدة. عندما كان والده في الخارج، اندمج بسهولة نسبيًّا ووجد مصدر رزق، واجه صعوبات في إسرائيل وتم قبوله. العالم هناك مفتوح ويمنح إمكانيات، بينما هنا يتم استبعاد الأشخاص بناءً على آرائهم. الإعلام بالنسبة له جزء من المؤسسة النخبوية التي أطاحت بوالده: هناك نحن وهم، والإعلام سيكون دائمًا ضدنا. لا يمكن تغييره، بل استبداله فقط.
كطالب يبلغ من العمر 27 عامًا في MIT (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، اختار بنيامين نتنياهو تكريس رسالته في إدارة الأعمال لإخفاقات وسائل الإعلام الأمريكية. وتوقع، بشكل نبوئي تقريبًا، أن التكنولوجيا ستحل جزءًا كبيرًا من مشاكل الصحافة، ودعا إلى الحد من تنظيم وسائل البث ودعم التعددية.
تقريبًا منذ يومه الأول في السياسة شعر بالاضطهاد من قبل الصحافة. لقد رأى في وسائل الإعلام بمن ألصق له ولكامل معسكر اليمين مسئولية اغتيال رابين. في عام 1996، خاض الانتخابات على رأس “تحالف المضطهدين”، كان إحباطه من وسائل الإعلام أحد عناصر الصمغ القوي الذي كان يربط بين شركائه. تميزت ولاية نتنياهو الأولى بسلسلة من المنشورات المحرجة قضية الهدايا، وقضية بار أون الخليل، وقضية عمدي والتقارير عن سلوك زوجته سارة. اعتبر نتنياهو المنشورات محاولة لتنفيذ انقلاب إعلامي ضد إرادة الشعب واعتاد القول بأن القناة الأولى لن تحدد من سيكون رئيس الوزراء. في مايو 1999، قبل الانتخابات مباشرة التي خسر فيها لصالح باراك ألقى خطاب “إنهم خائفون” المشهور في مؤتمر في الشمال، المخصص لتأجيج الناخبين ضد الإعلام واليسار.
بعد خسارة الحكم ودخل في “العقد الضائع”، بين عامي 1999 و 2009، توصل نتنياهو إلى استنتاج مفاده أنه لا يكفي نفث البخار ومهاجمة وسائل الإعلام. وتبنى المقولة الأمريكية المعروفة: “إذا لم تستطع التغلب عليهم، انضم إليهم” وعمل على إنشاء وسائل إعلام يمينية تخدمه وتنوع سوق الرأي العام في إسرائيل. وصل للفترة الثانية في عام 2009 في خضم العملية: صحيفة “إسرائيل هيوم” التي تم تأسيسها قبل عامين، كانت قد روجت لأجندته، وكان له خطة منظمة لإنشاء قناة تلفزيون وهو أنشأ أدوات ضغط على القنوات التجارية باستخدام العصا التنظيمية. لا شك أن محاولاته هندسة الإعلام وسحب خيوطه من خلال صِلاته مع الناشرين والرأسماليين هي التي أدت إلى تورطه القانوني في قضية 2000 والقضية 4000.
خفضت لائحة الاتهام ضد نتنياهو بشكل كبير من نطاق مناورته السياسية وجعله يرتكب سلسلة من الاخطاء. أحدها هو المحاولات التي لا تنتهي للتهرب من المحاكمة باستخدام القوانين التي لم يكن من المحتمل أن يتم تمريرها في المقام الأول. أيضا بعد الانتخابات الأولى في عام 2019، عندما حصلت كتلة اليمين على 65 مقعدًا (مع ليبرمان)، استنفد نتنياهو الوقت الذي حصل عليه من الرئيس لتشكيل الحكومة في محاولة بناء الجدار القانوني الذي سيوقف المحاكمة ويقيّد محكمة العدل العليا. حتى قبل أن تكون له حكومة عمل مع سموتريتش على قانون سيمنع محكمة العدل العليا من التدخل في قرارات الحكومة والكنيست. ليبرمان، الذي فهم أن مدة الولاية التالية ستكون علامة على تقوية حكم نتنياهو تخلي عن الابتهاج والباقي هو التاريخ.
نتيجة ثانوية أخرى لتعقيدات نتنياهو القانونية هي سلوكه السياسي داخل الليكود. سلط نتنياهو الضوء على أعضاء كنيست من الصفوف الخلفية، الذين كانوا على استعداد لترديد كل رسائله فيما يتعلق بالمحاكمة، على حساب الكبار والأكثر خبرة، الذين وافق القليل منهم فقط على القيام بذلك بنفس الحماس. “هو أعطى لهؤلاء الناس أكثر الأدوار إعلاميًّا طوال فترة ولايته وأرسلهم للدفاع عنه في الاستوديوهات، رغم علمه أنهم يسببون له ضررًا في الوسط السياسي”. يقول دانون. “قبل الانتخابات حاول إخفاءهم ومنعهم من إجراء مقابلات، لكن الجمهور لم يصدق ذلك. “كان الجميع يعرف جيدًا من كان يتحكم في الحزب.
وهناك سبب آخر لخسارة نتنياهو للحكم، وربما يكون السبب الرئيسي. الائتلاف الذي حل محله مؤلف من أشخاص شقوا طريقهم كصانعي سلام له وأصبحوا ألد خصومه نفتالي بينيت، وأيليت شاكيد، وأفيغدور ليبرمان، وزئيف إلكين، وجدعون ساعر، ويوعاز هاندل وتسفيكا هاوزر. هؤلاء ليسوا مجرد منافسين، ولكن أولئك الذين تعلموا كل الحيل من نتنياهو ويعرفون خط تفكيره ونقاط الضعف. الشخص الذي جعلهم يتبادلون المواقف هو نتنياهو نفسه. هو وعائلته.
مسار نتنياهو تقاطع مع مسار بينيت وشاكيد حتى من عام 2006. إيليت شاكيد كانت تعمل آنذاك كمديرة منتج في شركة للتكنولوجيا الفائقة (هايتك)، عندما زكتها ناشطة ليكود لنتنياهو، الذي عمل في ذلك الحين كرئيس المعارضة وبحث عن مديرة للمكتب. استجابت شاكيد على الرغم من أنها اضطرت للتراجع بشكل كبير في الراتب. لطالما عشعشت البكتيريا السياسية فيها. عندما لاحظ نتنياهو فرصة لإسقاط أولمرت بعد حرب لبنان الثانية عمل على توسيع مكتبه وطلب من شاكيد أن تجد لنفسها “رئيسًا” رئيس أركان الذي سينسق المهمة ويعمل على توسيع الاحتجاج علنا ضد رئيس الوزراء. الصديق المشترك، إيريز إيشل نصح شاكيد ببينيت، الذي قد أنهى لتوه خدمة الاحتياط في لبنان وهو ممتلئ غضبًا من أداء الجيش. عندما اتصل إيشل ببينيت، في يوم حفل تأبين صديقه عيمانوئيل مورنو، لم يتردد ولو للحظة. أجاب بينيت على الفور “نعم! “، دون استشارة زوجته جيلات. العلاقة بينه وبين نتنياهو كانت الأكثر طبيعية على الإطلاق.
بينيت مثل نتنياهو، خدم في ( “سييرت متكال ” وحدة استطلاع هيئة الأركان العامة الإسرائيلية) ونشأ على تراث معركة يوني نتنياهو. حتى أنه سمى ابنه الاكبر باسمه. سرعان ما أصبح بينيت وشاكيد ثنائي يدير مكتب رئيس المعارضة. لم يتخيل أي منهما أنه بعد 15 عامًا سيكونان في الحكومة ونتنياهو سيعود إلى نقطة البداية في علاقتهم مكتب رئيس المعارضة.
في كلتا الحالتين، تضافر الاثنان في النضال من أجل الإطاحة بأولمرت وكانا مخلصين تمامًا لنتنياهو. رغم أن نتنياهو قدرهما من الناحية المهنية، كان ربيع بينيت وشاكيد قصيرًا نسبيًا. خلال العامين اللذين أمضياهما هناك، رفض الاثنان قبول تعليمات السيدة نتنياهو وحاولا إقناع زعيم المعارضة لإبعاد الأسرة عن العمل. أخيرا هما اللذان وجدا نفسيهما في الخارج بسبب الخلاف الباطني حول المبلغ الذي يستحقونه، ودفع نتنياهو من جيبه لإثارة استياء زوجته. كما كرهت سارة طموحات شاكيد السياسية، التي لم يتم إخفاؤها من اللحظة الأولى. يصبح الدم الفاسد أكثر سمكا بعد مرور عدة سنوات، عندما اتهم الزوجان نتنياهو بينيت وشاكيد بتسريب معلومات من المكتب في إطار قضية بيبي تورز، التي كشفت عنها رافيف دروكر. الاثنان ينفيان ذلك بشدة حتى اليوم.
الديناميكية التي تطورت بعد مغادرة الثنائي للمكتب تجاوزت كل شيء خيال. كلما حاول نتنياهو إخراجهما من اللعبة السياسية عبر النافذة، عادا من الباب الأمامي. على سبيل المثال، وقف نتنياهو وعائلته على رجليهم الخلفيتين عندما أراد بينيت أن يتم تعيينه مديرًا عامًا لوزارة الشؤون الاستراتيجية في عهد موشيه (بوجي) يعالون ورفضوا بشدة. وبدلاً من ذلك، أخذ بينيت يترقى إلى منصب مدير عام مجلس يشاع. وهكذا، فبدلاً من قبول بينيت كموظف كبير يعمل بجد حتى يحصل السياسي الذي يعلوه على ما يطمح به، أرسله الزوجان نتنياهو لممارسة مهنة عامة وسياسية. شاكيد، التي كانت مهتمة بالتقدم في الليكود، أدركت أنها محاصرة هناك وتوجهت إلى القنوات الأخرى أولاً لتأسيس حركة اليمين “إسرائيل شلي” وبعد ذلك إلى “البيت اليهودي”. انتهت مغامرتها السياسية ومغامرة بينيت هناك بإنجاز هائل قدره 12 مقعًدا. حتى بعد الانتخابات، فعل نتنياهو كل شيء لإبقاء الإثنين خارج حكومته، لكن تحالف الإخوة بين بينيت ولبيد أجبره على ضمهما إلى الحكومة بفائدة مركبة بينيت للتعليم، وشاكيد للعدل.
هذه الديناميكية كررت نفسها مرارا وتكرارا وبلغت ذروة العبثية في الجولات الانتخابية الأخيرة: في الجولة الأولى، وجه نتنياهو ضربة شديدة لليمين لدرجة أنه ظل دون نسبة الحسم ومنعه من الوصول إلى 61 مقعدًا. في الجولة الثالثة، ترك الاثنين في المعارضة، فقط ليبين أنهما بنيا نفسيهما كبديل، وفي الانتخابات التالية بالفعل جلسا مكانه في مكتب رئيس الوزراء بسبعة مقاعد فقط (وفيما بعد أصبحوا ستة مقاعد). كان قرار نتنياهو كسر كتلة اليمين وإدارة ظهره للإثنين عندما شكل حكومة وحدة مع غانتس كان ما زال قرارًا جديدًا في رأس شاكيد عندما اختارت، بعد الكثير من المداولات، الانضمام إلى حكومة التغيير ومنع جولة أخرى من الانتخابات.
يقول دانون: “مع نتنياهو، وظيفتك الأولى هي وظيفتك الأخيرة”. “إنه غير مهتم بأشخاص لديهم طموح سياسي، حتى لو كانوا على استعداد لخدمته والعمل تحت قيادته”.
كما بدأ أفيغدور ليبرمان حياته المهنية كمستشار سياسي مخلص وفعال لنتنياهو. في الواقع، ليبرمان هو أحد الأشخاص الذين يملكون أكبر حصة في العلامة السياسية المسماة بنيامين نتنياهو. رافق ليبرمان نتنياهو منذ بداية حياته في الليكود عام 1988 وكان المحرك وراء انتصاره في معركة قيادة الحركة عام 1993 بعد اعتزال شامير. لم يكن هذا انتصارًا بديهيًّا فقد تمكن نتنياهو من هزيمة أعضاء الليكود الأقدم منه بكثير، مثل ديفيد ليفي وبيني بيغن وموشيه كاتساف، وحصل على 52 في المائة من الأصوات. تم تعيين ليبرمان مديرًا عاما لحزب الليكود وقاد لنتنياهو حملة السيطرة السياسية على القلعة، والتي شملت قطع رؤوس والسيطرة على منظومات الحاسوب والكتب الوظيفية.
ووصف أحد معارفهما ذلك على النحو التالي: “نتنياهو أعطى إيفيت مفاتيح منظومة التشغيل المسمى بيبي، ومنذ اللحظة التي تلقى فيها الكود اعتمد عليه نتنياهو كليًّا”.
سار الاثنان معًا لمدة عقد من الزمان دراماتيكي، وفي نهايته عُين نتنياهو رئيسا للوزراء وليبرمان مديرًا عامًّا لمكتبه. سبويلر: لم يمكث هناك كثيرًا. بالفعل بعد حوالي عام ونصف غادر ليبرمان، ليس من الواضح ما إذا كان ذلك بسبب التحقيقات التي فُتحت في تلك الأيام والمشكلات الداخلية التي بدأت في الليكود أو مرة أخرى بسبب العائلة. يقول دانون إن ليبرمان كان كاتم السر في معارك نتنياهو هل يتزوج سارة بعد أن حملت. وزُعم أنه كان من بين الأعضاء الذين اعترضوا على الزواج، وبالتالي لم ينل تعاطفًا كبيرًا في الأسرة. وعلى الرغم من أن العلاقة بينه وبين السيدة نتنياهو كانت على ما يرام، إلا أنه لم يحظَ بسند عائلي عندما بدأت الاضطرابات تتحمس بشأن المكتب.
حتى بعد الانشقاق، كان ليبرمان على استعداد للتعاون مع نتنياهو. قصته تذكرنا جدا بقصة بينيت وشاكيد. في مقابلة مع بن كاسبيت في عام 2019، قال ليبرمان إنه في الفترة التي سبقت انتخابات 1999، أراد العودة ومساعدة نتنياهو: “أخبرتُ الأصدقاء أنني أريد الانضمام، وأنهم سيعطونني منصبًا في المقر، لكنهم أوضحوا لي أن نتنياهو لا يريدني هناك. “إنه يراك عبئًا انتخابيا”، قالوا لي. قلت لنفسي عبء انتخابي؟ أنا؟ لذلك سوف أعلمه من أين يتبول السمك. أنت تعلم، عندما يزعجونني، أنا أفعل ذلك”.[11]
أسس ليبرمان حزب إسرائيل بيتنا يناير 1999، قبل أربعة أشهر من الانتخابات. إنه خاض الانتخابات ضد حزب روسي قائم، حزب ناتان شيرانسكي “إسرائيل بعليا”، واستطاع أن يحصل على أربعة مقاعد. بعد مرور عقد من الزمان، قد حصل على 15 مقعدًا، وكان حزبه ثالث أكبر حزب في الكنيست. الرجل الذي لم يوافق نتنياهو على منحه منصبًا في الليكود أصبح لاعبًا سياسيًا مهمًّا، يسبب له صداعًا مزمنًا منذ أكثر من 20 عامًا.
ولا زال، حتى في السنوات التالية، لم يستبعد ليبرمان التعاون مع نتنياهو. تنافس الاثنان في قائمة مشتركة في انتخابات 2012، لكن هذه المعارضة انتهت أيضًا بخيبة أمل عندما حنث نتنياهو بوعده بإكمال الدمج بين القائمتين بعد الانتخابات. في السنوات التي تلت ذلك، تعمق الصدع. ليبرمان اشتبه في أن نتنياهو كان يحاول توريطه هو وعائلته في جنايات وكان وراء قضية إسرائيل بيتنا. في مارس 2020، أوضح ليبرمان في محادثة سرية، كُشف النقاب عنها في أخبار 12، أوضح خلفية الخلاف مع نتنياهو: “في عام 2019، تم تقديم سبع شكاوى ضدي وضد أولادي من قبل الشرطة في النيابة العامة وسلطات الضرائب… من الواضح لي أن نتنياهو وراء هذه الخطوة برمتها… في أخلاقياتي، هذه خطيئة لا يمكن أن تغفر أو يُصفح عنها حتى في يوم الغفران… “[12]
وحتى قبل ذلك، أثناء التوترات الأمنية في غزة عام 2018، شعر ليبرمان، وزير الدفاع آنذاك، أن نتنياهو كان يحاول فرض اللوم عليه من خلال مؤتمر صحفي. لقد كان غاضبًا بشكل خاص من التسريبات التي قالت إنه يؤيد وقف إطلاق النار ووقف هجمات الجيش الإسرائيلي، وخلص ليبرمان إلى أنه ببساطة أقوى من نتنياهو، وأنه سيحاول في كل فرصة التقليل منه.
نتنياهو لا يهتم فقط بالحفاظ على سلامة رأس أي خصم سياسي محتمل، بل يطالب أيضًا بالولاء المطلق، الأعمى تقريبا.
عائلة نتنياهو ليس لديها رمادي الكل إما أسود أو أبيض. بدأ جدعون ساعر حياته السياسية كسكرتير حكومة نتنياهو بعد مسيرة قصيرة في عالم الإعلام والنيابة العامة. شهدت العلاقة بين الاثنين تقلبات وهبوط على الرغم من أن ساعر شغل منصب سكرتير الحكومة في عهد أريك شارون، ولكن لاحقًا وقف إلى جانب نتنياهو في أكبر أزمة سياسية عرفها عندما أتى بحزب الليكود إلى أدنى مستوى على الإطلاق في عام 2006 12 مقعدًا فقط. قاد ساعر المعارك في الكنيست من أجله وجعل حياة الحكومة مريرة.
اهتزت العلاقة عندما بدأ عضو الكنيست المجتهد في الوصول إلى السلطة في الليكود. جاء في المركز الأول وبرز في الانتخابات التمهيدية وحظي بمكانة بارزة كوزير للتربية و كوزير للداخلية. اعتزال ساعر من المنظومة السياسية تم على خلفية الفهم بأن نتنياهو لن يسمح له بالنمو أبعد من ذلك. في العلاقة المشحونة بالفعل، يدخل عنصر آخر عمل ساعر على تعزيز ترشيح عضو الكنيست رؤوفين ريفلين لرئاسة الدولة، وهو ما حاول نتنياهو إحباطه بشتى الطرق. يعتقد نتنياهو أن صديق عدوي هو أيضًا عدوي وساعر أُدخل في القائمة السوداء.
عودة ساعر في أوائل عام 2017، وسط شائعات نشرها نتنياهو حول انقلاب يخطط له ساعر مع ريفلين، انتهت بشكل مماثل. نتنياهو لم يعين ساعر وزيرًا رغم أنه وصل إلى المركز الرابع في الانتخابات التمهيدية وبالتالي، فبدلاً من أن يكون عضوًا صغيرًا في الحكومة تحت سلطة رئيس الوزراء، بقي عضوًا في الكنيست ولديه الكثير من وقت الفراغ. “في نهاية أمل جديد الحزب الذي أنشأه ساعر خلال هذه الفترة من داخل الليكود كان العامل العاشر( The X Factor) الذي غير كل شيء “، يقول دانون. “كانت هذه المقاعد الستة (التي تثير الاشمئزاز)، هي التي أدت إلى إنشاء حكومة من دون الليكود ونزول نتنياهو عن المسرح “.
كان الأمل الجديد كبيرًا من ناحية أخرى: خلق مركز ثقل لأحزاب اليمين الراغبة في تشكيل الحكومة بدون نتنياهو. كانت هي السلم الذي تسلقه بينيت في طريقه لحكومة التغيير. بدون حزب ساعر، ما كان لـ “بينيت ” أن ينضم أبدًا إلى حكومة تضم اليسار المركز فقط، راعم وليبرمان. بأمل جديد وإسرائيل بيتنا بينيت كان بإمكانه الادعاء بأنه انضم إلى حكومة وحدة تكافؤ وإقناع أصدقائه في اليمين بالمجيء معه.
من المسلم به أنه حتى تسلسل الانتخابات تسبب في شعور بالاشمئزاز وأضعف دعم نتنياهو. شهد المزيد والمزيد من الناس في استطلاعات الرأي أنهم يريدون شيئًا واحدًا فقط الحالة الطبيعية. القليل من العقل والهدوء. على الرغم من أن نتنياهو حاول خلق شعور بـ “أعمال كالعادة “وأشاع وبثت أن المحاكمة تجري في أدبيات خارجية لا علاقة لها بالسياسة إلا أن أفعاله أثبتت خلاف ذلك. على حافة مقعد واحد تم تشكيل حكومة جديدة نجومها الرئيسيون هم ضحايا نتنياهو على مدى أجيال.
الفصل الثالث حاسوب إعادة المسار اليسار الإسرائيلي
في ظاهر الأمر، اليسار الإسرائيلي لديه رؤية سياسية واضحة دولتان لشعبين، على أساس خطوط 1967. بسيط، أليس كذلك؟ من الناحية العملية، يدرك قادة المعسكر جيدًا أنه يجب معالجة الواقع المتغير على الأرض وخاصة شكوك الجمهور. لم تتغير الوجهة النهائية لدى حكمائهم، لكن المسار قد تغير بالتأكيد. ليس فقط تصريح باراك بأنه “لا يوجد شريك ” هو الذي أبعد الإسرائيليين عن الاعتقاد بأن اتفاقية سلام هي أمر ممكن. حتى قبل ذلك، تلقت صيغة “الأراضي مقابل السلام” ضربة قاسية في أعقاب الأحداث الدموية في السنوات التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو. كل من عاش في ذلك الوقت يتذكر الرعب الذي صاحب كل رحلة بالحافلة، وكل ترفيه في المطعم. كما برز الإرهاب اليهودي في ذلك الوقت قُتل 29 من المصلين المسلمين بالرصاص في الحرم الإبراهيمي، وفي عام 1995 اغتيل رئيس وزراء إسرائيلي.
أبعدت الصدمة الجماعية الكثيرين من الاعتقاد بأن خطة الدولتين ممكنة، ومع مرور الوقت، تغير الواقع على الأرض في الضفة الغربية، يعيش ما يقرب من نصف مليون مستوطن، والسلطة الفلسطينية ضعفت بشكل ملحوظ.
في أعقاب هذا الوضع، بدأ اليسار الإسرائيلي، الذي وقف على نفس النقطة لما يقرب من ثلاثة عقود، بدأ بالانقسام إلى ثلاثة مسارات مختلفة. المسار الأول، الذي اتجه إليه كثيرون، هو مسار “الطلاق ” من الفلسطينيين حل أحادي الجانب. سنتخذ القرارات المناسبة لنا، بغض النظر عما يعتقده الطرف الآخر. مع هذه المدرسة، هناك أيضًا أولئك الذين يدعون إلى الحفاظ على الوضع، بحيث يكون من الممكن في المستقبل تنفيذ خطة الدولتين. والطريق الثاني هو العكس تماما: “زواج”، اتحاد كونفدرالي لدولتين بوطن واحد. والثالث هو الحل التقليدي رؤية الدولتين، حيث في نهايته تعيش إسرائيل والفلسطينيون جنبًا إلى جنب، كل في دولته، مع بعض التحديثات المرتبطة بالواقع. لا يزال هذا المسار مركزيًّا ويقود اليسار الإسرائيلي بفجوة كبيرة. أولئك الذين يمشون فيه يعتقدون أنه من السابق لأوانه تأبينه وأنه في الواقع هو الحل الواقعي الوحيد للصراع. كما يأملون أن يكون الفلسطينيون قد تعلموا درساً من العواقب الوخيمة للانتفاضتين وأن ينجحوا في كبح جماح المتطرفين في المستقبل.
في سلسلة من الاستطلاعات التي أجرتها مجلة “ليبرال ” بين الجمهور اليهودي في السنوات 20182020، بالتعاون مع البروفيسور كميل فوكس من معهد “مدجام ” (العينة)، يمكن للمرء أن يلاحظ تقلبات مثيرة للاهتمام في الرأي العام. طُلب من المستطلعين تقييم درجة اتفاقهم مع أربعة حلول سياسية إقليمية مختلفة:
ضمّ المناطق المحتلة، اتفاق الدولتين، الفصل بمبادرة إسرائيلية (إخلاء المستوطنات التي في شرقي الجدار وبقاء قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في المنطقة حتى التوصل إلى اتفاق) واستمرار الوضع القائم الوضع الراهن.
في الاستطلاع الأول الذي أجري في نوفمبر 2018، 47 في المائة من بين الجمهور اليهودي، أيدوا اتفاقية دائمة، 28 بالمائة مع الانفصال، و 16 في المائة مع الضم وتسعة بالمائة مع استمرار الوضع القائم. أي 75 بالمائة من الجمهور أيد حلول الفصل، و16 بالمائة فقط أيدوا الضم. في الاستطلاع الأخير الذي أجري في أبريل في عام 2020، انخفض معدل التأييد لاتفاق دائم إلى 40 بالمائة، ومعدل الدعم للفصل انخفض إلى 22 بالمئة. في المقابل، ارتفع معدل دعم الضم إلى 26 وارتفعت النسبة المئوية لتأييد الوضع الراهن إلى 13 بالمائة. أي في عام 2020، انخفض الدعم لحلول الفصل من 75 بالمئة إلى 62، في حين ارتفع تأييد الضم من 16 بالمائة إلى 26. ومن ثم لا تزال هناك أغلبية واضحة في الجمهور اليهودي الإسرائيلي تؤيد حلول الفصل، ولكن أيضًا بداخله تتغير الموازين دعم الاتفاقية يتناقص بينما يزداد دعم الانفصال.
في الواقع، توجد هنا ظاهرة رائعة: بينما وبحسب استطلاعات الرأي أكثر من 60٪ من الجمهور يؤيدون الانفصال عن الفلسطينيين، الذي يعتبر سياسة اليسار، هذه هي نسبة الإسرائيليين الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم يمينيون إلى حد ما. في مؤشر السلام لعام 2019 الذي أجراه “معهد مدجام ” لجامعة تل أبيب 64٪ عرفوا أنفسهم بأنهم يمينيون و 22٪ وسط و 12.5٪ فقط كيسار.[13]
سمى مؤلفو المقال في “ليبرال “، البروفيسور جلعاد هيرشبيرغر، والبروفيسور سيفان هيرش هفلر والبروفيسور كميل فوكس، هذه الظاهرة بـ “التناقض السياسي الإسرائيلي”. وبحسب أقوالهم، بأنه على الرغم من أن غالبية الجمهور الإسرائيلي اليهودي يريد الانفصال عن الفلسطينيين ومستعد لتقديم تنازلات، فإن الخوف من التبعات الأمنية لمثل هذه التسوية يدفع الإسرائيليين إلى وضع ثقتهم في الأحزاب اليمينية التي ترفض تسوية إقليمية في المقام الأول. وبتعبير أدق، يشعر غالبية الجمهور اليهودي بمزيد من الأمان في أيدي اليمين ويفضل أن يكون اليمين هو من يطبق أيديولوجية اليسار، إذا كانت الظروف مهيأة لذلك كما كان الحال في اتفاقية السلام مع مصر وفك الارتباط. إنهم لا يعارضون الصفقة في الوقت المناسب، لكنهم يفضلون أن يمثلهم أقوى محامٍ.
العقيد (احتياط) الدكتور شاؤول أريئيلي، الباحث في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مقتنع بأن حل الدولتين لا يزال هو الخطة الحقيقية الوحيدة المطروحة على الطاولة. “عندما تقول أنه لا يوجد شريك، يجب أن نسأل لأي خطة. خطة نتنياهو للضم دون مقابل ليس لها شريك. الاتفاق الدائم له شريك. ” يشرح أرييلي ما هو المقصود الآن بخطة الدولتين:
1. الحدود: خطوط 1967 كأساس لقيام دولتين، مع تبادل للأراضي على أساس الواقع الذي نشأ على الأرض.
2. الأمن: دولة فلسطينية منزوعة السلاح مع ترتيبات أمنية.
3. القدس: تقسيم المدينة على أساس ديمغرافي، وإقامة عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية. أي الأحياء اليهودية لإسرائيل والأحياء الفلسطينية لفلسطين.
4. قضية اللاجئين: عودة رمزية فقط إلى إسرائيل وتقديم تعويضات للاجئين.
يشرح أرييلي أن كل هذه المعايير هي صفقة حزمة واحدة غير قابلة للتجزئة؛ هم مترابطون مع بعضهم البعض. ولكن كيف لنفس المبادئ، التي وجهت أنصار هذا النهج في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا تزال سارية في الواقع الذي فيه ما يقرب من نصف مليون مستوطن؟ يجيب أرييلي: “بالنسبة لـ 480 ألف يهودي، يعيش معظمهم في منطقة تضم أقل من خمسة في المائة من الضفة الغربية. أي أنه من الممكن الفصل بثمن وطني معقول، مع الحفاظ على حوالي 80 بالمائة من المستوطنات. عندما نتحدث اليوم عن الانفصال إلى دولتين، فمن الواضح أن التبادل الجيد للأراضي سيكون مطلوبًا بحوالي أربعة بالمائة، لكن معظم المستوطنات ستبقى في أيدي الإسرائيليين بما في ذلك المستوطنات الكبيرة المجاورة لها، مثل موديعين عيليت وبيتار عيليت، حيث يوجد تقريبا 150 ألف مستوطن”. وما زال في الـ 20 في المائة المخصصة للإخلاء، يعيش حوالي 80 ألف مستوطن أكثر بكثير من نحو 9000 المستوطنين الذين تم إجلاؤهم من غوش قطيف وشمال الضفة، والأعداد تتزايد فقط.
خريطة 1 لأريئيلي، تشرح مبدأ تبادل الأراضي
“هناك فرق بين الضفة الغربية وغوش قطيف”، يعتقد أريئيلي. بالنسبة له، نسبة ليست قليلة من المستوطنين سيوافقون على الإجلاء طوعًا، وهو يعطي كمثال مستوطنات وادي الأردن. “جاء معظم السكان إلى هناك في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كجزء من برنامج ألون وفعلوا ذلك في إطار الجهد الوطني لتكوين وجود هناك. معظمهم من البالغين الذين سيوافقون على الانتقال للعيش في الخط الأخضر ضمن اتفاقية سلام. يجب أن يحصلوا على تعويض مناسب عن استثماراتهم طويلة الأجل، وأولئك الذين سيرفضون الإجلاء سنعرف كيف سنتعامل معهم”. هل هو يُذكر بشيٍء ما؟.
يوصي أرئيل بالنظر أيضًا في جوانب العمل والسكن. ووفقا له، 60 في المائة من اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية يعملون في إسرائيل، وبهذا المعنى سيستمرون في الروتين. من حيث السكن، يدور الحديث حول حوالي 30 ألف وحدة سكنية جديدة يجب بناؤها للعائلات التي سيتم إجلاؤها. “إنه تحدٍّ ليس بسيطًا، ” يقول: “لكن إسرائيل ستعرف كيف تصمد أمامه، لأنها عرفت كيف تستوعب حوالي مليون مهاجر من الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، وهو يبرر الاستثمار”.
“أرييلي غير متحمس من الادعاء بأنه في حالة الانسحاب، ستبقى إسرائيل “بخصر ضيق” في السهل الساحلي، وستجد صعوبة في الدفاع عن نفسها. ويزعم أن “التهديد في جوهره قد تغير”، “نحن من المؤكد نعترف أن الدولة الفلسطينية ستتمتع بميزة طبوغرافية على السهل الساحلي الإسرائيلي، وبالتالي تم تحديد عدة مبادئ أولها أن الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح. لن يكون لديهم جيش وأسلحة ثقيلة، وبالتالي لن يكون هناك على إسرائيل تهديد غزو جيش تقليدي. بالإضافة إلى ذلك، سيتم نشر القوات الدولية على طول الحدود”.
وفقًا للخطوط العريضة، سيستمر الجيش الإسرائيلي في الانتشار في غور الأردن لمدة خمس سنوات على الأقل وسيسيطر على المعابر، وخلال هذه الفترة ستكون الدولة الفلسطينية الجديدة جاهزة للتغييرات الأمنية. في المرحلة الثانية، سينقل الجيش الإسرائيلي المسؤولية إلى قوات دولية مسلحة. ربما أمريكيون، الذين يمكن للطرفين العيش معهم بسلام. الخطط الأمنية التي عرضها بعض الجنرالات الأمريكيين تتحدث عن نشر قوات دولية على الجانب الأردني من الحدود وحتى بين الأردن والعراق كإجراء أمني ضد أي غزو من الشرق. لن يسمح للفلسطينيين بالتوقيع على تحالفات مع دول أو مع منظمات معادية لإسرائيل ولن يُسمح لهم أيضًا بالمرور عبرها أو التسوق في أراضيها. أي وضع يحاول فيه تنظيم جهادي أن يثبت نفسه في الدولة الفلسطينية سيكون سببًا للحرب على النحو المنصوص عليه في الاتفاقية.
خريطة 2 لأريئيل، موسوم بها المستوطنات خارج الخط الأخضر والمدن الفلسطينية
“في اتفاقية السلام مع الأردن عام 1994 توجد نفس المبادئ، ها وقد مضى 25 عامًا والحدود هادئة نسبيًا”، يتابع أريئيلي. “هنا سيكون لنا وجود إسرائيلي في وادي الأردن في البداية ثم الوجود الأمريكي الذي نثق به. أبعد من ذلك، ستكون لنا سيطرة على المجال الجوي وستكون هناك محطات إنذار في الأراضي الفلسطينية”. يتحدث أريئيلي عن المنظومة الدفاعية متعددة الطبقات، “تسريبات أمنية” حسب تعريفه، سيسمح ذلك لإسرائيل بالدفاع عن نفسها بشكل مستقل عن الفلسطينيين.
ولكن حتى لو تحققت المدينة الفاضلة التي يصفها، ستظل هناك قضية متفجرة بشكل خاص من وجهة النظر العامة القدس. تقريبا كل الأحزاب تعارض تقسيمها. أريئيلي من جانبه، يرفض قبول هذا. وأضاف: “في استطلاعات الرأي معظم الجمهور الإسرائيلي مستعد للتخلي عن الاحياء العربية في شرقي القدس، وخاصة تلك التي لم تنتمِ أبدًا للمدينة. فقط عند الحديث عن تأسيس عاصمة فلسطينية هناك معارضة. تحتاج إلى شرح لأحزاب الوسط واليسار وللناخبين أنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق دون إقامة عاصمة فلسطينية في شرقي القدس. السؤال هو كيف سنقيمها، والحل كما هو مبين في المفاوضات على مر السنين، ستبقى الأحياء اليهودية الـ 12 تحت السيطرة الإسرائيلية، وبالنسبة للأماكن المقدسة ثمة خياران: تقسيم ديموغرافي سيترك لدينا حائط المبكى والحي اليهودي وجبل صهيون وما إلى ذلك؛ أو إقامة نظام خاص مع رقابة دولية، هكذا سيسمح للجميع بالوصول بحرية إلى الأماكن المقدسة. وسيستمر الوقف الإسلامي في إدارة الحرم القدسي وإسرائيل تدير حائط المبكى”.
القضية الأخيرة، وربما الأكثر تعقيدًا، هي حق العودة. أريئيلي أيضًا يعارض بشدة تطبيقه، بسبب تهديد التوازن الديموغرافي في إسرائيل. ويؤيد عودة اللاجئين فقط إلى الدولة الفلسطينية أو إلى دولة ثالثة، باستثناء عدد ضئيل سيعود إلى إسرائيل. هذه بالطبع قضية حاسمة بالنسبة للفلسطينيين، والحد الأقصى الذي ترغب إسرائيل في تقديمه لا يفي بالحد الأدنى الذي يوافقون على الحصول عليه.
على الرغم من أن الأمر يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي، إلا أن أريئيلي مقتنع بأن هذا هو الحل الوحيد. “أولاً، نحن نكتسب في هذه الخطة إمكانية الحفاظ على هوية إسرائيل اليهودية وديمقراطية إسرائيل”، كما يقول. “ثانيا، نحن نضع حدًّا للصراع”.
كل شيء جيد وجميل، لكن الفلسطينيين أيضًا يجب أن يوافقوا، وحتى يومنا هذا، في لحظة الحقيقة، فشلت كل المحادثات. أريئيلي غير متحمس: “إذا ذهبتِ إلى مكتب أبو مازن ستجدين وثيقة الموقف الفلسطيني، التي تنص صراحة على أن الاتفاق الدائم هو نهاية الصراع وانتهاء الدعاوى القضائية. هناك شريك لاتفاق دائم مؤسس على المبادئ التي ذكرتها”.
ليس كل من في اليسار متفائلاً مثل أريئيلي. هم أنفسهم كانوا سيوقعون الاتفاقية التي قدمها بكلتا اليدين، لكنهم يعتقدون أنه غير واقعي حاليًا ويحاولون إعادة التنظيم حول هذا الافتراض والترويج لحل أحادي الجانب. وفقًا لإحدى المقاربات، فإن هدف اليسارالوسط الآن هو “تجميد الوضع”، للحفاظ على الوضع على الأرض بحيث في المستقبل، عندما تكون السلطة الفلسطينية قوية بما فيه الكفاية، ستكون رؤية الدولتين لا تزال ممكنة. في نهاية عام 2018، نشر معهد دراسات الأمن القومي (INSS) برنامجًا يقوم على مبدأ الحفاظ ستعلن إسرائيل أنها ملتزمة بحل الدولتين، وفي نفس الوقت ستتخذ خطوات تجعل ذلك ممكنًا في المستقبل: تحديد مسارات الفصل من خلال استكمال الجدار الأمني وتجميد البناء في مستوطنات معزولة. الغرض من الخطة هو منع إغراق المنطقة بالمستوطنات المعزولة التي ستجعل من الصعب رسم خط حدودي منطقي في المستقبل وستجعل من الصعب تنفيذ الصفقة.
هناك من يدعي بأن الحفاظ على الموجود ليس كافيا وأنه ينبغي اتخاذ تدابير انفرادية أكثر أهمية. وبحسب عمر بارليف، العقيد في الاحتياط ووزير الأمن الداخلي، ينبغي السعي بشكل حثيث من أجل الانفصال. لقد تحدثت مع بارليف قبل أن ينضم إلى حكومة بينيت لابيد، وقد عبر عن آرائه بحرية”. يجب ألا يكون التركيز في رأيه على دولتين لشعبين، بل دولة إسرائيل ديمقراطية ذات أغلبية يهودية. وكيف نصل إلى ذلك؟ قال: “الانفصال والأمن”. هذا من ناحية، الجيش الإسرائيلي لا يتحرك لأي مكان، ونحن لا ننسحب، ومن ناحية أخرى، نحن نبدأ عملية الانفصال “. في نهج بار ليف، لا نجلس وننتظر “ساعة لياقة”، ولكن نفصل من يريد، ويفضل أن يكون ذلك قبل ساعة. وتتضمن خطته، التي تبناها حزب العمل في حينه، أربع خطوات أساسية للانفصال قيد البحث:
وقف البناء خارج الكتل الاستيطانية.
تشريع قانون إجلاء مقابل التعويض لجميع المستوطنين الذين يعيشون خارج الكتل الاستيطانية. لتقييم بارليف، ثلث المستوطنين سيكونون على استعداد للمغادرة مقابل التعويض.
البناء الحر للفلسطينيين في أراضي منطقة (C)، حيث لا يضر ذلك بأمن إسرائيل.
نزع سلاح قطاع غزة مقابل التنمية وبالتالي سيكون للفلسطينيين ما يخسرونه.
كان يدور الحديث حول تغيير مهم في موقف اليسار، الذي دعم دائمًا الخطوات المتبادلة. وبالمناسبة، خطة فك الارتباط أيضًا كان لها معارضون في اليسار والذين اعتقدوا أنه يجب تنفيذها بشكل منسق. ورغم ترحيبهم من إخراج إسرائيل من “وحل غزة”، إلا أنهم حذروا من أنه طالما لا توجد تفاهمات مقبولة لدى الطرفين، فإن الصراع سيستمر.
وقال بارليف “إن مستقبل بلادنا يجب ألا يكون مشروطًا بإرادة الفلسطينيين”. “نحن بحاجة إلى أن نقرر ما هو مناسب لنا والعمل على تنفيذه. لم تشترط الصهيونية تأسيسها على طرف ثالث. إذا كان هناك شريك يمكنه التوصل إلى اتفاق معنا، فلا بأس. وإذا لم يكن، فسنبدأ عملية فصل المدنيين، مع انتشار جيش الدفاع الإسرائيلي في مناطق واسعة من الضفة الغربية وغور الأردن “.
خطة بارليف طوعية ومحدودة فيما يتعلق بخطة التقارب الشهيرة التي خطط لها أولمرت خلفًا لشارون في عام 2006. تضمنت الخطة إخلاء معظم المستوطنات في الضفة الغربية وتجميع المستوطنات الأخرى في ثلاث كتل كبيرة: غوش معاليه أدوميم وغوش أريئيل وغوش عتسيون، وكان من المفترض أن تترك بأيدي إسرائيل نحو ستة بالمائة من أراضي الضفة الغربية.
لا يوجد حاليًا أحد من اليسار من يروج لمبادرة إخلاء بعيدة المدى كهذه، لكن هناك جدلًا بين المدارس حول أين يجب أن تتركز الجهود يعتقد البعض أننا لا زلنا بحاجة إلى قلب كل حجر في محاولة لإيجاد حلفاء لتسوية سياسية في الجانب الآخر وتمهيد الأرضية جماهيريًّا؛ ويعتقد البعض الآخر أنه في الوقت الحالي من الميؤوس منه ومن الأفضل التركيز على كبح انتشار المستوطنات حتى يبقى الباب مفتوحا في المستقبل.
“منظمة موليد” نشرت في نهاية عام 2021 خطة جديدة تهدف إلى إقناع الجمهور بأن إجلاء عشرات آلاف المستوطنين هو هدف واقعي إذا أردنا أن نتعلم من الأخطاء التي ارتكبت في فك الارتباط وإخلاء مستوطنة ياميت. تصف الخطة خطوة من ثلاث مراحل: ستبني إسرائيل المنازل أولاً للأشخاص الذين سيتم إجلاؤهم وستكون مستعدة لاستيعابهم، ستبدأ بتجفيف المستوطنات اقتصاديًّا وفي النهاية ستغير وضعها القانوني. ووفقا للأساس المنطقي للخطة، إذا قطعت إسرائيل خط أنبوب الأكسجين الاقتصادي عن المستوطنات وتتوقف عن الاستثمار فيها، ستنخفض نوعية وجودة الحياة خارج الخط الأخضر وسيفضل الكثيرون المغادرة. وإذا كانت تنتظرهم منازل جاهزة داخل الخط الأخضر سيكون ذلك أسهل بكثير.
أما أولئك الذين لا يريدون المغادرة بمبادرتهم الخاصة سيتم إجلاؤهم قسراً بعد فترة معينة. تفرد هذه الخطة هو أنه يتم البناء أولاً وبعد ذلك فقط يتم الإخلاء، ولكن من المثير للاهتمام أن نرى أن في اليمين وهناك في اليسار من يعتقدون أن نموذج المغادرة الطوعية للمستوطنين أو للفلسطينيين هو أمر قابل للتطبيق.
يمثل الصحفي ميرون رابابورت النهج المعاكس: ليس طلاقًا، بل زواج. بدلاً من دولتين لشعبين دولتان، وطن واحد. بعبارة أخرى: الكونفدرالية. هذا النهج له ثلاثة افتراضات أساسية. “الافتراض الأول هي أن الصراع لم يبدأ ولم ينتهِ عام 1967 ولن ينتهي إذا اجتمعنا خلف الخط الاخضر” يقول رابابورت. “الافتراض الثاني هو أن هناك حاجة إلى حل محترم لكل من الفلسطينيين وأيضًا للمستوطنين الذين يسكنون هناك منذ أكثر من 50 عامًا، والافتراض الثالث هو أنه مستحيل حقا تقسيم القدس. كلا الجزئين لا يمكن فصلهما”.
في الواقع، يعتقد رابابورت وأنصار هذا النهج أن فكرة الدولتين غير قابلة للتطبيق. كلا الشعبين مختلطان تمامًا هناك 1.5 مليون فلسطيني داخل إسرائيل، وما يقرب من نصف مليون يهودي في الضفة الغربية. بالإضافة إلى ذلك، يشعر كلا الشعبين بصلة عميقة مع الأرض كلها اليهودي مع نابلس والعربي مع يافا.
حلهم يسمى “اتحاد إسرائيل فلسطين”. في الواقع، يدور الحديث حول دولتين منفصلتين بحدود مفتوحة، ولكل واحدة منهما برلمانها الخاص، وتقيما معًا سلسلة من المؤسسات التي ستتخذ قرارات مشتركة في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها. “حلنا يقترح دولتين منفصلتين مع ارتباط فعلي وحقيقي وعميق”، كما يقول رابابورت.
وكيفية تحديد الحدود “حدود عام 1967″؟ يجيب: من الممكن الاتفاق على تبادل الأراضي إذا أردنا. ستكون القدس مدينة مشتركة ذات سيادة مشتركة. وستقوم الدولتان بتفويض الصلاحيات لأي إقليم، أورشليم القدس. كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وكما في أيرلندا الشمالية. سيتمكن الإسرائيليون من العيش بحرية في أي مكان في فلسطين وسيتمكن الفلسطينيون من العيش في إسرائيل”.
كيف سيتم ضمان الطابع اليهودي للدولة؟ يدعي رابابورت بأنه من الناحية العملية لن يتغير الكثير. “الإسرائيليون سيصوتون للبرلمان الإسرائيلي والفلسطينيون للبرلمان الفلسطيني بغض النظر لمكان سكناهم. وهذا يعطي حلًّا لحق العودة دون الإخلال بالتوازن الديموغرافي”. وبعبارة أخرى، الفلسطيني الذي يريد أن يعيش في إسرائيل سيكون قادرًا في النهاية على فعل ذلك، لكن لن يكون له حق التصويت في الكنيست بل في البرلمان الفلسطيني. سيتم الحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل، بحسب الغالبية الموجودة بها اليوم.
ومع ذلك، كيف يمكننا التأكد من عدم إغراق إسرائيل باللاجئين؟ يتحدث مفكرو البرنامج عن عملية متدرجة. في المرحلة الأولى، سيتم السماح بحرية الحركة للجميع، ولكن فقط عدد متفق عليه من اللاجئين سيسمح لهم بالعيش في إسرائيل. في الخطوات التالية، إذا سارت الأمور على ما يرام، فسيتم السماح بحرية الإقامة للجميع، إسرائيليين وفلسطينيين، في جميع أنحاء البلاد المشتركة، في كلا البلدين. حسب مؤيدي البرنامج، تظهر تجربة الماضي أن إسرائيل لم تغرق باللاجئين حتى قبل الانتفاضة الأولى، عندما لا تكون هناك حاجة لتصاريح للدخول إليها. بالإضافة إلى ذلك، سيتعاون الأطراف في المجال الأمنيوتحسين آليات التنسيق.
“فكرة الانفصال التي يعرضها اليسار يقول رابابورت: غير قابلة للتطبيق، والفرصة أقل من الصفر، وهو يبعث برسالة مروعة للجمهور اليهودي في إسرائيل”. في الواقع، نصه الضمني هو: “نحن لا نريد أن نرى هنا عربًا”، وهذا يضر بحياتنا المشتركة هنا. بالنسبة لي، اليسار الذي يقترح الانفصال هو ليس يساريًّا” يدعي رابابورت أنه بالنسبة للمستوطنين المبادرة هي أفضل بـ 1000 مرة من المبادرات التي عرضت حتى اليوم. ووفقًا لأقواله أنها تحترم الضفة الغربية كمكان بدأ فيه التاريخ اليهود.
أيهما أفضل للمستوطن؟ أن يكون مطرودًا من بيته بعد 40 سنة؟ إذا أقيمت دولة فلسطينية بالشكل المعروف اليوم، فإنه سيحتاج للحصول على تصريح للوصول إلى قبر راحيل والحرم الإبراهيمي. وحسب هذه الخطة سيكون قادرًا على السكن حيث يشاء فقط في ظل الدولة الفلسطينية”.
ومع ذلك، لم تتمكن الكونفدرالية بعدُ من إحكام قبضتها الكبيرة على معسكر اليسار، على الرغم من أنها تثير خطابًا حيويًا ولديها بعض المؤيدين البارزين. يوسي بيلين، من مبادري المحادثات التي أدت إلى صياغة اتفاقيات أوسلو بصفته نائبًا لوزير الخارجية، في عام 2015 دعا للتخلي عن رؤية الدولتين وإقامة كونفدرالية إسرائيلية فلسطينية دون “انقسام مصطنع”. في مقال في صحيفة هآرتس، وصف البروفيسور ماني ماوتنر من جامعة تل أبيب ويوآل زينغر، الرئيس السابق لقسم القانون الدولي في مكتب المدعي العسكري وأحد واضعي اتفاقيات أوسلو، وصف حل الكونفدرالية بأنه الحل الوحيد الممكن.[14] ووفقًا لهم، حتى لو كان الانفصال هو الوضع المرغوب فيه، فلا يوجد مثل هذا الاحتمال حقًا، ويرجع ذلك من بين الأمور إلى حقيقة أن إسرائيل وفلسطين كانتا منذ قرون وحدة واحدة من الناحية التشغيلية.
في المقابل، البروفيسور شلومو أفينيري، باحث في العلوم السياسية ومؤرخ الفلسفة السياسية
يدعي بأن النموذج المقترح غير موجود حالياً في العالم ولن يحل المشاكل الجوهرية للصراع.[15] إسرائيل، على سبيل المثال، لن توافق أبدًا على أن مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين يخدمون في الجيش ويصوتون لصالح البرلمان الإسرائيلي، سيعيشون تحت الحكم الفلسطيني. كما يدعي أفينيري بأنه في واقع تكون فيه الفجوات الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عميقة جدًا، من الضروري مسبقًا تنظيم الظروف التي يمكن للمواطنين الفلسطينيين المستقبليين العمل والسكن في ظلها في إسرائيل وعدم تركها لقوى السوق.
حتى اليوم، يعتبر مفهوم الدولتين من الأشياء المفضلة لدى اليسار، من الناحيتين الأخلاقية والعملية. الغالبية العظمى تفضل الفصل على الاستيعاب، لكن الوضع على الأرض يجبر قادة المعسكر على وضع علامة فارقة لعشرات المستوطنات الجديدة والبحث عن طرق التفافية في الطريق إلى الوجهة القديمة.
الفصل الرابع كيفية اتباع نظام غذائي للصراع
لقد حاولنا أن نفهم ما يقدمه اليسار واليمين اليوم، لكن هناك من يدعي بأن هذا الانقسام ينتمي إلى الماضي. لماذا نُقْسِم قَسَمَ الولاء إلى أحد الجانبين بينما يمكنك أن تأخذ أفضل ما في العالمين؟.
في خطاب القسم، في 13 يونيو 2021، أدرج رئيس الوزراء نفتالي بينيت عناصر من عدة مقاربات مختلفة: “لن تكبل أي مجموعة سياسية أيدينا للقيام بما هو ضروري. العنف والإرهاب ليسا ظاهرتين طبيعيتين يجب التوافق معها ببساطة. يجب أن يتحمل الفلسطينيون المسؤولية. الهدوء سيقود لتحركات في المجال الاقتصادي وتقليل الاحتكاك وتقليل الصراع”.
ماذا يقصد الشاعر بينيت؟ يقول الدكتور ميخا غودمان، وهو مفكر ومؤلف في مجال الفكر اليهودي والإسرائيلي، أن بين “إدارة الصراع” و “حل الصراع”. هناك طريق وسط: “تقليص الصراع” ووفقًا لغودمان، فإن كلا المعسكرين لهما حجج قوية تجعلهما يحافظان على الوضع القائم الحالي. اليسار كما يذكر يتزود بعدة حجج هامة:
الحجة الأخلاقية: الحكم العسكري على السكان المدنيين هو حالة من الاحتلال الذي سينهار علينا أخلاقيا. أبعد من ذلك، إسرائيل تقطع الفرع الذي هي نفسها تجلس عليه لأن أساس وجودها هو حق كل أمة في دولتها الخاصة.
الحجة السياسية: الحكم العسكري يعزلنا في الساحة الدولية. اتفاق مع الفلسطينيين سيفتح أمام إسرائيل عالم كامل من التعاون والتحالفات.
حجة البقاء الديموغرافي: حتى أولئك الذين يعتقدون أن الفلسطينيين لن يكونوا الأغلبية في حالة الضم يفهم أنه ستكون هناك أقلية فلسطينية ضخمة في إسرائيل. أو أن إسرائيل ستتوقف عن كونها دولة يهودية بشكل واضح، أو ستتوقف عن أن تكون دولة ديمقراطية، إذا لم تعطِ هؤلاء الناس حقوقهم.
من ناحية أخرى، لدى اليمين أيضًا حجج مهمة تقودها الحجة الأمنية. يدعي غودمان أن الخوف من غزو الجيوش العربية لإسرائيل عبر فلسطين هو غير ذي صلة كبيرة اليوم، لكن اليمين لديه مخاوف خطيرة أخرى: “منذ اندلاع الربيع العربي، والشرق الأوسط يمر بهزة. هناك من شبهه بهزة أرضية قوية حيث ينهار بها أي مبنىً غير قوي وغير مستقر. إذا كانت القوات الراديكالية في الشرق الأوسط ستغزو الفراغ الذي سينتج في فلسطين الضعيفة، الفوضى الشرق أوسطية قد تصل إلى أطراف تل أبيب. بمعنى آخر، إذا كانت حجة اليمين القديمة هي أن فلسطين قوية للغاية، فقد تهددنا وتسمح بغزو أراضينا، فالحجة اليوم هي أن فلسطين، الضعيفة للغاية، يمكن أن تهددنا “.
“باسم الأحلام الكبيرة نتجنب خطوات صغيرة ولكنها مهمة” يقول جودمان. “تخيل أن يأتي أحدهم ويقول إن لديه طريقة للقضاء تمامًا على الجريمة في البلد، وسيقول شخص آخر، اترك، دعنا نبقي الأشياء كما هي. بين إلغاء الجريمة وعدم القيام بأي شيء هناك حل وسط، وهي أننا نريد الحد من الجريمة. وينطبق الشيء نفسه على حوادث الطرق، وفي مكافحة كورونا أو أي أزمة أخرى. نريد أيضًا تقليل الصراع، في حالة غياب حل مطلق.
“المبدأ، كما يوضح غودمان، هو اتخاذ خطوات تجاه الفلسطينيين، بأن يزيدوا من قدرتهم على التحكم في حياتهم، لكن لا يعرضوا إسرائيل للخطر. “نحن بحاجة إلى زيادة كبيرة في حرية واستقلالية واستقلال السلطة الفلسطينية وجعلها في وضع شبه دولة”، يقول، كيف نفعل ذلك؟ يتضمن برنامج جولدن ثماني خطوات. يتم إعطاء أمثلة لبعض منهم لشرح المبدأ.
المدن الفلسطينية تعمل كشبه جزر مستقلة منفصلة عن بعضها البعض. شخص من رام الله، يريد زيارة ابن عمه من نابلس، عليه المرور عبر نقاط التفتيش ويتعلق بقرارات إسرائيل متى تفتحها ومتى لا. في أوائل سنوات الألفين تم في قيادة المنطقة الوسطى وشعبة التخطيط التابعة للجيش الإسرائيلي بناء برنامج “كل شيء يتدفق” يهدف إلى تعبيد طرق التفافية للمستوطنات وتربط بين مختلف أجزاء السلطة الفلسطينية. صحيح أنها ليست رخيصة، لكنها تخلق تتابع مواصلات فلسطينية وتقضي بشكل شبه كامل على الاحتكاك بين الفلسطينيين وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي.
كبار المسؤولين في الجيش الإسرائيلي يزعمون أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية لديها حاليًا حلول تقنية تمكنها من إزالة الحواجز وزيادة حرية الحركة للفلسطينيين دون الإضرار بالأمن. وينطبق الشيء نفسه على الحراك الدولي: هناك طرق للسماح للفلسطينيين بالسفر بالطيران بحرية دون التنازل عن التفتيش الإسرائيلي الصارم.
يقترح غودمان كذلك بأن يُنقل للفلسطينيين نسبة قليلة من المنطقة C، للسماح للمدن والقرى بالتوسع بشكل قانوني، وإقامة مناطق صناعية تساهم في تنمية الاقتصاد الفلسطيني.
جودمان ببساطة يعكس النموذج. وبدلا من “الضم الزاحف” جاء “الفصل الزاحف”. بدلاً من كيان فلسطيني مثقوب ومشتت وضعيف، ستكون السلطة الفلسطينية جزءًا من مساحة متواصلة ومستقلة اقتصاديًّا، متصلة بالعالم ولها رموز وضع الدولة. هذه الصيغة، كما يزعم جودمان، يمكن أن تكسر التحالف اللاوعيي بين اليمين واليسار، وكلاهما يقوي الوضع الراهن أولئك الذين ينتظرون اتفاقًا، وأولئك الذين يحاولون تجنبه.
“مبادرة الحد من الصراع” أصبحت مؤخرًا أيضًا حركة عامة يحاول أعضاؤها الترويج لخطوات مثل تسهيل معبر اللنبي، وتبسيط نظام تصاريح العمل الفلسطينية وزيادة استقلالية السلطة الفلسطينية من حيث البنى التحتية للطاقة. حزب الأمل الجديد حتى شمل نهج الحد من الصراع في الفصل السياسي الأمني في برنامجه الانتخابي.
تثير الخطة مناقشات سياسية حادة. يرى البعض أنها خطوة في الاتجاه الصحيح ويذكرون “خيبة الأمل” لليمينيين مثل ساعر وبينيت. آخرون في اليسار يعتقدون أن غودمان أعطى الشرعية للمفهوم الذي كان لبينيت وساعر في المقام الأول وهو الاكتفاء بتحسين نوعية حياة الفلسطينيين مع تجاهل حقوقهم الوطنية. حسب هذا النهج يعاني البرنامج من “الخمول الأخلاقي” وهو مصطلح ادعى جودمان نفسه في مقابلة مع “هآرتس”، أنه يطوي فيه الافتراض بأن سيكون هناك إلى الأبد حقوق أكثر لليهود في المنطقة.[16]
المعارضون من اليسار يعتقدون أيضًا أن الخطة تخدم بينيت كغطاء فكري وخطابي لتعميق السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، انعكس ذلك، من بين أمور أخرى، في بناء آلاف الوحدات الجديدة في المستوطنات. في الواقع، يرون أنه إعادة تسمية لنهج إدارة الصراع لنتنياهو، وأخرى مثل هذه قد تغمز بها قطاعات كبيرة من اليسار الإسرائيلي. عرّف رئيس الكنيست السابق أفروم بورغ غودمان بأنه “عامل الحمام للذي يأمل في تنقية الحشرات الإسرائيلية. “جودمان نفسه رفض الانتقادات وقال أنه على استعداد للتنازل عن بعض العدالة من أجل الأمن، أو على حد قوله: “الطريق الوحيد للحفاظ على العدالة هو التخلي عن بعض العدالة”.
كما تم انتقاد الخطة من اليمين، خاصة الادعاء بأن السعي التدريجي للحكم الذاتي سيؤدي في النهاية إلى إنشاء دولة فلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، في اليمين يعارضون بشدة بعض الإجراءات التي اقترحها غودمان، وعلى رأسها، التوسع في البناء في مناطق “C”، فهم يرون في ذلك إثبات وقائع على الأرض وهي إنما تزيد المطالبات الفلسطينية في المستقبل، أو على حد تعبيرهم، خطوة من شأنها أن تقلل من منطقة عمليات إسرائيل وليس الصراع.
في نهاية المطاف، برنامج غودمان جاء لتمهيد الطريق السياسي للوسط السياسي، بعد سنوات حاول فيها الوسط الهروب من القضية السياسية كالهروب من النار والتلويح بأعلام أخرى الوضع الاقتصادي والدين والدولة والفساد العام. أصبح “الوسط” اسمًا رمزيًّا للتعامل مع القضايا التي تهم الإسرائيليين داخل إسرائيل. حتى في الحملات الانتخابية الأخيرة، أكدت أحزاب الوسط الغموض في محاولة لجذب أكبر عدد ممكن من الجمهور. ولكن الوسط ذات مرة شمل مجموعة صغيرة نسبيًّا من أعضاء الكنيست الذين يمكنهم السماح لأنفسهم بالتركيز على القضايا الداخلية والليبرالية، بينما اليوم، في حكومة بينيتلابيد، يشغل الوسط حقائب وزارتي الخارجية والدفاع ويفترض أن يمهد الطريق.
رسميا لابيد لديه خطة سياسية، ولكنها متواضعة ولا تعتبر جوهر أجندة “يش عتيد”. فضل الحزب التركيز في استبدال نتنياهو وفي إصلاحات، مثل تقليص عدد الوزراء في الحكومة وحظر أموال الائتلاف (حتى انضم للحكومة وبدأ يتمتع بها بنفسه).
في حديث معي، قدم لبيد خطة سياسية هي (نسيج محرم) من اليمين واليسار. سيقول النقاد أنها بنيت حسب الرأي العام في الاستطلاعات وليس على الواقع. جوهرها السعي للتوصل إلى اتفاق مع الحفاظ على القدس الموحدة وإبقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة ووادي الأردن في أيدي إسرائيل. يدعون في اليسار بأن هذا غير واقعي وأن مخطط كهذا لن يقبل الفلسطينيون بهً، ومن المعروف أن اليمين يعارض أي ذكر لدولة فلسطينية. يقول لبيد: “أنا لست يمينًيا ولا يساريًّا، أنا براغماتي. هناك في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أشياء يمكن حلها، وهناك أشياء لا يمكن حلها. لو سألوني سأقول أننا لن نتوصل إلى تسوية نهائية، لكن من الممكن الوصول إلى تسوية جزئية، لمنحهم المزيد من الحكم الذاتي ولنا المزيد من الأمن “.
“لتوضيح هذا التصور، وُضعت في غرفة لبيد صورتان خلفه:
صورة لدافيد بن غوريون وصورة لمناحيم بيغن. “عندما يأتي الناس ويسألونني لماذا لديك صور لزعيمين من أحزاب أخرى، أدعي أنهما هربا ويختبئان عندي في الغرفة وهو يمزح. “لأن بن غوريون لن يجتاز اليوم الانتخابات التمهيدية لحزب العمل لقد كان قوميًّا جدًا، وعالمًا توراتيًّا عظيمًا، وكثيرًا ما تحدث بيغن عن الحاجة للحفاظ على حقوق عرب إسرائيل. هل ترين اليوم شخص ما يتحدث عن حقوق عرب إسرائيل ويجتاز انتخابات الليكود التمهيدية؟ هذا هو السبب في أننا بحاجة إلى حزب وسط “.
يعتقد لبيد أن الميل للإشارة إلى الوسط على أنه شيء هندسي، أي أنه نقطة المنتصف بين اليمين واليسار، خطأ. “الوسط ليس نقطة المنتصف بين اليمين واليسار، ولكنه مساحة العمل الحقيقية للدولة. حزب الوسط لا يتجاهل الواقع بل يعمل مع معطيات الواقع”. حتى كوزير للخارجية لبيد لا يرى نفسه كشخص من يقود سياسة اليسار أو حتى الوسط، بل كشخص من مهمته مواجهة التحديات بطريقة تتماشى مع المصالح الإسرائيلية.
طموح قادة خطة تقليص الصراع هو أن يقف قادة الوسط وراءها ويقودوها. اليوم معظم أحزاب الوسط لا تزال مبنية من (نسيج محرم) من اليمين واليسار وليس كمجموعة أشخاص يقفون وراء فكرة سياسية معينة. في أزرق أبيض على سبيل المثال عاشوا في بوتقة واحدة بوجي يعالون، الذي أيد الضم بشكل متحمس وعوفر شيلح الذي عارضه، بحزم حتى أنه اعتبر دعم الفكرة والترويج لها سببًا لفك الشراكة. حتى بعد الانفصال من “يش عتيد” شمل حزب أزرق أبيض “عومر يانكليفيتش”، التي روجت بحماس إلى إعطاء الشرعية للبؤر الاستيطانية غير الشرعية في الضفة الغربية وعساف زامير الذي عارضها بشدة. في لحظة الحقيقة، عندما اضطر إلى الاختيار، عمل وزير الخارجية جابي أشكنازي وغانتس على إحباط الضم من خلف الكواليس، لكن رسميًا حافظا على التعتيم. وقف الشرق الاوسط في مواجهة قرارات مصيرية، حاول قباطنة الوسط بكل جهدهم كيف ينهون الحدث دون خسارة مقاعد لنتنياهو.
الفصل الخامس “لا حُلم لي” النسخة الفلسطينية
يحدد معظم الإسرائيليين موقفهم في المجال السياسي وفقًا لموقفهم من الخط الاخضر. إذا كنتم في اليسار، فربما ترون فيه الحدود المستقبلية بيننا وبين الفلسطينيين. وإذا كنتم في اليمين، فأنتم تريدون أن تستقر إسرائيل على جانبه الشرقي أيضًا. لكن المجتمع الإسرائيلي يكرس القليل من الوقت لمسألة ماذا يريد الفلسطينيون. هل ما زالوا يقدسون الخط الأخضر؟ إن إهمال وجهة النظر الفلسطينية يؤدي إلى تسطيح الخطاب حول الصراع وقد يكلف إسرائيل ثمناً باهظاً.
إيهود يعاري معلّق أخبار 12 للشئون العربية، يعتقد أن الجمهور الإسرائيلي ليس مواكبا للتصورات الآخذة في الترسخ في مكان غير بعيد عنا في رام الله. “من حيث التصريحات تتحد القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني حول رؤية دولتين داخل حدود عام 1967 “بما في ذلك القدس الشرقية ، يقول، لكنه يؤكد أن هذه ليست سوى صرخة معركة وليست خطة عمل سياسية.
تجاه العالم يطالبون بحل الدولتين لكنهم في الحقيقة ينسفونه في كل فرصة. لا أعرف أي فلسطيني تشتاق روحه إلى دولة فلسطينية صغيرة كالمطروحة الآن على الطاولة. ربما يعتقد اليسار أن دولة داخل حدود 1967 هي رغبة الفلسطينيين، لكن هذا ليس هو الحال. هم يطلقون على الدولة داخل هذه الحدود دويلة، اقتطعت من إسرائيل وترتبط بالفقر الذي عبر الأردن. هم يعتقدون أنها ستجعلهم غير ذي صلة لأن الصراع ظاهريا سينتهي وتنتهي معه المليارات التي تدفقت من العالم ولكن اسرائيل ستظل تسيطر فعليًا على الأرض وتفتح وتغلق البوابات كما تشاء”.
يوضح ياري أن بعض الفلسطينيين لا يريدون دولة كهذه خوفا من أنها لن تدار بشكل صحيح وستكون دولة أخرى ضعيفة. لهذا السبب هم يسخرون من إسرائيل يزعمون أنهم يريدون المضي قدمًا، لكن في لحظة الحقيقة يرفضون دفع الثمن المطلوب. يعاري يشارك حكاية من فترة المفاوضات في أنابوليس، أيام رئاسة إيهود أولمرت للوزراء. تسيبي ليفني وأبو علاء، اللذان أدارا المفاوضات، شاركا في مؤتمر في أوروبا ودُعي إليه يعاري أيضًا. “سألت السؤال الأول”، يصف يعاري”. طلبت من الاثنين أن يتحدثا عن قضية واحدة فقط توصلا فيها إلى اتفاق. غضبت ليفني، ابتسم أبو علاء وقال: “تمكنَّا من عمل قائمة بكل المشاكل التي تحتاج إلى حل”. صحيح أن الاثنين أحرزا تقدمًا في بعض القضايا، لكن النهاية معروفة لم يتم التوصل إلى اتفاق هناك.
وبحسب يعاري، فإن النقاش العام الفلسطيني يركز على ما إذا كان يجب إغلاق الباب الآن أمام فكرة الدولتين والمطالبة بدلاً من ذلك بدولة واحدة مع حق التصويت للفلسطينيين، أو افعل ذلك لاحقًا، عندما يكون الاستيعاب والاختلاط بالفعل أمرًا واقعًا.
أوهاد حمو، الذي يقوم بالتغطية الإعلامية من الأراضي المحتلة منذ ما يقرب من 20 عامًا، يعتقد أيضا أن الكثير من المياه قد مرت في النهر في السنوات الأخيرة، حتى لو لم ينعكس ذلك في تصريحات القادة الفلسطينيين. وبحسبه، فإن الخط الأخضر يكاد يكون غير ذي صلة بالخطاب الداخلي الفلسطيني. خطوط 1967 ليس لها أهمية خاصة، بل حدود 1948 فقط، هي المساحة الإجمالية التي يتوق الفلسطينيون إلى العودة إليها. يدور النقاش الداخلي حول مسألة كيفية القيام بذلك. “يجب أن يكون مفهوما أنه منذ البداية لم يجلس أحد في المناطق ويتخيل دولة صغيرة تقع على أقل من ربع مساحة فلسطين التاريخية”، يشرح حمو اليأس الذي ساد الشارع الفلسطيني. “إذا لم يكن ذلك كافيًا، فإنهم يرون أنه حتى إدراك الدولة الفلسطينية الصغيرة ليس في الأفق. لا يوجد أي تقدم في اتجاه حل الدولتين، ونحن ما يقرب من 30 عاما بعد أوسلو”.
والنتيجة، كما قال، هي مثالية للواقع الذي كان قائماً في البلاد قبل الانتفاضة الأولى عام 1987 واحتضانها. إذن، جزءا الخط الأخضر كانا في الواقع وحدة واحدة. “المناطق لقد تم إدارتها على أنها استقلال ثقافي واقتصادي، ويمكن للفلسطينيين دخول إسرائيل متى شاءت أرواحهم، أيضًا لأغراض الرزق. لم تكن هناك مشكلة في تشغيل السيارة في رام الله أو في نابلس والوصول بها إلى تل أبيب. انكشف للفلسطينيين أسلوب الحياة الإسرائيلي والعمل المتوفر بوفرة هنا، واحترام حقوق الإنسان ومكافحة الفساد وهو الأبعد أن يكون من السلطة الفلسطينية أو حماس في غزة.
يتحدث حمو عن أجواء العيد في المناطق، عندما أمكن لحوالي 200 ألف فلسطيني في عام 2020 دخول إسرائيل من خلال فتحات في الجدار الفاصل لقضاء عطلة نهاية أسبوع: “الناس الذين لم يكونوا هنا منذ 20 عامًا، اتصلوا بي بلهفة من الشاطئ. أزيلوا السياج قالوا ببساطة، دعونا نعيش معًا”. يقول إن هذا هو النهج الذي أصبح راسخًا في مناطق السلطة: السيادة الفلسطينية أقل أهمية، الأرض وسلامة الأرض أكثر أهمية. لا يزال الفلسطينيون يحلمون بالعودة إلى فلسطين وما زالوا يعتقدون أن مستقبلهم يكمن في الماضي في القرية التي هرب منها أجدادهم. ولكن إذا في الستينيات والسبعينيات، خططوا للعودة على حساب دولة إسرائيل ودفع اليهود إلى البحر، اليوم الغالبية العظمى من سكان المناطق المحتلة يدركون أن هذا لن يحدث أبدًا. بهدوء بهدوء، يعترف الكثيرون بأنهم على استعداد للعودة إلى إسرائيل، لممارسة حق العودة بداخلها، أو على حد تعبير حمو لينصهروا فيها. الطموح الكبير هو إنشاء كيان سياسي واحد، بلا حدود، بين الأردن والبحر، حتى لو كان الفلسطينيون فيها في المرحلة الأولى مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة بدون حقوق.
يقتبس حمو كلام رجل أعمال معروف بـ حماس من شمال الضفة الغربية، الذي يشرح خط التفكير هذا: “ثمة عملية حتمية. نحن نعلم من أين تبدأ ونعرف أين ستنتهي. حتى إذا استغرق الأمر 20 أو 30 أو 50 عاما، سنكون في النهاية مواطنين إسرائيليين مثلكم”. هذا الجيل على استعداد للتضحية بحقوقه من أجل الأجيال القادمة.
إنه لأمر مدهش أن نرى مدى توافق تطلعات الشباب الفلسطيني مع خطط الضم الكامل اليمينية دولة واحدة للجميع. لكن بينما سموتريتش وآخرون يعتقدون أنهم سينجحون في حرمان الفلسطينيين من حق التصويت في الكنيست إلى الأبد، يعتقد الفلسطينيون أن الوقت سوف يفعل ما هو مطلوب. عمليًّا، النتيجة هي أن كليهما يضغط من أجل اختلاط السكان بدلاً من الفصل العنصري.
عضو الكنيست أحمد الطيبي من “الحركة العربية للتجديد (تعل)” يؤكد على الفارق الجوهري بينهما. “هناك فكرة اليمين، بضم المنطقة C، وهناك فكرة الدولة الواحدة لليسار الفلسطيني. عندما يتعلق الأمر بفكرة الدولة الواحدة فإن الحديث يدور حول دولة تمتد من البحر إلى النهر، وستكون بها المساواة المدنية والحق في التصويت والانتخابات للجميع. يوجد اليوم المزيد من الفلسطينيين الذين يعتقدون أن هذا خيار جيد لأنهم لا يرون حلا آخر في الأفق. يأخذ الفلسطينيون في الحسبان أنه سيكون لديهم في المستقبل أغلبية ويعتقدون أن مطالبهم بالمساواة في الحقوق ستلقى استحسان الغرب، في ظل غياب حل لإنهاء الاحتلال”.
أما فيما يتعلق بضم منطقة ” C ” فقط، يرى الطيبي أن العديد من الفلسطينيين سيعارضون بشدة حتى لو تم منح الملحقين كامل الحقوق. ويوضح أن “الفلسطينيين يريدون حلاً سياسياً شاملاً، ويكون لهم كيان سياسي”. من المفترض أن يكون الضم حلاً لعدة آلاف من المواطنين الفلسطينيين، لكنهم سيظلون الأقلية وسيترسخ الاحتلال. بدون 30٪ من الضفة الغربية، لا أمل لدولة فلسطينية مستدامة”. لذلك، قال، لن يقبل الفلسطينيون مخطط الضم، وهذا سيؤدي حتى إلى اندلاع العنف. وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني التي أدارت المفاوضات مع الفلسطينيين، موافقة. وتقول: “لا يوجد مثل هذا الحيوان، ضم المنطقة “C” فقط. إنه وهم”، “سيواصل الفلسطينيون النضال من أجل دولة، وكذلك نحن سوف نشهد إرهابًا يوميًّا. إذا كانت هناك فرصة أخرى للتوصل إلى الهدوء، فهي فقط من خلال حدود واضحة والفصل بيننا”.
سكن الصحفي محمد مجادلة في السنوات الأخيرة في أراضي السلطة الفلسطينية. مجادلة الآن من سكان باقة الغربية، انتقل إلى رام الله ليُنشئ قسم الأخبار في قناة “مساواة” الفلسطينية الموجهة للمجتمع العربي في إسرائيل. خلال هذه السنوات أجرى هناك العديد من المحادثات مع الشباب الفلسطيني حول الطريقة التي يرون بها الصراع. ويحذر من أن “الأمر معقد”. “الشباب الفلسطيني مليء بالتناقضات الداخلية”. مجادلة على دراية بالطبع بالمفاهيم التي يعرضها “حمو” و “يعاري” لكنه ينظر إلى ذلك على أنه فجوة بين الأجيال. الشباب الفلسطيني أكثر يمينية وأكثر تشددًا، مثل الشباب الإسرائيلي، بينما البالغون مع حل وسط بشكل عام بالطبع.
ويوصي بالاهتمام بسلم أولويات الشباب الفلسطينيين. ويقول: “قبل كل شيء، هم يريدون التخلص من السلطة الفلسطينية”، إنهم يرون في القيادة الفلسطينية قيادة فاسدة وفوضوية، تتعاون مع إسرائيل، وبالتالي يحلمون بانهيارها.
بعد ذلك سيتفرغون إلى الصراع مع إسرائيل. “ليس لدى الشبان الفلسطينيين حلم”، يتابع. “عدد كبير منهم لا يريدون بعد حل الدولتين، لكن ليس لديهم حل آخر. الشيء الوحيد الذي يتفقون عليه هو أن إسرائيل يجب أن تختفي من الخريطة وأن يتم تدميرها”.
يحكي مجادلة قصة شاب فلسطيني موهوب يبلغ من العمر 25 عامًا، في سنه المبكرة يدير بالفعل شركات بالملايين في الولايات المتحدة. يستثمر ثروته وطاقته في النضال ضد إسرائيل وضد السلطة الفلسطينية، ليس بالضرورة بهذا الترتيب. أصيب والده بالسرطان مؤخرًا. لقد تردد بشدة وأخيراً قرر علاجه في إسرائيل، وتم نقله إلى مستشفى هداسا عين كارم. وفق مجادلة هذه القصة باختصار هي قصة صراع الشباب الفلسطينيين: “هم أكثر تعليما وعقائديا ونضالا، لكنهم يفهمون أيضا أن التطور والتقدم موجودان في إسرائيل ويريدون أن ينجحوا. عندما يكون لزامًا عليهم أن يختاروا بين العلاج الأردني أو الإسرائيلي، فإنهم يفضلون الإسرائيلي. يريدون الاندماج ويريدون حياة كريمة، لكنهم يحتقرون إسرائيل ككيان سياسي.
وبحسبه فإن أكبر مشكلة للفلسطينيين في السلطة اليوم هي أنه ليس لديهم مشروع وطني. حماس والجهاد الإسلامي يقدمان لمؤيديهما طريقًا طريق العنف، لكن السلطة الفلسطينية لا تقدم أي أفق للشباب، لأنه لا أحد يؤمن بالأفق السياسي وبقدرة السلطة الفلسطينية على أن تحقق التوقعات.
أظهر استطلاع أجراه المعهد الفلسطيني للبحوث السياسية (PSR) في نهاية عام 2021 أن 46٪ من الفلسطينيين يؤيدون حل الدولتين، مقابل 53٪ يعارضونه. 76٪ يعتقدون أن فرص إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل في السنوات الخمس المقبلة ضئيلة. في الواقع، يُجمع الجمهور الفلسطيني فقط على هدف إنهاء الاحتلال، لكنه منقسم حول كيفية تحقيقه بينما يؤيد 44٪ الكفاح المسلح، ويفضل 36٪ المفاوضات، و 16 بالمائة يؤيدون النضال الشعبي السلمي. إن دعم المقاومة العنيفة أعلى في غزة منه في الضفة الغربية.[17]
وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا بعد ذلك. يدعي يعاري: إن على إسرائيل أن تفرض التسوية على الفلسطينيين. “أعتقد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان يجب أن يذهب منذ فترة طويلة إلى رئيس الولايات المتحدة وزعماء الاتحاد الأوروبي ويعلن أنه سيوافق الآن على منح 7080 بالمائة من الضفة الغربية لإقامة دولة فلسطينية. نحن سنزودهم بطبول الترومبون التي ستعزف النشيد الوطني”. علينا أن نأتي إلى العالم ونعلن: أيها السادة، نحن مستعدون لإقامة دولة فلسطينية بدون ثمن. نحن لا نطالبهم بالاعتراف بالحق الإسرائيلي التاريخي في القدس، أو التنازل عن حق العودة، فقط الاستمرار في الترتيبات الأمنية. وسنتخاصم على باقي الأمور فيما بعد”. ويقدر يعاري أن المجتمع الدولي سيضغط على أبو مازن لقبول مثل هذه الصفقة. مصلحته، بطبيعة الحال، هي إنهاء الصراع والتوقف عن دعم الفلسطينيين.
كما يلوح حمو بعلم أحمر. ووفقا له، فإن الرغبة الفلسطينية في دمج ثلاثة ملايين فلسطيني من الضفة الغربية ومليوني فلسطيني آخرين من غزة داخل إسرائيل أمر خطير، وبالتالي فإن الفصل هو مصلحة إسرائيل العليا. ويقدر أن الاستيعاب التدريجي قد يمر بهدوء، لكن من المستحيل إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. يذكر أن محاولات الفصل بين السكان المختلطين في العالم انتهت بإراقة الدماء، كما حدث في انفصال الهند وباكستان.
“مجادلة ” لا يشير إلى حل واضح، لكنه يوافق على أنه في الوقت الحالي سيكون التوصل إلى اتفاق يؤيده الجمهور الفلسطيني صعبًا للغاية، السبب أولا وقبل كل شيء داخليّ لقد فقدت السلطة الفلسطينية شرعيتها أمام شعبها. في الواقع، يعيش الفلسطينيون منذ أكثر من عقد في أزمة سياسية داخلية متصاعدة غياب انتخابات تشريعية ورئاسية، وأعمال عنف دامية ضد معارضي النظام، وتقليص المساحة الديمقراطية سواء في مناطق السلطة الفلسطينية أم في قطاع غزة. في الحقيقة، الشيء الوحيد القاسم المشترك بين “فتح” و”حماس ” هو أن كلا الحركتين تعانيان من مشكلة شرعية خطيرة.
رابين، كما ذكر، كان يقول إن السلام يُصنع مع الأعداء، بينما نتنياهو تكلم عن سلام مع الأعداء الذين لم يعودوا كذلك. بحسب ما يحدث في السلطة الفلسطينية، يبدو أن هناك شرط مسبق لأي تقدم وهو أن يكون الطرف الآخر قويًا بما يكفي للتفاوض وخلفه جمهور كامل يدعمه.
الفصل السادس أشياء يمكن رؤيتها من الأكواريوم
في عام 2005، عشية تطبيق خطة فك الارتباط، حاول المعلقون والصحفيون أن يفهموا كيف يمكن لمن روّج لمشروع الاستيطان طوال حياته أن يستيقظ ذات صباح ويقرر إخلاء 26 مستوطنة؟ كانت الإجابة التي اعتادوا على سماعها من رئيس الوزراء آنذاك، أرييل شارون، هي اللغة التي رافقت السياسة منذ ذلك الحين وحتى اليوم: “الأشياء التي تُرى من هنا لا تُرى من هناك”، في إعادة صياغة الترنيمة التي غنتها يهوديت رافيتس ” الأشياء التي تُرى من هنا لا تُرى من هناك”.[18]
هذه الظاهرة، المتمثلة في قيام رؤساء الوزراء بقلب جلودهم في اليوم التالي لتوليهم مناصبهم، تُشغل بشكل أساسي اليمين. كما أن رؤساء الوزراء اليساريين تعرجوا على مر السنين، ولكن في الوعي العام، حافظ رابين وبيرس وباراك على كلمتهم وحاولوا دفع عملية سياسية في ورديتهم. كما وعد باراك بإخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان وأوفى بوعده. ومن ناحية أخرى، وقع بيغن اتفاقية السلام مع مصر وأخلى سيناء.
وقاد شارون خطة فك الارتباط التي تضمنت إخلاء كتلة قطيف وشمال الضفة الغربية. وعلى ذلك قيلت المقولة الشهيرة بأن اليمين فقط قادر على صنع سلام حقيقي، أما اليسار فللخروج للحرب.
هل حقا؟ هل أيديولوجية اليمين لا تصلح إلا للحملة الانتخابية، لكن الواقع المحلي والدولي لا يسمح بتنفيذها؟ أو ربما تكون أسطورة تهدف إلى منع قادة اليمين المستقبليين من خيانة ناخبيهم؟
كان مناحيم أول زعيم يميني وصل إلى السلطة في عام 1977. في حملته الانتخابية، وعد بأن كل صوت لصالح “جاحال “(كتلة الأحرار الليبرالية) هو تصويت لإسرائيل. كان يُنظر إلى بيغن على أنه زعيم كانت الأيديولوجيا هي الدافع الرئيسي لقوته وليست الرغبة في السلطة. كانت التوقعات منه هائلة: هذا هو القائد الذي سيحقق رؤيته وسيضم أرض إسرائيل الغربية، وربما يصل إلى ضفتي نهر الأردن. في الخطاب الذي قدم فيه حكومته في الكنيست طالب بيغن يهود إسرائيل والعالم إلى الاستيطان في جميع أنحاء البلاد: “انهض، وهاجر إلى إسرائيل واستوطن. تعال من الغرب والشرق ومن الشمال والجنوب لكي نبني معًا أرض إسرائيل. يوجد متسع في أرض إسرائيل لملايين العائدين إلى صهيون”.[19]
“على الرغم من التصريحات الاحتفالية، بعد أسابيع قليلة من انتخابه، كان من الواضح بالفعل أن بيغن كان يسعى لإجراء محادثات سلام”، يذكر عضو الكنيست السابق أرييه إلداد، مؤلف كتاب ” أشياء يمكن رؤيتها من هنا”. “لقد سألوا ماذا حدث لبيغن، لكن الإجابة كانت أنه لم يحدث له شيء. كان من اليمين من أشار إلى التغيير الذي مر به بيغن لسنوات من قبل. لم يعامل بيغن سيناء على أنها أرض إسرائيل، وعندما نسمع خطاباته في الكنيست عامي 1956 و 1957، بعد عملية سيناء، كان انتقاده لبن غوريون أنه تنازل عن قطاع غزة، الذي هو جزء من أرض إسرائيل، وأعطى سيناء مقابل لا شيء. أي أنه منذ عام 1956 كان يميز بين سيناء وقطاع غزة، لأنه لم يرسخ أبدًا خريطة أرض إسرائيل الكاملة (أرض الميعاد: “من نهر النيل إلى نهر الفرات “). كانت خريطة الانتداب البريطاني مقدسة بالنسبة له، وإن لم يتم تضمين سيناء في الانتداب البريطاني هي لم تعتبر جزءًا من أرض إسرائيل.
“ولكن في رأي إلداد، أن الخلاف الأيديولوجي الحقيقي مع بيغن في محادثات كامب ديفيد لا علاقة لها بسيناء، بل بالذات لها علاقة بالضفة الغربية. في اللحظة التي ربط بها السادات بين تحقيق السلام مع مصر وحل النزاع مع الفلسطينيين، كان بيغن على استعداد للمضي قدمًا أيضًا في القناة الفلسطينية. كان هذا انحرافًا حادًّا ومفاجئًا على سبيل المثال في المناقشات الحكومية بعد حرب الأيام الستة اعتقد بيغن أن أي حكم ذاتي للفلسطينيين سيؤدي حتمًا إلى قيام دولة مستقلة، وفي السنوات التي سبقت انتخابه رئيسا للوزراء تنكر لوجود شعب فلسطيني مثل غولدا مئير من قبله. وما زال، خلال المفاوضات للتوصل إلى اتفاق السلام مع مصر اعترف بيغن لأول مرة بالمطالب الفلسطينية وكان على استعداد لمنحهم الاستقلال الإداري. برنامج الحكم الذاتي، الذي كان في الواقع جزءًا من اتفاقيات كامب ديفيد، نص على إلغاء الحكم العسكري في المناطق المحتلة ويقام حكم ذاتي يديره الفلسطينيون ما عدا الشؤون الخارجية والأمنية. أصر بيغن على ألا يكون للفلسطينيين برلمان مستقل، هكذا في الواقع يدور الحديث حول إنشاء إدارة ذاتية وليس حكمًا ذاتيًّا. ونص البرنامج كذلك، على أن أي فلسطيني معني بذلك سيحصل على بطاقة هوية إسرائيلية. اعتاد بيغن التأكيد على أنه يعتبر الخطة على أنها تمنح “الحكم الذاتي للشعب وليس للأراضي”. بالنسبة له، الحق في أراضي الضفة الغربية كان ولا يزال للشعب اليهودي. على الرغم من أن الخطة أقرت في الكنيست، إلا أن المحادثات توقفت في منتصف العام 1980 بعد أن أقر أعضاء الكنيست قانون أساسي لعضو الكنيست غيئولا كوهين، الذي نص على أن تكون القدس كاملة وموحدة عاصمة لإسرائيل. حتى أن بيغن جاء إلى الكنيست لدعم القانون وهو على فراش المرض. محادثات الحكم الذاتي تم تجديدها بعد بضعة أشهر، لكنها توقفت أخيرًا مع اندلاع حرب سلامة الجليل.
يزعم إلداد أنه ليس الوصول إلى كرسي رئيس الوزراء هو الذي أدى إلى التحول لدى بيغن، بل الرغبة في بلوغ كرسي الحكم في المقام الأول والفرصة التي أتت في طريقه للدخول إلى صفحات التاريخ. في الفترة التي سبقت انتخابات الكنيست السادسة، وصل بيغن إلى نتيجة أن حزب “حيروت” وحده لن ينجح في انتزاع السلطة وقد وصل إلى سقفه الزجاجي. لقد عمل على الاتحاد مع الحزب الليبرالي، الذين كان يتألف من حزبين الصهاينة العامون والتقدميون. في 26 أبريل 1965 اجتمع في البيت الصهيوني الأمريكي في تل أبيب مهندسا الاتفاقية عضو الكنيست مناحيم بيغن، زعيم حيروت، ورئيس الحزب الليبرالي يوسف سابير. لقد رفعا كأسًا ووقعا على اتفاقية أدت إلى إنشاء “جاحال “(كتلة الأحرار الليبرالية). في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، قدر بعض المعلقين السياسيين أنه تم إنشاء الكتلة التي يمكن أن تحل محل حكم “ماباي”، (حزب عمال أرض إسرائيل). نتج عن هذا الاندماج للحزب 26 مقعدًا في الانتخابات التي أجريت في نهاية العام، ووضع نفسه كثاني أكبر حزب بعد ماباي.
لم يكن الاندماج بديهيًّا. فقد مثل الليبراليون ذوي المهن الحرة، الذين عارضوا تدخل الدولة وأرادوا السماح للمبادرة الخاصة ورأس المال الشخصي بالقيادة. كان حزب حيروت حزب الطبقات الضعيفة، الذين كانوا بحاجة إلى تعميق المساعدة العامة أكثر من الجميع. كما كان الحزب الليبرالي أيضًا أكثر ليونة من حيروت من الناحية السياسية، بل إن بعض أعضائه استقالوا لأنهم اعتبروا بيغن متطرفًا.
يرى إلداد في حقيقة الاندماج كإشارة أخرى لنوايا زعيم اليمين. يقول: “سمح بيغن للأحزاب بالحفاظ على نظرتهم، مما يشير إلى أنه كان مهتمًّا بالقوة السياسية وأقل انزعاجًا من القضية الأيديولوجية “. “الناس الذين عرفوه يعرفون أن هناك فجوة كبيرة بين خطابه وبين إيمانه الحقيقي.
كان بيغن ليبراليًّا حقيقيًّا أراد السلام مع العرب، وليس يمينيًّا متطرفًا كما حاولوا وصمه. أتاح له الواقع فرصة لاتخاذ خطوات تاريخية، وكان على استعداد للتضحية ببعض مبادئه مقابل اتفاق السلام مع مصر”.
ومع ذلك هناك توجهات أخرى. يعتقد المؤرخ الدكتور موشيه فوكسمان، المتخصص في اليمين الإسرائيلي أن بيغن اعتبر اتفاقيات كامب ديفيد أداة لتحقيق تسليط الضوء على الجناح اليميني لسياسته وجوهر رؤية حركة حيروت محو الخط الأخضر، الحاجز الذي يمر عبر قلب أرض إسرائيل ويضع حدود الدولة الفلسطينية. الإمكانية التي منحها بيغن للفلسطينيين للحصول على الجنسية الإسرائيلية يمكن أن تشير أيضا إلى نيته. خلال فترة عمله، بالتوازي مع المفاوضات، طور بيغن المشروع الاستيطاني الذي سيكون بمثابة ثقل موازن لأي انسحاب في المستقبل. في سنوات 19771983 أقيمت عشرات المستوطنات الجديدة على الأرض وازداد عدد المستوطنين خمسة أضعاف.
من بين عشرات المستوطنات التي تم إنشاؤها خلال فترة بيغن كانت أريئيل، وبيت إيل، وشيلو، وكارني شومرون، وتقوع، ألون موريه، إفرات، جفعات زئيف، بسغوت، ألفي منشيه وغيرها الكثير.[20]
في الواقع، وفقًا لفوكسمان، لم يتخلَّ بيغن عن مفهومه السياسي، بل طوره بحنكة، بينما كان يثبت الحقائق على الأرض. هو يعرف أن الأمريكيين يحتاجون إليه لإكمال معاهدة السلام مع مصر.
وخلال هذه الفترة تقدم في بناء المشروع الاستيطاني. أيضا كتلة الليكود التي تم تحديثها خلال المفاوضات تلقت هذا الانطباع. وأوضح رئيس الائتلاف عضو الكنيست حاييم كورفو، الذي أبلغ أعضاء الكنيست عن التطورات، شرح لهم المنطق وراء هذه الخطوة: “ظهرت فكرة الحكم الذاتي للحفاظ على الضفة الغربية. نحن نرفض الحل النهائي للضفة الغربية وننشئ في نفس الوقت المستوطنات كواقع. يجب أن نستوطن وإلا سيصبح الحكم الذاتي دولة عربية “.[21]
بعد اعتزال بيغن عام 1983، وصل إسحاق شامير الذي وعد بالاستمرار في زخم الاستيطان في الضفة الغربية. شامير يميني أيديولوجي بكل جسده وروحه، بدأ وأنهى طريقه كمُنَظِّر حازم تمسّك بمواقفه منذ يومه الأول في المنصب وحتى يومه الأخير. لم يُرد شامير حضور مؤتمر مدريد إطلاقا ولا يؤمن بالوساطة الخارجية. تم دفعه إلى العملية بسبب الضغط الشديد والتهديدات الأمريكية بتقليص أموال الضمانات من الولايات المتحدة لاستيعاب المهاجرين من الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، أصر على أن الفلسطينيين لن يكون لهم وفد مستقل وسيكونون ممثلين في المؤتمر ضمن وفد مشترك فلسطيني أردني.
“وزعم رجال أوسلو أنهم يسيرون على خطى مؤتمر مدريد، ولكن عند فحص المواضيع التي تنازل عنها شامير في مدريد وما تنازلوا عنه في أوسلو يزعم إلداد أن هناك فجوة كبيرة “.
إنهم كانوا مرتاحين لتقديم أنفسهم على أنهم أتباع لهذا الطريق، لكن شامير استبعد قيام دولة فلسطينية في أي مكان، ربما باستثناء الأردن. المحادثات في مدريد لم تحرز تقدما في ذلك لأن شامير لم يكن معنيًّا بالتقدم”.
في موضوع نتنياهو ومسألة ما إذا ما زال متمسكًا بآرائه اليمينية، قد سبق وأن تناولناه في الفصل السابق. بينما يراه إلداد زعيما براغماتيا وليس زعيما أيديولوجيًّا، يعتقد أنشيل بيبر أنه لم يتوقف أبدًا عن التواصل البصري مع معتقداته. تبعه أرييل شارون. البطل القومي بالضمادة على رأسه من حرب يوم الغفران الذي مر بثورة من ضابط وسياسي يتجاهل القواعد، يتخطى المحظورات، لجد طيب يحمل شاة على كتفيه. ومع مر السنين، كان يُنظر إلى شارون على أنه شخص غير مقيد، لكن من وجهة نظر إلداد، كان نوعًا من حزب عمال أرض إسرائيل طوال الطريق مثل بيغن. كان شارون أيضًا عضوًا رسميًّا في ماباي، حيث جند الحزب في الخمسينيات أعضاء هيئة الأركان العامة. وعندما دخل السياسة، حكى شارون إنه يتذكر اليوم الذي حصل فيه على رتبة عقيد “اليوم الذي تلقيت فيه شهادة عضوية مباي”. يقول إلداد: “لم تُثقل الأيديولوجيا على شارون أبدًا. “لقد كان وطنيًا ومالك الأرض الذي أدرك الأهمية الهائلة لحيازة الأراضي وبناء المستوطنات ولكن لم تكن أرض إسرائيل الكاملة قيمة عليا بالنسبة له”.
من وجهة نظر عامة، شارون هو لغز: رجل بنى عشرات المستوطنات وكرس أفضل سنواته للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، ومن ناحية أخرى، هو الرجل الذي وقع على إخلاء غوش قطيف ومستوطنات شمال الضفة. يقول إلداد: “إنه يكره العرب، وهذا كل ما وضعه في اليمين”.
“من ناحية أخرى، كان براغماتيًّا تمامًا وشعر أنه إذا لم يتخذ خطوات فلن يقوم بها أحد”. يضيف إلداد أن اقتحام شارون الحرم القدسي الشريف كان سببًا لاندلاع الانتفاضة الثانية وسقوط حكومة باراك، لكنه قال إن دافع شارون كان سياسيًّا وساخرًا تمامًا. لم يكن يعنيه الحرم القدسي الشريف، بل مكانته كزعيم للمعارضة الوطنية”. كانت تدور في اليمين معارك داخلية، وشارون اعتقد أن الصعود إلى الحرم القدسي سيعطيه نقاطًا في وسط الليكود. “ليس لدي شك في أنه لم يعتقد أن ذلك قد يسبب مثل هذه الضجة الكبيرة”، يقول إلداد.
وعندها جاءت الثورة. لقد تبنى شارون، في بداية ولايته كرئيس للوزراء، خارطة الطريق الأمريكية وأعلن فيما بعد الترويج لخطة فك الارتباط. الخطة، التي تضمنت إجلاء حوالي 8600 من سكان غوش قطيف وشمال الضفة، أصابت اليمين بالذهول. واعتبروه كمحاولة من شارون للفوز ب “أترجة” الإعلام والنخبة القانونية من أجل النجاة من تحقيقات الشرطة التي أثارتها في ذلك الوقت. ومع ذلك، فوجئ أولئك الذين كانوا على دراية بتاريخه السياسي عن كثب. شارون هو الذي أعطى بيغن السند والدعم في كامب ديفيد عندما أعلن كوزير للزراعة أنه من أجل السلام يؤيد إخلاء المستوطنات وكان أحد منفذي الإخلاء من شمال سيناء.
خطة فك الارتباط نفسها عبرت عن تعقيد شارون. صحيح أن إجلاء المستوطنين كان ينظر إليه من قبل الجمهور على أنه حركة يسارية، لكن شارون روّج لهذه الخطوة على وجه التحديد لأنه لم يؤمن بإمكانية التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. “كان يعتقد أنه لم يكن هناك من يوقع معه اتفاق وأنه لا يوجد شريك بالفعل” يحلل إلداد، “هو لم يثق في العرب، وبالتالي تقدم في العملية من جانب واحد”. بعد تنفيذ الخطة، أكد شارون أنه لن يكون هناك أي انسحاب آخر واعتقد أن عبء الإثبات قد انتقل إلى الجانب الفلسطيني.
بعد أن غرق شارون في غيبوبة، حل محله عضو سابق آخر في الليكود إيهود أولمرت. تم انتخابه للكنيست لأول مرة نيابة عن الليكود عام 1973، عن عمر يناهز فقط 28 عامًا، واشتهر بنضاله ضد الفساد والجريمة المنظمة. سياسيًّا، يعتبر الشاب أولمرت من الصقور وكان في سنوات التسعينيات من أقوى المعارضين لاتفاقيات أوسلو. التاريخ سوف يتذكر نتنياهو كمن وقف على المنصة في نفس المظاهرة في ميدان تسيون حيث رفعت بها لافتات رابين في زي ضابط نازي، لكن أولمرت، الذي شغل منصب رئيس بلدية القدس، هو كذلك من نظم المظاهرات ضد أوسلو في المدينة بل وتحدث في بعضها. كان أيضا أحد قادة البناء في مستوطنة “هار حوما” ودفع لفتح أنفاق حائط المبكى. من خطاباته كرئيس بلدية كان يمكن الفهم أنه رفض بشكل قاطع أي اتفاق من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم المدينة: “العاصمة الخالدة للشعب اليهودي”، “المدينة مرتبطة ببعضها البعض” و “القدس الموحدة، عاصمة إسرائيل إلى أبد الآبدين!”.
“في كتاب كتبه خلال فترة وجوده في السجن، قال: إن هذه الفترة بالذات من حياته كرئيس بلدية هي التي أدت إلى نقطة التحول الأيديولوجية الماضية. “عندما تركت الوظيفة، علمت أنه لا مفر من تغيير حدود العاصمة” كشف أولمرت “لأن القدس اليوم ليست هي المدينة التي كنا عليها منذ آلاف السنين. وما للقدس وجبل المكبر وشعفاط وبيت حنينا؟ المدينة تم تقسيمها بالفعل والفجوة في نوعية الحياة بين شطري المدينة مروعة. الذي عليه معالجة مشاكل التعليم والتوظيف والإسكان يعرف أنه لا توجد طريقة لتقديم حلول عملية. نحن مقيدون بشعارات وحدة المدينة، لكن لن يكون بعيدًا اليوم الذي سيكون الفلسطينيون فيها أغلبية”.[22]
بعبارة أخرى، تخلى أولمرت عن أرض إسرائيل الكاملة قبل فترة طويلة من وصوله إلى منصب رئيس الوزراء. بالفعل عندما عاد من بلدية القدس إلى السياسة القومية، كان لأولمرت سياسة مختلفة. تفاوض فيما بعد مع أبي مازن وكان رئيس الوزراء الذي وافق على التنازلات الكاسحة الأكثر تجاه الفلسطينيين. لكن أولمرت، خلافا لبراك، لم يشعر بأنه لا يوجد شريك، رغم أن الفلسطينيين رفضوا طلبه ولم يعودوا إليه إلى يومنا هذا. إنه يعتقد أن أعضاء كديما حزبه هم الذين نصحوا أبا مازن بانتظار التوقيع بسبب وضعه السياسي المهتز، ربما ليدفعوا العملية بأنفسهم. وهو يعتقد أنه لو بقى في منصبه لبضعة أشهر أخرى، لتم التوقيع على الاتفاق. ومن انتخب بعده كما هو معروف، أظهر اهتمامًا أقل بكثير بالفلسطينيين.
إلداد لا يقبل التصور القائل بأن مكتب رئيس الوزراء يرى الأمور بشكل مختلف. ويعتقد أن جميع رؤساء الوزراء يعرفون القيود وحدود المرسوم حتى قبل أن يتم انتخابهم لهذا المنصب.
كان معظمهم في السابق وزراء وأعضاء في مجلس الوزراء المصغر الكابينيت.” على الأرجح أنهم ببساطة قد تآكلوا. زعيم ينطلق بإيديولوجية، في مرحلة ما يدرك أنها لن تقدمه ويقوم بتأجيل تنفيذها قليلاً، ثم يتنازل عن بعض مكوناتها ويتخلى عنها في النهاية. ” بمعنى آخر، بحسب إلداد، الشيء الوحيد الذي يراه رؤساء الوزراء “من هنا” هو حجم القوة وإلى أي مدى سيذهبون للاستمرار في التمسك بها. “هم يرون أنفسهم فقط بشكل مختلف عندما يتولون زمام الحكم. معظمهم على يقين من أنهم وحدهم يستحقون المنصب. وأن ليس لديهم بديل. أي شخص يأتي من بعدهم سوف يعيث الخراب والدمار. لذلك، ومن أجل الحفاظ على أنفسهم كحكام، هم أيضًا على استعداد للتضحية بالأيديولوجية التي اعتنقوها. أو على الأقل قدموا أنفسهم على أنهم يحتفظون بها. ما اعتبروه ذات مرة بدعة أيديولوجية كاملة يبدو فجأة ثمنًا معقولاً مسموح دفعه لإبقائهم في السلطة.”
إيريز تدمر، مؤلف كتاب “لماذا تصوت لليمين وتحصل على اليسار”[23] يشرح الأمر بطريقة مختلفة. وبحسبه، يفوز اليمين في صناديق الاقتراع، لكن اليسار يهيمن على الحوافز التي تهم السياسيين الإعلام والخطاب الفكري والقانوني والثقافي وبالطبع البيروقراطية. وهكذا ينجذب السياسيون من اليمين إلى تبني مواقف اليسار من أجل الاستمتاع بمداعبة النخبة. من وجهة نظره، فقط عندما تكون مراكز القوة هذه أقل يسارية، سيكون لرؤساء الوزراء اليمينيين مصلحة في ممارسة السياسات التي تم انتخابهم من أجلها.
لكن لاحظوا ما يحدث في الاتجاه المعاكس. حتى في اليسار، اتضح أن هناك من يعتقد أن قادة معسكرهم لم ينجحوا حقًا في اتباع سياسة يسارية عندما كانوا في السلطة، ودليل على ذلك الوضع على الأرض. أعني، لقد حاولوا عمل يسار، لكنهم حصلوا على يمين. القصد من ذلك هو أن رؤساء الوزراء اليساريين حاولوا دون جدوى دفع اتفاقية سياسية، لكنهم واصلوا عمليًا مشروع الاستيطان المعد لإحباط اتفاقية مستقبلية.
خلال فترتي باراك وشارون، بنيت وحدات سكنية بمعدل سنوي أكثر مقارنة بالسنوات الأولى من ولاية نتنياهو الثانية، والتي بدأت في عام 2009. حاجيت عوفران من حركة “السلام الآن” تحكي عن نمط مثير للاهتمام: رؤساء الوزراء الذين حاولوا دفع العملية السياسية قدما، هما بالذات باراك وأولمرت، اللذان حررا لجام البناء عندما قاما بتسريع المحادثات. وتقول: “أراد باراك ائتلافًا واسعًا قدر الإمكان، لذلك أدخل “حزب المفدال” الحزب الديني القومي في الحكومة”. وأضافت “كان يعتقد أنه على أي حال إذا وقع اتفاقًا، فلا مانع من بناء بضع وحدات أخرى فسرع في بناء المستوطنات. في النهاية بقيت الوحدات ومعها الصراع”. كان رابين استثنائيًّا، فقد جمد البناء حتى قبل بدء العملية السياسية لأنه رأى في ذلك وفاء بوعده للناخبين بتغيير أولويات الاستثمار الوطني. أما بالنسبة لأولمرت وباراك، في المقابل، كانت النتيجة صفر اتفاقات السلام وآلاف الوحدات السكنية الجديدة.
يعتقد اللواء (احتياط) عاموس يادلين، الرئيس السابق “لأمان”(شعبة الاستخبارات العسكرية) والرئيس الحالي لمعهد دراسات الأمن القومي (INSS)، أن النظرية تعمل، لكنها ذات اتجاهين. على سبيل المثال، خلال مفاوضات الائتلاف، وعد بينيت أن تكون حكومته “عشر درجات إلى اليمين”، لكن يادلين يعتقد أن مجال مناورة أي حكومة أصغر بكثير.
القيود الدولية والاعتماد على الولايات المتحدة (في المساعدات العسكرية وحق النقض الفيتو في مجلس الأمن) والواقع المعقد على الأرض، تملي حدود المنطقة.
وفقا ليادلين، هناك الكثير من القضايا السياسة والأمنية ليست مسألة يمين ويسار لا يوجد حقًا نهج يميني أو يساري للتعاطي مع إيران أو حزب الله أو حماس ولا مع تعزيز العلاقات مع السعودية. “سياسة الأمن القومي لها خطوتان استراتيجيتان هامتان الخروج للحرب (باستخدام القوة) ودفع الاتفاقات السياسية قدما” يشرح. “سيجد طرفا الخريطة السياسية نفس القيود عند وصولهم إلى مكتب رئيس الوزراء. عندما يتعلق الأمر ببدء الحرب، هناك دائمًا ضغط دولي ثقيل، وحتى داخل إسرائيل هناك جهد هائل لتقليص قدر الإمكان ثمن الضحايا. الجمهور الإسرائيلي حساس تجاه حياة الإنسان، خاصة عندما يرى الثمن الباهظ في المساء في نشرات الاخبار”، حسب قوله، هذا صحيح أيضا في المجال السياسي. “لو كان زعيم من اليسار هو رئيس الوزراء، لوجد أن اتفاقية سلام، بشروط يمكن لإسرائيل أن توافق عليها، ليست في متناول اليد في الوقت الحالي. من ناحية أخرى، إذا كان لدى الزعيم اليميني فرصة حقيقية لتوقيع اتفاق، فإنه سيفعل ذلك”.
يقول يادلين إن القادة في إسرائيل يتصرفون في النهاية وفقًا للفرص والمخاطر الخارجة من الميدان، والأيديولوجيا تلعب فقط دورًا ثانويًا. يعطي كمثال تسليح سوريا بالأسلحة النووية، التي لم يكن اليمين واليسار مستعدين للموافقة عليها، والتحركات الأخيرة مع دول الخليج.
“حتى نتنياهو الذي آمن بالضم وعمل أمام رئيس “أميركي متعاطف، أدرك في النهاية أنه مستحيل واختار طريقاً مختلفاً”، هو يذكر. نحن نعمل في عالم عالمي، وكل من يجلس على الكرسي يفهم ذلك جيدًا”.
ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن مساحة مناورة رئيس الوزراء في المجال السياسي والأمني أوسع بكثير من تلك الممنوحة له في المجالات الأخرى، مما يسهل عليه إزالة العباءة الأيديولوجية. إن العمل بمسائل السلام والحرب يعتبر دائماً من اختصاص رئيس الوزراء. معظم القرارات السياسية والعسكرية لا تتطلب ثقة الكنيست (باستثناء توقيع اتفاقية سلام)، وبالتالي في القضايا الحساسة هذه، اضطر الجمهور إلى الوثوق برئيس الوزراء الذي تنكشف له الصورة ككل.
أي نوع من القادة هو بينيت؟ لقد بنى نفسه كإيديولوجي يميني ولا يزال يعتبر المحرك وراء خطط الضم منذ تأسيس حركة “يسرائيل شلي” الإسرائيلية، من خلال مجلس يشاع وحتى السباق المشترك مع سموتريتش. ومن ناحية أخرى، القرار نفسه لقيادة حكومة تجلس فيها أحزاب اليسار وراعم (القائمة العربية الموحدة) يدل على طموح هائل وعلى قدرة مناورة رائعة. فقط للتوضيح: أثناء المعركة الانتخابية، التي في نهايتها شكّل بينيت حكومة مع منصور عباس، ودعم ممثل اليمين في تنحية راعم، بدعوى أنها تدعم الكفاح المسلح ضد إسرائيل وتنفي وجودها كدولة يهودية وديمقراطية. تحدث بينيت مع ميراف ميخائيلي لأول مرة عندما كانوا على وشك تشكيل الحكومة، سأل نيتسان هورفيتس في اجتماعهم الأول ما إذا كانت ميرتس حزب صهيوني بشكل عام. اليوم، يفتخر بينيت بالتنوع الأيديولوجي لحكومته ويقدمها على أنها واحدة من بشرياتها العظيمة. ومع ذلك جلس شامير أيضًا في حكومة وحدة وظل مخلصًا لتصوره من داخلها.
الباب الثاني خطوط الصدع في السياسة الإسرائيلية
المقدمة
لقد خلقت العمليات الديموغرافية التي تعيد تشكيل وجه المجتمع الإسرائيلي في الواقع “نظامًا إسرائيليًّا جديدًا”، نظامًا لم تعد فيه أغلبية واضحة ولا أقليات واضحة. نظام يتألف فيه المجتمع الإسرائيلي من أربعة قطاعات، وإن شئت فقل أربع “قبائل” رئيسية، تختلف اختلافًا جوهريًا عن بعضها البعض، وهم آخذون في الاقتراب من بعضهم من حيث الحجم.
(من خطاب الرئيس الأسبق رؤوفين ريفلين في مؤتمر هرتسليا، يونيو 2015)
بعد سنوات كانتا فيها ممثلتين ثانويتين في المسرح السياسي الإسرائيلي وصلت السياسة الحريدية المتزمتة والسياسة العربية إلى وسط المسرح. ولأن الكتل ثنائية التفرع التي نشأت حول السؤال “نعم بيبي/ لا بيبي” تكاد تكون متساويتين في الحجم، فإن كل واحدة أصبحت معتمدة بشكل كامل على الأحزاب التابعة لها من جانبها. في معسكر نتنياهو، الحريديم هم الشريك الأكبر. في معسكر ” فقط ليس بيبي”، راعم (القائمة العربية الموحدة) هي الإصبع الـ 61.
دخلت راعم (القائمة العربية الموحدة) لعبة الائتلاف فقط بعد انتخابات 2021، ولكن من الواضح أنها تبنت بسرعة نموذج التأثير الحريدي.
الكثير من التأثير وقليل من المسؤولية. بالفعل عندما انضم الحريديم إلى حكومة بيغن عام 1977، بعد 25 عامًا من الغياب عن الحكومة، طالبوا بأن تكون رئاسة اللجنة المالية لعضو الكنيست شلومو لورينتس ورئاسة لجنة العمل والرفاه الاجتماعية لعضو الكنيست مناحيم بروش. منذ ذلك الحين، حرص الحريديم على المطالبة برئاسة اللجنة المالية، لكنهم أبعدوا أقدامهم عن الحكومة واكتفوا بمناصب نائب وزير. في عام 2015، تقدم حزب “يش عتيد” بالتماس إلى المحكمة العليا ضد العادة المتبعة بتعيين نائب وزير بدون وزير، بينما يكون رئيس الوزراء هو القائم بأعمال الوزير. وادعى الملتمسون أن الحديث يدور حول حالة تضارب في المصالح، حيث من الممكن أن تتعارض مصالح رئيس الوزراء مع مصالح الوزارة التي يرأسها هو، على سبيل المثال أثناء التقليصات الأفقية.[24] وحكم القضاة لصالح يش عتيد، وليتسمان الذي شغل حتى ذلك الحين منصب نائب وزير الصحة كوزير أجبر على تعيينه وزيرًا بموافقة مجلس حكماء التوراة. ومن المثير للاهتمام أن نرى أن القائمة العربية الموحدة “راعم” تخلت أيضًا عن عضويتها في الحكومة ولم تشغل منصب نائب الوزير الذي وُعدت به، لكنها فضلت رئاسة لجنة الداخلية المكان الذي يتم فيه تصميم جميع التشريعات المتعلقة بالحكم المحلي.
كما أن هناك تشابهًا في الطريقة التي يعرف بها حزب “راعم” والأحزاب الحريدية كيفية تركيز جهودهم حول الحصول على ميزانية أو قوانين مهمة لجمهورهم. يميل الحريديم إلى التركيز على قضية أو قضيتين، مثل التجنيد الإجباري أو السبت، ومعاملتهم على أنهم “سيقتل ولن يمر”. والقائمة العربية الموحدة “راعم” تقريبًا لا تتدخل في الأمور العامة، لكنها أوضحت أنه بدون الدفع قُدُمًا باتجاه قانون الكهرباء أو الاهتمام بالبدو في النقب لن تكون قادرة على الاستمرار في الحكومة. هناك أيضا حالات تكون فيها مواقف الأحزاب متشابهة تعمل الأحزاب الحريدية، مثل الحزب الإسلامي، على جعل إسرائيل دولة محافظة أكثر وتعارض هذه الأحزاب التشريعات الليبرالية. في السنوات الأخيرة، تحت الرادار، نشأ تحالف بين العرب والحريديم وكان قوة مضاعفة لكليهما. توصل أعضاء الكنيست إلى تفاهم يقضي بأن لا يسمح أي من الطرفين بإلحاق الأذى بالطرف الآخر لأسباب دينية. على سبيل المثال، أحبط الحريديم الترويج لقانون المؤذن، الذي حد من إسماع الآذان في الليل وفي الصباح، بينما “نسي” العرب الحضور للتصويت على قانون التجنيد في الكنيست السابق. وانتهى التحالف السياسي بدخول القائمة العربية للائتلاف، لكن البنية التحتية للتعاون البرلماني على أسس دينية في الكنيست تم التلاعب بها.
إن موقف العرب والحريديم في السياسة يتغير ليس فقط بسبب الكوكبة السياسية الفريدة التي نشأت هنا، ولكن أيضًا بسبب التركيبة السكانية. في عام 2065 من المتوقع أن يشكل الحريديم ثلث عموم السكان و40 في المائة من السكان اليهود. سيكون كل ثاني طفل يهودي تقريبًا من الحريديم. سيزداد العرب أيضًا بشكل كبير، على الرغم من أنه من المتوقع أن تظل نسبتهم النسبية في السكان مستقرة بسبب ارتفاع معدل المواليد في المجتمع الحريدي.[25]
ومع ذلك، على الرغم من القوة المتنامية لهذه القطاعات، لا يعرف عامة الناس الكثير عن السياسة الحريدية والسياسة العربية. من الخارج، يُنظر إلى كل منهما على أنه قطعة واحدة، ولكن عمليا بداخلها هناك عشرات من ألوان الأيديولوجيا.
في الفصول التالية سنحاول التعرف عن قرب على السياسة العربية والفروق بين الأحزاب التي تتكون منها. سنقوم أيضًا بتحليل الانفجار السياسي الذي أدى إلى انضمام “قائمة راعم “للائتلاف، وسنسأل عما إذا كان قد تم كسر المحرمات الخاصة بإدراج العرب في الائتلاف إلى الأبد، أم أنها مجرد هامش في السياسة الإسرائيلية. سوف نتعمق أيضًا في السياسة الحريدية وسندرس التغييرات التي تمر بها وما هي نسب القوى بداخلها، وسنناقش مسألة لماذا يعتبر قانون التجنيد أكبر خدعة في السياسة الإسرائيلية.
الفصل السابع كلٌّ ضامنٌ الآخر كيف وصلنا إلى هنا؟
لسنوات، كان السياسيون، لا سيما اليمين، ينظرون إلى أعضاء الكنيست العرب على أنهم فرصة ليس لتحسين حياة المواطنين العرب، ولكن لكسب الأصوات في الانتخابات التمهيدية والانتخابات العامة. اعتُبرت المعارك الكبيرة مع أعضاء القائمة المشتركة على مسرح الكنيست طريقة أكيدة لكسب الإعجابات. اعتبرت الأحزاب العربية غير مناسبة من وجهة نظر الائتلاف، وكان أعضاء الكنيست اليهود بحاجة إلى زملائهم العرب خاصة عندما أرادوا العودة إلى البيت مبكرًا وكانوا يبحثون عن شخص لتحقيق التوازن معه. الأرصفة في الطيبة، تم بناؤها بفضل الوزراء الذين أرادوا العودة إلى منازلهم مبكرا.
لم يحدث ذلك عبثًا. هناك منطق سياسي واضح وراء نزع الشرعية عن الممثلين العامين لعرب إسرائيل. القصة باختصار: في عام 2005، عاد المستشار الاستراتيجي يسرائيل باكر من الدراسات العليا في جامعة فوردهام في نيويورك.
بعد عام، بدأ العمل مع رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو. في عام 2007، بعد ثماني سنوات من مغادرة نتنياهو لمنصب رئيس الوزراء، اقترح عليه باكر أن يغير نهجه وادعى أنه في الانتخابات الإسرائيلية ليس المهم هو من يحصل على مقاعد أكثر في الانتخابات، ولكن من يأتي للرئيس مع كتلة. اليوم كلنا نعرف بالفعل كيف نقرأ في نومنا نظرية استراتيجية الكتل، أو باسمها المهني structure، لكنها كانت في حينه ثورة حتى نتنياهو لم يفهم مدلولها على الفور. حتى ذلك الحين، كانت المفدال وشاس ويهدوت هتوراة حلفاء طبيعيين لليسار عندما كان في السلطة. ونصح باكر نتنياهو بإقامة تحالف تاريخي بين اليمين والحريديم. وهو نظر إلى الأرقام وأدرك إذا اتحد الحريديم مع اليمين وخرج العرب من اللعبة، فلن يصل اليسار إلى السلطة أبدًا. الطالب نتنياهو استمع واستوعب وطبق بورع. هكذا ولدت نظرية الكُتل.
الضحية الأولى كانت تسيبي ليفني، التي تلقت بعد استقالة أولمرت في نهاية عام 2008 من الرئيس بيرس تفويضًا لمحاولة تشكيل حكومة أخرى. نجحت ليفني في التوصل إلى اتفاق مع حزب العمل، لكن المفاوضات بينها وبين المتطرفين انفجرت. في الوقت الحقيقي، بدا أن ائتلافها سقط بسبب المليار شيقل التي طالبت بها أحزاب الحريديم ولم يحصلوا عليها.
راعم، من أجل المقارنة تفاخرت بحصولها على 52 مليار شيكل للمجتمع العربي في السنوات المقبلة، وعذبت ليفني نفسها لسنوات لعدم إدارتها بشكل جيد بما فيه الكفاية المفاوضات وتركت فرصة رئاسة الوزراء تفلت من بين أصابعها. حتى بعد الانتخابات التي جرت بعد ثلاثة أشهر، فشلت في تشكيل حكومة، على الرغم من أنها حصلت على مقعد واحد أكثر من نتنياهو 28 مقعدًا لكاديما مقابل 27 لليكود وشكل نتنياهو حكومة مع الحريديم. بعد سنوات فقط اكتشفت ليفني أن كل شيء “مكتوب” شكّل الحريديم ونتنياهو تحالفًا غير قابل للكسر من وراء ظهرها، وهو قائم حتى يومنا هذا.
إن نظرية الكُتل، حتى لو لم تكن قد ولدت لهذا الغرض، هي أساس عملية نزع الشرعية عن القيادة العربية في السنوات الأخيرة. كانت المصلحة السياسية الاستراتيجية لليمين هي تحويل أعضاء الكنيست العرب إلى عدو مرير ومفتري وغير مؤهلين حتى في اليسار. بعد كل شيء، لو كان لليسار 10 أو 15 مقعدًا عربيًّا، لنجح في تشكيل حكومة بسهولة أكبر.
لسنوات، قاد نتنياهو حملة نزع الشرعية ضد قادة المجتمع العربي، والتي تضمنت هجمات لفظية شديدة أبرزها كانت في انتخابات عام 2015، عندما حذر من ذهاب العرب إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة (هكذا في المصدر). روجت حكومة نتنياهو أيضًا لسلسلة من القوانين التي أثارت الغضب والإهانة في المجتمع العربي، بما في ذلك قانون القومية، الذي ينص، من بين أمور أخرى، على أن اللغة العربية لن تكون لغة رسمية في إسرائيل بعد الآن ولكن سيكون لها مكانة خاصة، وقانون العزل، الذي يسمح بعزل عضو الكنيست بأغلبية 90 نائباً إذا أنكر حق دولة إسرائيل في الوجود، كدولة يهودية وديمقراطية، أو حرض على العنصرية أو دعم منظمة إرهابية. وتجدر الإشارة إلى أن نتنياهو عمل في الوقت نفسه على الحد من التمييز الاقتصادي ضد المجتمع العربي، عندما وافق على الخطة الخمسية للمجتمع العربي التي خصصت له المليارات ونظمت المجالات التي أهملت فيها سنوات، مثل التعليم غير النظامي والمواصلات العامة. باستثناء رابين الذي اعتمدت حكومته على أعضاء الكنيست العرب، كان نتنياهو رئيس الوزراء والذي في ولايته السابقة دُفع قُدُمًا البرنامج الأكثر شمولاً لتقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين المجتمع اليهودي والمجتمع العربي. المستخدم رون جيرليتس، مدير عام مركز أكورد الذي يستخدم علم النفس الاجتماعي لتعزيز التغيير الاجتماعي، وهو أحد المروجين للخطة الخمسية يشرح ويقول أن ثنائية نتنياهو لها هدفان: الأول، قدر نتنياهو أنه إذا عزز المجتمع العربي من الناحية الاقتصادية سينجح في إضعافه سياسياً وكمثال سياسة السلام الاقتصادي. يدعي البعض أن نتنياهو فهم أيضًا الحاجة لموازنة تصريحاته الصاخبة لمنع الاضطرابات. الهدف الثاني كان وطنيًا أقنع موظفو وزارة المالية نتنياهو أنه بدون تعزيز الاقتصاد العربي، فإن الاقتصاد الإسرائيلي سيتراجع كله إلى الوراء.
في كلتا الحالتين، نجاح نتنياهو في طرد قادة المجتمع العربي خارج السياج كان فوق ما كان متوقعا. خلال فترة ولايته تعامل أيضا معسكر الوسط اليسار مع الأحزاب العربية كمصابين بالجذام السياسي وكانوا مترددين في التعاون معهم. وقد ساهم في العملية بعض أعضاء الكنيست العرب، وفي كل مرة من جديد كانوا يركلون الدلو بعبارات متطرفة، مما أجبر مركز الخريطة على التخلي عنهم. في عام 2013 دخل رئيس حزب يش عتيد، يائير لبيد، حكومة نتنياهو بعد أن أعلن بفخر أن تحاف الإخوان لن يشكل كتلة حجب مع “الزعبي وأمثالها”. خلال الجولات الانتخابية لعام 20192021 تم بالفعل توثيق تعاون أحزاب الوسط مع القائمة المشتركة لكن تشكيل حكومة مع راعم أصبح ممكنا فقط بعد أن خطط نتنياهو للقيام بذلك بنفسه وتمهيد الطريق لهذه الخطوة.
في الجولة الثانية من الانتخابات، في سبتمبر 2019، بعد سنوات من العداء بين نتنياهو وأعضاء الكنيست العرب، كان هناك تطور مثير في المؤامرة. الوضع القانوني لنتنياهو جعله نشيطًا في الوسط اليسار، وفي وقت لاحق أيضًا في جزء من اليمين. كان نتنياهو يبحث عن حلفاء جدد، وكان الأعضاء الوحيدون المتاحون للقيادة هم أعضاء الحزب الإسلامي. أذهل مساعده ناتان إيشل في ذلك الوقت النظام السياسي، عندما دعا في مقالات في “هآرتس” و”ماكور ريشون” إلى جعل عرب إسرائيل جزءًا من القيادة.[26] “من الواضح لي أنني سأفقد الدعم وسوف أثير ضدي الكثير من الأصدقاء الطيبين، كتب في “هآرتس” “لكن يجب أن نربط مصيرنا بعرب إسرائيل… يجب أن تُبنى حياة مشتركة لليهود والعرب حول ثلاثة قضايا: التعليم والاقتصاد والأمن الداخلي، وأن نضع جانبا القضايا التي ليس لها حل في المستقبل المنظور”. أثارت كلماته انتقادات حادة من اليمين، كما أن نتنياهو نفسه
تبرأ منها ونفى أي صلة بها. انفجر بالون التجربة الإعلامية. الأشياء التي كتبها إيشل لم تأتِ من فراغ بالفعل بعد الانتخابات الأولى في أبريل 2019، عضو الكنيست ميكي زوهار من حزب الليكود فحص إمكانية تشكيل حكومة أقلية عن طريق تجنب “قائمة راعم”. لم تنضج الاتصالات لأن نتنياهو كان يعتقد أنه يمكن أن يقوي نفسه في جولة أخرى من الانتخابات، لكن بذور الثقة بين نتنياهو وعباس قد زُرعت.
نتج التغيير في الموقف تجاه المجتمع العربي أيضًا عن المصلحة السياسية الضيقة الهجمات المتواصلة على الوسط العربي عادت إلى الليكود مثل “بوميرانج” في الجولة الثانية من الانتخابات. استخدم أعضاء القائمة المشتركة الجدل الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة حول قانون الكاميرات، الذي قاده الليكود، والتلميحات بالتزوير الجماعي بين العرب،
استُغلت من قِبل أعضاء القائمة المشتركة لإثارة الأرض، التي كانت على أي حال متحمسة لإعادة تجميع القائمة. حطمت المقاعد الـ 13 التي حصلت عليها آمال نتنياهو ومنعته من تشكيل حكومة. كانت القائمة المشتركة ثالث أكبر حزب في الكنيست.
في الجولة الثالثة، أدرك الليكود بالفعل أنه يتعين عليهم تغيير القرص المرن. حاولوا إضعاف القائمة المشتركة والتوجه مباشرة إلى المجتمع العربي. تم تجنيد آفي ديختر الناطق بالعربية في الحملة وتفاخر بالخطة الخمسية للمجتمع العربي التي أقرتها الحكومة (قرار الحكومة 292). لم تنجح المحاولات، وبلغت القائمة المشتركة ذروة قوتها 15 مقعدًا. وأوصى أعضاء القائمة غانتس مقابل وعد بتقديم سلسلة من القضايا التي تهم المجتمع العربي، لكن قسمًا كبيرًا منها ظل على الورق بعد تشكيل حكومة نتنياهو غانتس. في الواقع، كانت خيبة الأمل من “أزرق أبيض” هي الخلفية لتوطيد العلاقة بين عباس وخصمه ليفين من الليكود، الذي منح زعيم حزب “راعم ” آذانًا صاغية لمصاعب المجتمع العربي.
في 19 أكتوبر، 2020، بعد شهور من الدفء في العلاقات خلف الكواليس، كان من الممكن رؤية التقارب أمام العيون عباس ألقى خطابًا مؤثرًا في الجلسة الكاملة حول العنف في المجتمع العربي، ونتنياهو، الذي عادة ما يكون منغمسًا في قراءة كتاب خلال مثل هذا النقاشات، نظر إليه مباشرة واستمع باهتمام، وفي نهاية الخطاب اتصل بعباس أمام الكاميرات ليأتي إليه وطلب الحصول على ملخص النقاط. كان من الواضح أن الخطة التي وضعها إيشيل في حملة الانتخابات الأولى، في الجولة الأولى، دخلت حيز التنفيذ للجولة الرابعة. واستمر توتر العلاقات إلى درجة أن الليكود وافق على تشكيل لجنة خاصة لعباس للقضاء على الجريمة في المجتمع العربي، حتى أن نتنياهو كرّمها بحضوره (بالزووم طبعا بروح فيروس كورونا).
في الجولة الرابعة، تم إتلاف البطاقات مرة أخرى. وانقسمت القائمة المشتركة بسبب الاختلافات في النهج بين “حداش وراعم” أراد عباس اللعب على جانبي الملعب وسعى لتشكيل حكومة مع نتنياهو، بينما لم يكن أيمن عودة مستعدًا لسماع ذلك. في الوقت نفسه، نجح حزب الليكود بقيادة “أبو يائير” مرة أخرى في استمالة الناخبين العرب في محاولة لترك أحد الأحزاب دون نسبة الحسم، لكنه فشل في الحصول على أكثر من نصف مقعد منهم. بعد الانتخابات أصبحت الاتصالات بين نتنياهو وعباس مباشرة. في مايو 2021 كشفتُ أن الاثنين التقيا وجهاً لوجه في بلفور. كان هذا هو الأول من بين عدة اجتماعات، تم إجراؤها كمفاوضات ائتلافية لجميع النوايا والمقاصد. كان هدف نتنياهو إقناع عباس بإنشاء كتلة الحجب مع الليكود تمنع تشكيل حكومة التغيير “شينوي”. لأول مرة، الليكود هو من يحاول الاتكاء على العرب في طريق تشكيل الحكومة. خرج نتنياهو عن طريقه للحديث عن قلب عباس وإقناعه بأن حكومة يمينية بالذات ستكون قادرة على منحه إنجازات يصعب على حكومة يسار وسط الترويج لها من وجهة نظر عامة.
بالمناسبة، في الجدل التاريخي حول مسألة ما إذا كان الليكود خطط لتشكيل حكومة مع راعم كلا الجانبين على حق راعم على حق في أن الليكود عرض عليهما تشكيل حكومة يكون فيها الحزب عضوًا في الائتلاف لجميع النوايا والأغراض، بينما في الليكود هم محقون في أنهم كانوا يعتزمون الاستعانة بـ “راعم “. لإزالة خيار حكومة التغيير من جدول الأعمال، وبعد ذلك كانوا يأملون في أن ينضم إليهم عدد من أعضاء الكنيست من اليمين وتشكيل حكومة تكون فيها راعم عضوًا بالفعل، لكنها لن تكون الإصبع الواحد والستين، لأن سموتريتش عارض بشدة حكومة تعتمد على عباس، لكنه لم يستبعد تعاون الائتلاف معه.
وعندما بدت حكومة التغيير “شينوي” بالفعل على أنها أمر واقع، حاول نتنياهو التخلص من الاتصالات مع راعم، لكن القطار قد غادر المحطة. انكشفت للجمهور في الوقت الحقيقي التحركات التي تهدف إلى تمهيد الطريق لذلك وللضغط الذي مارسه شركاء نتنياهو على سموتريتش لسحب معارضته للحكومة التي سيتم تشكيلها بأصوات راعم. عندما التقى بينيت لأول مرة مع رئيس حزب رعام في الكنيست، كان من الواضح بالفعل أنه لم يكن الخاطب الوحيد، ولا بالضرورة الأكثر نشاطا. كانت الاتصالات غير الناضجة بين عباس ونتنياهو بمثابة طبق الفضة الذي أقيمت عليه حكومة التغيير.
هل انطلقت رعام؟ من السابق لأوانه معرفة ذلك، لكن الأمر يستحق النظر في مُعطى واحد منذ عام 1996، تُجرى انتخابات الكنيست في إسرائيل كل 2.3 سنة في المتوسط. تقف إسرائيل على رأس الجدول المشكوك فيه لتكرار الانتخابات في الدول الديمقراطية.[27] الائتلافات الإسرائيلية هشة ولن يتعجل أي زعيم حزبي للتخلي عن الشركاء المحتملين الذين يمكنهم مساعدته في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، خاصة إذا كانت مطالبهم للمناصب متواضعة للغاية.
عند الحديث عن السياسة العربية، فإن الشيء الرئيسي الذي يجب الانتباه إليه هو نسبة التصويت. يعبر هذا المعطى عن تصور المجتمع العربي لقدرته على التأثير في أية لحظة، وقدرته على تشكيل الخريطة السياسية بأكملها. وفقًا للبيانات الديموغرافية، لو خرج الجمهور العربي للتصويت بأعداد كبيرة، لكان قد حصل على ما يقرب من 20 مقعدًا. كان العرب ملوك الملوك في كل حملة الانتخابات، وليس فقط عندما فقدت مصداقية مرشح اليمين بسبب التحقيقات. في الواقع، ليس هذا هو الوضع. في انتخابات عام 2021، 44.6 في المائة فقط من المواطنين العرب كلفوا أنفسهم عناء الخروج من المنزل للتصويت، مقارنة بـ 67.4 في المائة من عامة الجمهور.[28] ما يقرب من عشرة مقاعد من أصوات العرب بقيت على الأرض!.
لفهم كيف وصلنا إلى هذا الحد، نحتاج إلى العودة إلى نقطة البداية. يمكن للمواطنين العرب في إسرائيل أن يصوتوا وينتخبوا للكنيست منذ اللحظة الأولى، لكن العلاقة بينهم وبين النظام السياسي شهدت تقلبات. بعد قيام الدولة، تُرك المواطنون العرب بلا قيادة منظمة، وتفككت مراكز الأحزاب التي كانت تعمل في المستوطنات حتى ذلك الحين. أدركت “مباي” هذه الفرصة، وأنشأت قوائم تابعة من طرفها لمدة ثلاثة عقود، والتي تم إنشاؤها وفقًا للطوائف المختلفة وحصلت على غالبية الدعم في الشارع العربي.
وحققت الأحزاب التابعة لـ مباي نجاحًا مذهلًا من حيث الإقبال الانتخابي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، خرج أكثر من 85 في المائة من العرب، في المتوسط، للتصويت وهي نسبة مشاركة أعلى من الجمهور اليهودي في ذلك الوقت! في تلك الأيام، كانت عضوية الأحزاب العربية في الائتلاف شائعة. كانت الأحزاب العربية التابعة لـ “مباي” جزءًا من الائتلافات التي أنشأها، لكنها لم تشارك في الحكومة، وقد صنعت القائمة العربية الموحدة التاريخ بكونها أول حزب عربي مستقل يدخل الائتلاف رسمياً، بينما دعمت الأحزاب العربية رابين من الخارج.
شهد عام 1976 بداية عهد اللامبالاة في المجتمع العربي فيما يتعلق بالمشاركة في الانتخابات. قررت حكومة رابين الأولى مصادرة أراضي المواطنين العرب في الجليل، مما أدى إلى أحداث يوم الأرض في 30 مارس تم إدخال قوات الشرطة إلى المدن العربية في محاولة لقمع المظاهرات وقُتل ستة متظاهرين بالرصاص. ومنذ ذلك الحين يُحيي المجتمع العربي يوم الأرض في هذا التاريخ.
في الانتخابات التالية، انتخابات “الانقلاب” في العام 1977، ضعفت الأحزاب التابعة لمباي بشكل كبير. وفاز حزب “حداش” المستقل بخمسة مقاعد، وأصبح القوة المهيمنة في الشارع العربي. علاوة على ذلك، انخفض معدل التصويت بين العرب ولأول مرة كان أقل مما هو عليه في المجتمع اليهودي. في الانتخابات التالية عام 1981، اختفت الأحزاب التابعة تمامًا. استمر انعدام الثقة بين الجمهور العربي وقيادة الدولة في التعمق في السنوات التالية بعد سلسلة من الأحداث التي اشتعلت في الوعي العربي، بما في ذلك تعليمات رابين، هذه المرة كوزير للدفاع، بـ “كسر أذرع وأرجل” المتظاهرين في الانتفاضة. بعد هذه التصريحات، انسحب عضو الكنيست عبد الوهاب دراوشة من “المعراخ” وأسس حزب “مداع” (الحزب الديمقراطي العربي) وهو حزب عربي مستقل اتحد لاحقًا مع أحزاب أخرى.
شهدت بداية التسعينيات ازدهارًا في العلاقات بين الأحزاب العربية ونظام الحكم. وجد رابين نفسه بعد انتخابات 1992 بدون حكومة حصلت كتلة اليمين والحريديم معًا على 59 مقعدًا، وحصلت كتلة اليسار على 56 مقعدًا. استطاع رابين تشكيل حكومة بعد تشكيل كتلة حجب مع المقاعد الخمسة للأحزاب العربية، وأضاف إليها شاس. وتعهد رابين باتخاذ عشرات الخطوات لمعالجة المشاكل الأساسية للمجتمع العربي، ولكن عمليا سُجل تقدم في بعضها فقط: تم تقليص الفجوات في التعليم، وازدادت ميزانية السلطات المحلية العربية، وبدأت الحكومة في تبني سياسة التفضيل الإيجابي في تعيين العرب في الخدمة العامة. وخلافًا للاتفاق مع راعم، تضمنت التفاهمات التي بلورها رابين مع الأحزاب العربية التزامًا واضحًا بالتقدم في القناة السياسية. بفضل مداع، الحزب الذي نشأ احتجاجًا على سلوكه في الانتفاضة الأولى، وبفضل حداش تمكن رابين من البقاء بعد انسحاب شاس من الحكومة.
وفي عهد رابين، شعر الجمهور العربي بأن السلطة عادت إلى يديه. التفاؤل في ما يتعلق بقدرته على التأثير انعكست في انتخابات عام 1996، والتي كانت أيضًا الانتخابات المباشرة الأولى لرئاسة الوزراء، وبلغت نسبة المشاركة بين العرب 77 في المائة مقابل 79.3 في المائة في عامة الناس. وخاض حزب “بلد” لأول مرة هذه الانتخابات (في قائمة مشتركة مع “حداش”)، وقد وصلت الأحزاب العربية بالفعل إلى تسعة مقاعد معًا.
وعلى الرغم من اتفاقيات أوسلو وصدمة مقتل رابين في المجتمع العربي، كان على بيريس أن يقاتل من أجل الصوت العربي، بعد أن أمر بعملية عناقيد الغضب في 11 أبريل 1996 لتطهير أوكار الإرهابيين في لبنان. تعقدت العملية عندما قصف الجيش الإسرائيلي بناية في قرية قانا كان يختبئ فيها مدنيون لبنانيون، وقتل حوالي 100 منهم، وأثارت صور القتلى غضبا في الشارع العربي، ودعا بعض المنتخَبين العرب إلى الامتناع عن التصويت لبيريس. وفي نهاية الأمر فاز بيريس بأغلبية ساحقة من أصوات العرب المؤهلة 94.8٪، أي أكثر من ضعفي نسبة التأييد له بين اليهود! ومع ذلك، أدلى 7.2٪ من العرب بأوراق اقتراع فارغة أو باطلة، مقابل 4.8 في المائة بين اليهود. ويقدر أن 24 ألف صوت قد ذهبت هباءً، وهذا ليس بالأمر الهين في انتخابات انتهت بفارق 29 ألف صوت فقط لصالح نتنياهو.[29]
إيهود باراك قد توصل إلى نتائج. قبل انتخابات 1999 توصل حزب العمل إلى تفاهمات هادئة مع قادة المجتمع العربي، بموجبه يدعمون مرشح حزب العمل لمنصب رئيس الوزراء لكنهم يصوتون للأحزاب العربية. 75٪ من عرب إسرائيل خرجوا للتصويت، و95٪ منهم أعطوا صوتهم لباراك. وهزم نتنياهو بفارق أكثر من 12 في المائة. رفع التصويت العربي باراك من تأييد 51 بالمائة إلى 57 بالمائة![30] ومع ذلك، بعد يوم واحد من الانتخابات، نسي باراك موقع العرب وفضل عليهم الأحزاب الحريدية وحزب المفدال. إنه حتى لم يقم بإجراء مفاوضات مع الأحزاب العربية، على الرغم من الطلب الصريح من راعم بالانضمام إلى الائتلاف، في الواقع، اعتبر باراك الأحزاب العربية أمرًا مفروغا منه وقدّر أنه حتى لو لم يتلقوا أي شيء منه، فإنهم سيستمرون في دعمه بسبب كراهيتهم الشديدة لنتنياهو. كان الخلاف مع المجتمع العربي هائلاً، ففي أحداث أكتوبر 2000، وموجة التظاهرات العنيفة التي اندلعت في الشارع العربي في بداية الانتفاضة الثانية، قُتل 14 شخصًا 12 من عرب إسرائيل، وفلسطيني، ويهودي، وانهارت الثقة الضئيلة التي بقيت في النظام. دعا قادة الجمهور العربي إلى مقاطعة الانتخابات وتلقوا استجابة هائلة في الانتخابات التالية، خرج 18 في المائة فقط من العرب للتصويت وخسر باراك أمام شارون بهامش كبير.[31] الانتقام تم بهدوء. يرى البعض في هذه الانتخابات بداية مشاركة مدنية كبيرة لعرب إسرائيل. بمقاطعة باراك، حتى على حساب صعود شارون اليميني إلى السلطة، وأشار الناخبون العرب إلى أن أهم شيء بالنسبة لهم هو أن تأخذهم الدولة بعين الاعتبار، حتى إذا كان لذلك ثمن في الساحة الفلسطينية.
وفي الحقيقة، على مر السنين، تطور نمط مثير للاهتمام حول تصويت المواطنين العرب. معظمهم تحولوا من التصويت للأحزاب الصهيونية (من خلال أحزاب تابعة أو بشكل مباشر) إلى التصويت للأحزاب العربية، رغم أنها لم تشارك في لعبة الائتلاف وفشلت في إحداث تأثير. في أوائل الثمانينيات، كانت نسبة التصويت العربي للأحزاب الصهيونية بما في ذلك حزب العمل، الذي كان يضم مرشحين عربًا في قائمته حوالي 50 بالمائة، وفي عام 1999 صوت 31.4 بالمائة فقط من العرب للأحزاب اليهودية، وفي عام 2021 الانتخابات كانت نسبتهم 19.9% فقط.[32]
في الوقت نفسه، انخفضت نسبة التصويت في المجتمع العربي لأن المواطنين لم يروا أي جدوى من التصويت لأحزاب ستكون بالتأكيد معارضة. في الواقع، خرج العرب للتصويت بنسبة مرتفعة، لا سيما في الحملات الانتخابية التي شعروا فيها أن لديهم فرصة حقيقية للتأثير. يُظهر ملخص لتاريخ التصويت العربي في إسرائيل أن الإقبال كان مرتفعاً في السنوات التي دخلت فيها الأحزاب التابعة في الائتلاف، وانخفضت خلال حكومتي بيغن والوحدة، وازدادت مرة أخرى في التسعينيات عندما بدأت الانتخابات المباشرة، وانخفضت مرة أخرى أثناء ولاية نتنياهو.
لقد فهم حزب “رعام” الفخ الذي كان المجتمع العربي فيه وقام بخطوة تاريخية في محاولة لكسر المعادلة: لقد أدرك الارتباط في المجتمع اليهودي وأعلن أنه سيوافق على الجلوس مع الطرفين في محاولة لكسرها. أصبح عباس لاعباً مركزياً على كلا الجانبين وخلال أيام ظل يتداول العروض التي تلقاها أثناء محاولته رفع السعر. وعلى الجانب الآخر، سمح لأنصاره بصيد عصفورين بحجر واحد التصويت لحزب عربي وعضوية الائتلاف.
إن انضمام قائمة رعام إلى الائتلاف ليس أقل من حدث تاريخي. كما ذكرنا، كانت هناك بالفعل أحزاب عربية تابعة للائتلاف، واعتمد رابين على أحزاب عربية من الخارج، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها حزب عربي مستقل هو الصوت الواحد والستون في الحكومة ولديه القدرة على منع أي عملية، بما في ذلك القوانين الأمنية. ألزم الموقف راعم بتغيير طرقه ودعم جميع القوانين الأمنية الحكومية، بما في ذلك قانون التجنيد الإجباري، من أجل ضمان بقائه. تجربة راعم رائعة إذا نجحت، فقد تغير اتجاهات التصويت في الجمهور العربي وتقنع عشرات الأصوات التي بقيت في المنزل أن هناك مقابل للرسوم. أما إذا فشلت، فقد يسحق المشاركة المحدودة التي لا تزال قائمة.
برر رئيس الحزب الصهيوني الديني، بتسلئيل سموتريتش، معارضته لتشكيل حكومة من شأنها أن تعتمد على راعم في هذا الأمر بالذات فقد كان يخشى أن يؤدي منح مثل هذه القوة الهائلة لحزب عربي إلى إنهاء عصر اللامبالاة في المجتمع العربي. لقد فهم أن خمسة مقاعد عربية أخرى يمكن أن تغير الخريطة السياسية في إسرائيل من طرف إلى آخر، وقدّر أنها ستلعب لصالح اليسار. لا يعتقد الجميع مثله. كما نعلم، فضل راعم الانضمام إلى اليمين والحريديم وتأسيس تحالف محافظ، لكن سموتريش نفسه منع هذه الخطوة. ولم يتم الزواج بين رعام واليمين، لكن تغازل نتنياهو لعباس سبق أن كتب في سجلات السياسة الإسرائيلية وغيرها إلى الأبد.
الفصل الثامن 50 لونًا من الأيديولوجية السياسة العربية
حاولوا أن تتخيلوا أنه يومًا ما، باسم الحوكمة، ستقرر الحكومة زيادة كبيرة في نسبة الحسم من أجل إنشاء نظام مكون من كتلتين، كما هو الحال في بريطانيا العظمى أو الولايات المتحدة. لن يكون للأحزاب خيار سوى توحيد القوى والسباق معًا. حزب اليمين، على سبيل المثال، سيشمل يهدوت هتوراة، شاس، الليكود، يمينا، وحتى يسرائيل بيتينو وتكفا حدشا. تخيلوا قوة الديسيبل في اجتماع الفصائل الأسبوعي، عندما يُطرح على الطاولة إصلاح الكشروت. حزب اليسار من ناحية أخرى، سيتكون من ييش عتيد، من ناحية، ومن القائمة المشتركة، من ناحية أخرى، أحزاب أي اتصال بينهم يكون مصادفة تمامًا.
هذا ما حدث بالأساس في السياسة العربية عام 2015 بعد قرار رفع نسبة الحسم إلى 3.25 بالمئة. واضطرت الأحزاب العربية إلى التعاون وأنشأوا القائمة المشتركة مخلوق هجين غريب بأربعة رؤوس، منذ ذلك الحين قد مرت بالفعل بالعديد من التحولات. اليوم، بعد ازدهار السياسة العربية، القائمة المشتركة توحد ثلاثة أحزاب لها وجهات نظر مختلفة تمامًا، وأمامها تقف رعام التي تلوح بعلم الاندماج.
لذلك تتكون السياسة العربية من أربعة أحزاب رئيسية: راعم، وحزب الحركة الإسلامية الذي تعرفنا بالفعل عليه وفي الانتخابات الأخيرة في عام 2021 تنافس بمفرده، فهو حزب ديني في كل شيء “شاس” المجتمع العربي. مقابله القائمة المشتركة. تتكون من ثلاثة أحزاب: “حداش” الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، الحزب العربي اليهودي الشيوعي الذي يلوح براية الاشتراكية، وبلد العلماني القومي. و”تاعل” لأحمد الطيبي وأسامة السعدي وعلمها المركزي هو فخر وطني ومدني وأكثر توجهاً نحو الوسط العربي. إذا قابلنا هذه الأحزاب مع الأحزاب اليهودية، تمتد القائمة المشتركة من حزب “يسرائيل بيتينو” العلماني والوطني حتى “ميرتس” الاشتراكية الديموقراطية.
في ظاهر الأمر، القاسم المشترك لجميع الأحزاب العربية هو محاولة لتعزيز المساواة ومحاربة التمييز والعنصرية. فيما يتعلق بالصراع أيضًا، يجب البحث عن الفروق الرسمية بينهما بعدسة مكبرة بطريقة معلن عنها، يؤيدون جميعًا إنهاء الاحتلال في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان، وإخلاء المستوطنات وإقامة دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. كما يؤمنون جميعاً بحل مشكلة اللاجئين وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. لكن كما ذكرنا، هذا فقط على الورق.
من الناحية العملية، يعمل كل منها في اتجاهات مختلفة ووفقًا لسلم أولويات مختلف تمامًا.
حزب “حداش” يؤمن برؤية حل الدولتين. يعترف بإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية لكنه يريد دولة فلسطينية. من ناحية أخرى، يدعم حزب “بلد” دولة لكل مواطنيها، وتكون ديمقراطية، لكن ليست يهودية على الإطلاق، أي بالضغط على زر ديليت لكل ما يتعلق بالدولة اليهودية. حزب “تاعل” يؤيد قيام دولة فلسطينية داخل الحدود 1967 ويؤكد على الحاجة إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين، وهو المطلب الذي يعارضونه بشدة في إسرائيل.
تبنى حزب “راعم” مسار عمل مختلف التجاهل التام للصراع. إنه حزب ديني وعندما ينام في الليل يحلم بخلافة إسلامية أكثر من دولة فلسطينية. من الواضح أنه يدعم بأن يحظى الفلسطينيون بدولة، لكنه لا يعمل بنشاط في هذا الاتجاه. وجهة نظره تقول إذا قامت الخلافة في القلوب في التعليم والدين والثقافة سيأتي يوم وستقوم في الواقع. ليس هذا من دور أعضاء حزب “راعم” أن يقيموها صباح الغد. لهذا السبب يركز على تحسين الحياة اليومية للمواطنين العرب.
في أداء اليمين للكنيست الـ24، في 6 أبريل 2021، كان من الممكن رؤية الفروق: أضاف “حداش” و “بلد” لقَسَم الولاء للكنيست فقرة إضافية، يقسمون فيها على محاربة الاحتلال والفصل العنصري. لم يعترف رئيس الكنيست بالصيغة البديلة وهم اضطروا إلى أداء اليمين مرة أخرى بالصيغة المعتادة، في جلسة أخرى، للفوز بالشروط التي يستحقها أعضاء الكنيست. أدى “تعال” قسم الولاء لكنه ترك الجلسة الكاملة أثناء نشيد “الأمل”، في حين انفصلت رعام
وأقسمت قسم الولاء كالمعتاد، لكن بعض أعضائها ظلوا يحترمون النشيد الوطني والبعض اختار المغادرة.
حتى فيما يتعلق بالمسألة الحساسة المتمثلة في إدانة الهجمات الفدائية، يمكن العثور على فروق كبيرة بين الأحزاب. يؤكدون جميعًا أنهم يعارضون الكفاح العنيف والهجمات الفدائية، لكن هناك فرق كبير في المواقف والتأكيدات. “حداش” يدين الهجمات الفدائية بل ويستخدم كلمة “إدانة”، لكن قرار إدانة الهجوم بشكل استباقي وبأي شدة يتأثر بتفاصيل الحدث. وفي أغلب الأحيان، يدين “حداش” الهجمات الفدائية في مناطق الخط الاخضر الموجهة ضد المدنيين.
من ناحية أخرى، يعرب حزب “بلد” عن معارضته للهجمات الفدائية في مناطق الخط الأخضر، لكنه لا يستخدم كلمة “إدانة”، لأنه يرى نفسه جزءًا من النضال الفلسطيني وليس خطيبًا من الخارج. كما يؤكد دائمًا على مسؤولية إسرائيل عن الوضع. رئيس الحزب جمال زحالقة، بشكل عام، ينفي أن يكون هذا إرهابًا. اعتاد أن يقول في السابق إنه حتى لو يشنقوه، فلن يوافق على اعتبار الاعتداءات إرهابًا، لأن هذا جزء من محاولة نزع الشرعية عن النضال الفلسطيني من أجل التحرر الوطني. لقد غير “راعم” نهجه وأثناء عهد عباس كان يدين الهجمات صراحة.
ولا يخفى على أحد أن المناقشات الأكثر سخونة في القائمة المشتركة كانت تدور حول كيفية التعامل مع الهجمات، وفي كثير من الحالات لم تتمكن الكتلة من صياغة نص متفق عليه. هكذا كان هو الحال على سبيل المثال، في الهجوم على الحرم القدسي في عام 2017. في الساعة السابعة من صباح يوم 14 يوليو، وصل ثلاثة من عرب إسرائيل، من سكان أم الفحم، إلى البلدة القديمة في القدس. وتبعهم مساعد بحقيبة مليئة بالأسلحة. ترك الحقيبة في مجمع الأقصى، وأخذ الثلاثة منها الأسلحة وخرجوا من المكان جريًا وهم يطلقون النار. قُتل ضابطا شرطة درزيان من وحدة الحرم القدسي الشريف الرقيب كميل شنان من حرفيش والرقيب هايل السطاوي من المغار بالرصاص. وأصيب شرطي آخر بجروح طفيفة. وقتل رجال شرطة آخرون كانوا هناك الفدائيين الثلاثة بالرصاص.
هز الحدث الصعب الدولة. وأمر نتنياهو بتفكيك خيمة العزاء التي أقيمت لمواساة عائلات الفدائيين في أم الفحم. في أعقاب الهجوم، أغلقت إسرائيل الحرم القدسي، وعندما فتحته وضعت أجهزة الكشف عن المعادن عند المدخل. بدأت أعمال الشغب في القدس الشرقية الضفة الغربية، وفي حلميش قُتل ثلاثة أفراد من عائلة سالومون على يد فدائي زعم أن القتل نُفِّذ انتقاما لما كان يحدث في الحرم القدسي.
لم يتمكن أعضاء الكنيست في القائمة المشتركة من التوصل إلى نص متفق عليه بشأن الهجوم، وأصدر كل حزب بيانًا منفصلاً وحاول بطريقته الخاصة تجنب الإدانة الصريحة. وقالت عضو الكنيست حنين زعبي من “بلد” إنها تحمل المسؤولية الكاملة عن كل ما يحدث إلى “سياسة الاحتلال والمضايقة والقتل الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين”.[33] عضو الكنيست يوسف جبارين من “حداش”، من سكان أم الفحم، أعرب عن معارضته لأي استخدام للسلاح ودعا الجمهور للحفاظ على النضال الجماهيري والشعبي. وكتب أحمد الطيبي وأسامة السعدي من “تاعل” أنهما يرفضان العنف من أي نوع، معربين عن الأسف لفقدان الأرواح البشرية، وأكدا أن الاحتلال هو أصل كل شر. وقال أعضاء كنيست من “راعم” إن استخدام السلاح مخالف لنهجهم ودعوا إلى فتح المسجد دون تأخير.[34]
اتفق أعضاء القائمة المشتركة على شيء واحد، ولم يذهب أي منهم لتعزية عضو الكنيست السابق شكيب شنان، الذي قُتل ابنه في الهجوم، رغم أن بعضهم كانوا من أصدقائه المقربين. كانت هناك أيضًا مقاربات أخرى في المجتمع العربي. أعضاء الكنيست السابقون، برئاسة محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة لعرب إسرائيل، جاؤوا لتقديم التعازي، بل وأصدروا رسائل تدين الهجوم.
الفرق الآخر بين الأحزاب هو أن “حداش” و”تاعل” على اتصال مباشر ومتواصل مع أبو مازن.
على عكس “راعم” و “بلد”. ويرى “بلد” بشكل عام أن اتفاقيات أوسلو خطأ مرير ويعتقد أن السلطة الفلسطينية لا تزود الفلسطينيين باحتياجاتهم، وراعم على علاقة متوترة مع السلطة الفلسطينية، من بين أمور أخرى، على خلفية تصريحات عباس في وسائل الإعلام الإسرائيلية. على سبيل المثال، فوجئت السلطة الفلسطينية بسماعه يعلن في مقابلة مع حدشوت 12 أنه لا يحتضن “الإرهابيين”، عندما سُئل عن لقاءاته مع قادة حماس وموقفه من السجناء الأمنيين.[35] فسرت حماس ذلك على أنه تبني للمصطلحات الإسرائيلية التي تشير للسجناء الأمنيين كإرهابيين. في مؤتمر غلوبس في نهاية عام 2021، قال عباس إنه يعترف بأن إسرائيل دولة يهودية وستبقى كذلك، وهو تصريح لم يساهم بالضبط في تنقية الأجواء بين السلطة الفلسطينية وراعم.[36]
حتى في المظاهرات في المدن المختلطة في مايو 2021، كان يمكن الشعور بفروق درجات الحرارة: عمل عباس بنشاط لوقف المظاهرات وخشي أن تؤدي إلى إراقة الدماء. زيارته إلى الكنيس في اللد الذي أضرم فيه المتظاهرون النيران في أوج المظاهرات، ورئيس البلدية يائير ربيفو إلى جانبه، كانت بمثابة تغيير كبير في النهج، وبالمقارنة، أيد حزب “بلد” تنظيم المظاهرات وشجعها، وهكذا أيضًا حداش، على الرغم من أن قادتها أكدوا أن نيتهم كانت المظاهرات وليس العنف.
عندما وصلت اتفاقيات إبراهيم إلى الكنيست في أكتوبر 2020، قررت القائمة المشتركة كشخص واحد التصويت ضد الاتفاقية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، بحجة أنها تهمل القضية الفلسطينية. قدم الحزب جبهة موحدة لكنها عمليا تمزقت من الداخل عباس اعتقد أنه هذا خطأ وأراد الامتناع عن التصويت. إنه رأى التطور الإقليمي بشكل إيجابي وفهم أن الجمهور العربي يرحب به. عباس الذي حاول في تلك الأيام بالفعل الترويج لخط هجين من المفاوضات مع كلا المعسكرين، بدأ يدرك أنه لا سبيل أمامه للتأثير في إطار القائمة المشتركة. إنه لأمر مدهش أن نفكر بأن هذا الإنجاز السياسي العظيم لنتنياهو أدى إلى تسلسل الأحداث التي أنهت حكمه في النهاية كان انقسام القائمة المشتركة هو الذي جعل من الممكن إقامة حكومة بينيت لابيد، بعد أن انضمت راعم إليها.
يقول الصحفي محمد مجادلة أنه في السنوات الماضية الأخيرة، حدثت تغيرات رائعة في علاقات القوى في السياسة العربية. ووفقا له، أن الربيع العربي أدى إلى تغيير المواقف في الشارع العربي. “لما رأى المواطن العربي ما يحدث في سوريا واليمن ولبنان ومصر، تعزز تصوره بأن المواطنة لا تقل أهمية عن القومية. بدأ الخط العالمي ل”بلد” في مرمرة وأحداث أخرى يتناقض مع تطلعات المواطنين العرب”. في عام 2015 لاحظت القائمة المشتركة الاتجاه وأعلنت أنها ستوصي على الذي يمكن تشكيل حكومة بدلا من نتنياهو. أدرك رئيس الحزب أيمن عودة أن ناخبيه يريدون أن يكونوا في دائرة صنع القرار، وبالتالي أوصى على غانتس مرتين على الرغم من ماضيه العسكري. إنه حاول قيادة نهج الاندماج، لكنه دعم التعاون فقط مع معسكر اليسار الوسط. كان عباس هو الذي أكمل الخطوة بعد التوصل إلى استنتاج مفاده أن الطريقة الوحيدة لتصبح سلعة مرغوبة هي البقاء منفتحًا على الاقتراحات من كلا الجانبين.
ولا يزال هناك فرق كبير في الطريقة التي تدرك بها الأحزاب العربية قضية الاندماج. في “حداش” يعتقدون أن الاندماج لا يمكنه أن يأتي على حساب القضية الفلسطينية ويرون عباس كزبون باع المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني من أجل منافع اقتصادية. هم أيضا يعتقدون أن التعاون مع نتنياهو، الذي يرون فيه ملاية حمراء، وهو منح الشرعية للتحريض على قادة المجتمع العربي. يفضل عباس التطلع إلى الأمام وليس إلى الوراء والتركيز على شيء واحد فقط اختبار النتيجة. في المقابلة التي أجريتها معه قبل الجولة الرابعة من الانتخابات، قال الجملة الخالدة التالية: “أنا على علم بأن نتنياهو يحاول استغلالي، لكن أنا أيضًا أحاول استغلاله، إذن تعالوا فلنستغل نتنياهو والحكومة معا”.
لكن بشكل يومي المعركة بين “راعم” و “حداش” هي حول الاتجاه الذي يتحرك فيه المجتمع العربي المحافظة أمام الليبرالية والانفتاح. منصور عباس ولد عام 1974 في بلدة مرار، وهي قرية مختلطة من المسلمين والمسيحيين والدروز. هو من عائلة متواضعة وعندما كان طفلاً تعرض لنسيج اجتماعي معقد. درس في وقت لاحق طب الأسنان في الجامعة العبرية، ولكن بالمقابل تطور كرجل دين وتعلم دراسات إسلامية لدى الشيخ عبد الله نمر درويش مؤسس الحركة الإسلامية في إسرائيل.
اليوم عباس شيخ وطبيب ويفتخر بحقيقة أنه يحفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب. إذا أردتم دكتور في الشؤون الدينية. يكفي أن ننظر إلى مؤيديه لفهم إلى أي مدى مرتبط الدين بإدارة “راعم”.
“مجلس الشورى، يشرح مجادلة، ” أنه مجلس من كبار أعضاء الحركة الإسلامية، ورجال دين، وبعضهم منخرط أيضًا في النشاط السياسي. رئيس المجلس هو الشيخ حماد أبو دعابس من النقب، رئيس الفصيل الجنوبي للحركة الإسلامية، وهو رجل لا يكاد يتحدث في القضايا السياسية، فهو رجل متدين بشكل واضح، وبالتالي فإن هدفه الأساسي وهدف الحزب هو ديني”. صحيح أن عباس قد صرح أنه سيركز على القضايا الداخلية، لكنه لن يتخلى للحظة عن حراسة المسجد الأقصى على سبيل المثال. هذا هو الشيء الذي يحفزه ويحفز جمهوره المستهدف”. وبما أن رعام هي الإصبع الواحد والستون، فإن رؤيتها المحافظة تؤثر على المجتمع الإسرائيلي بأسره. وفي الاتفاقات الائتلافية، حرصت القائمة على الحصول على حرية التصويت في القضايا الدينية، الأمر الذي جعل من الصعب على الحكومة الترويج لسلسلة من التحركات الليبرالية التي خططت لها. على سبيل المثال، بسبب معارضة رعام للقوانين المتعلقة بمجتمع المثليين وإضفاء الشرعية على القنب، اضطر الوزراء لتنظيم بعض الإجراءات في اللوائح وليس في القانون.
“عباس” كما يحكي مجادلة “فضل بصدق ائتلاف نتنياهو والحريديم. أولاً، أراد أن يكتسب شرعية من اليمين حتى يتمكن من التعاون مع الجميع في المستقبل، وثانيًا، إنه يعتقد أن حزب “راعم” أقرب بكثير إلى الأحزاب الحريدية من الناحية الأيديولوجية منه إلى الأحزاب الليبرالية مثل العمل وميرتس”.
من ناحية أخرى، ولد أيمن عودة عام 1975 لأبيه عادل، عامل بناء، وأمه نور ربة منزل، ونشأ في حي كبابير في حيفا، ينتمي معظم أفراد عائلته إلى الطائفة الأحمدية، وكان ناشطًا بالفعل في شبابه في “بنكي” (تحالف الشباب الشيوعي الإسرائيلي). كرّس حياته، قبل انتخابه للكنيست، لمنظمات التغيير الاجتماعي ونشاطات في مجلس مدينة حيفا. حزب “حداش”، الذي يرأسه، والمنظمات التابعة له يرفع دائمًا راية المساواة بين اليهود والعرب وبين الرجال والنساء. إنه لأمر مدهش الاعتقاد أنه حتى وقت قريب، عضوة الكنيست عايدة توما سليمان من حداش، وهي ناشطة نسوية بمعنى الكلمة قادت النضالات والقوانين كرئيسة للجنة النهوض بمكانة المرأة، جلست على نفس القائمة مع عضو سابق في الكنيست. طالب أبو عرار من راعم، وهو متزوج من أكثر من امرأة.
في تموز (يوليو) 2020، عندما كان الاثنتان لا يزالان في القائمة المشتركة، كانت الخلافات بين راعم وحداش على السطح. وعبَّر عودة عن دعمه لشركة مطاحن الأرز التي تضررت من مقاطعة المستهلكين بعد أن أعلنت أنها ستتبرع بأرباحها لإنشاء خط دعم للمثليين والمتحولين جنسيًّا بالعربية. كان عباس غاضبًا. وأوضح أن موقف رعام مبني على الشريعة الإسلامية وملزمة لباقي أعضاء القائمة الموحدة. وطلب من عودة أن يتراجع عن ذلك ويعتذر. لكن هذه كانت مجرد البداية. عبوة سياسية جانبية وضعها رئيس ميرتس نيتسان هورفيتس لحكومة نتنياهو جانتس لتفكيك المشروع المشترك أيضًا.
القانون الذي اقترحه هوروفتس كان يهدف إلى منع علماء النفس من إجراء علاجات التحويل التي تهدف إلى تغيير التوجه الجنسي. أثار القانون جدلًا حادًّا، لأنه لم يحظر إكراه العلاجات بل حقيقة وجودها، حتى بالنسبة لأولئك المهتمين به. أعضاء حداش الثلاثة عودة وعوفر كاسيف وتوما سليمان صوتوا لصالح القانون، وعارضه نواب راعم وتغيب أعضاء الكنيست من تاعل وبلد. تم تمرير القانون بأغلبية كبيرة في القراءة الأولى وتسبب في ضجة في المجتمع العربي. وفي محاولة لتهدئة الأنفس صرحت القائمة المشتركة أنها فيما بعد ستتخذ القرارات بشأن هذه الأمور بشكل مشترك، وهي مهمة شبه مستحيلة عند الأخذ بالاعتبار الاختلافات العميقة في وجهات النظر داخلها.
ادعاء آخر أثير في السنوات الأخيرة ضد أعضاء القائمة المشتركة هو أن أعضاء الكنيست العرب لا يهتمون بجمهورهم بل بالفلسطينيين. في الكنيست الحالية، أعلنت “راعم” أنها ستتعامل حصريًا مع تحسين حياة المواطنين العرب، لكن أعضاء القائمة المشتركة ركزوا أيضًا على القضايا المدنية في السنوات الأخيرة، حتى لو لم يكن ذلك دائمًا بنجاح كبير”.
“نحن نظلم أعضاء الكنيست العرب مرتين”، كما يقول الصحفي عكيفا نوفيك. “أولاً، نحن لا نغطي جزءًا كبيرًا من أفعالهم في الكنيست. إنهم يتعاملون كثيرًا مع الاحتياجات اليومية للوسط العربي، لكننا نغطيهم فقط عندما يتعاملون مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ويضايقون المشاهد اليهودي العقلاني. عندما رأيت أن أعضاء الكنيست، خاصة من الليكود، يتهمون مرارًا وتكرارًا أعضاء الكنيست العرب بأنهم لا يساعدون وسطهم ويتعاملون مع الفلسطينيين فقط، ذهبت للتحقق مما إذا كان هذا هو الحال حقًا”، يقول: “فتحت موقع التشريع الوطني، والذي يتضمن جميع مشاريع القوانين التي قدمها ذات مرة أعضاء الكنيست.
جلست وأحصيت بدقة 3469 قانونًا قدمها جميع أعضاء القائمة المشتركة حتى ذلك اليوم. من بين كل القائمة، 95 قانونًا فقط لم يتم تمرير أي منها كانت لديهم نبرة وطنية وتعاملوا مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. هذا أقل من ثلاثة بالمائة. أما الباقي فيتناول تظليل الملاعب وحقوق المرأة العاملة وحقوق فريدة للعرب”.
تم إجراء الفحص الشامل لنوفيك خلال الكنيست العشرين، التي بدأت ولايتها في عام 2015، لكن تقريرًا حديثًا صادر عن منظمة مبادرات أبراهام يُظهر أن هذا هو الحال تمامًا في الكنيستين الأخيريتين أيضًا: 97٪ من مشاريع القوانين من الأعضاء العرب في الكنيست تعاملوا مع القضايا الاجتماعية، مثل التعليم والنقل والمخصصات، ومعظمهم (62 في المائة) يتعلق بكافة السكان. تناولت بعض المقترحات القضية الوطنية، بما في ذلك مشروع قانون قدمه الطيبي لإحياء ذكرى يوم النكبة، أو اقتراح متانس شحادة (بلد) لإزالة الجدار الفاصل.[37] سبب عدم سماعنا عن مشاريع القوانين المدنية هي أن وسائل الإعلام تفضل تغطية القوانين التي لديها فرصة لتمريرها. ما الفائدة من إزعاج الجمهور بمشروع قانون لم يخرج منه شيء؟
نعومي هايمان ريش، التي سبق أن بحثت في الموضوع في الجامعة العبرية وتشغل حاليًا منصب نائب المدير في وكالة للأعمال الصغيرة والمتوسطة في وزارة الاقتصاد والصناعة، أوضحت أن أعضاء الكنيست العرب كانوا في وضع غير مريح إلى أن انضمت “راعم” إلى الائتلاف. يمتد بحثها من الكنيست الثانية عشرة إلى الكنيست التاسعة عشرة، حيث خلالها كانت كل كتلة في وقت ما في الائتلاف باستثناء الكتلة العربية. نظرًا لأنها لم تكن جزءًا من اللعبة، فقد كان من الصعب عليها الترويج لتشريع، والذي يتم إجراؤه أيضًا من خلال طريقة “احتفظ لي وأحتفظ لك”. في ظل غياب الإنجازات الحقيقية، ركز بعض أعضاء الكنيست العرب على الاستفزازات والخطابات التحريضية، الأمر الذي زاد من صعوبة تعاون الحكومة معهم.
لا يتعلق الأمر بالتشريع فقط، بل يتعلق جزء كبير من الأنشطة العامة لأعضاء الكنيست العرب بالشؤون الداخلية. كانت القائمة المشتركة هي المحرك وراء الخطة الخمسية العربية، وعملت “راعم” بدورها على توسيعها. ويأمل أعضاء الكنيست العرب أن يكون دخول القائمة العربية للائتلاف بمثابة السنونو الذي يبشر بقدوم الربيع العربي في الكنيست حيث ستؤخذ مصالح المجتمع العربي بعين الاعتبار، إن لم يكن لأسباب عملية، فخوفًا من تقديم الحساب في الدورة المقبلة.