اخبار السودان

ما بين عبدالله نيكولا وشيخ النذير !!

كاتب  قلم

سيد محمود الحاج

 

إسمه الحقيقي عبدالله لكن هو بنفسه من أضاف الإسم الأخير إلى إسمه (عبدالله نيكولا) فصار هذا ما يُعرف به من بعد … صادف أن لاقيته مرّة قبيل الغروب بقليل ، ويبدو انه كان عائداً من إنداية ما ، فقد تبين لي ذلك من خلال ترنحه يسرة ويمنى ، فالإندايات تكاد تكون وجهته الدائمة منذ أن يدع فراشه في بيته المتواضع الذي ورثه عن أبيه ولا يشاركه فيه سوى أمه قبل انتقالها إلى الدار الآخرة .. يعمل فقط ليحصل على ما يسدّ رمقه ويوفر له حق ما يزبط مزاجه ، فلم يكن مسؤولاً عن من يستوجب عليه رعايتهم فلا زوجة ولا عيال .. بادرته بالتحية فردّ علي بأحسن منها قبل أن أسأله : ” جايي من وين يازول ؟ “… فردّ في سخرية : ” يعني حا اكون جايي من وين … جايي من جامع خميسة طبعاً ” .. ضحكت لكنه لم يبادلني الضحكة بل أردف : ” إنت ما شائف الحطب الشايلو فوق راسي دا !؟ ” فسألته عن اي حطب يتحدث ولا أرى على رأسه حطبا.. : ” يا زول انا حطبي دا فوق راسي من زمااان … من زمن شيخ النذير الله يرحمه لاقاني وانا ( لط ) وقال لي إنت كافر ومن أهل النار .. أها تعرف من اليوم داك شلت حطبي فوق راسي وقلت أخير أقابل الله عديل .. لا ألف ّلا أدوّر ولا أكضب عشان ما أزيد الذنوب العليْ وو توووش أمشي علي جهنم .. والبسويها الله تبقى ” .. لم أشأ أن أخبره أن شيخ النذير علي قيد الحياة وانه تخلّى عن إمامة المصلين طوعاً وخجلاً منذ تلك الواقعة ليخلفه شيخ خلف الله الباع براميل النفايات بتاعت الحي !!… أما واقعة شيخ النذير فقد كانت أحداثها مدوّية وعلى الهواء مباشرة ساعة أن سمع أهل الحي وبعد صلاة العشاء ما دار بينه وبين رئيس اللجنة الشعبية والذي كان ينوب عنه في إمامة المصلين أحيانا ، دون أن يتنبه أيّ من المتحاوريْن إلى أن جهاز مكبّر الصوت لم يزل في وضع التشغيل وكان النقاش بينهما يدور حول عدم حصول شيخ النذير على النسبة المتفق عليها من بيع أسطوانات الغاز (المجنّبة) .. “يا الصادق أنا عرفت من أخونا كمال الدين إنه عدد الأسطوانات الزائدة دي كان تلاتة وخمسين ، وتجي تقول لي تلاتة وعشرين .. يعني التلاتين دي مشت وين … يا جماعة خافوا من الله .. ما تاكلو حقّنا بالباطل !!” .. شيخ النذير كسّر البيض كله ودخّل ناس الصادق وكمال الدين وعزالدين وشرف الدين في أضافرهم لكن ما قعدوا كتير تحت الأضافر ورجعوا أشطر من أوّل ، لكن شيخ النذير الفيه إتعرفت وإشترى شقة في حي تاني بعيييد وبقى إمام في واحد من المساجد سموه بإسمه فخطبه كانت مؤثرة لدرجة تثير البكاء حتى أنّ ساكني الأحياء الأخرى كانوا يقصدون مسجده أكثر من أي مسجد آخر فيبكون على بكائه أثناء تلاوته في الصلوات ومواعظه في الخُطب !!

 

في سانحة أخرى وجدت صديقي نيكولا في مزاجٍ عالٍ وهو يجلس على حافة معبر يتوسط أحد مصارف الحي وقبل أن ألقي التحية عليه رأيته يفسح لي مكاناً بجانبه كمن يدعوني للجلوس فجلست : “أها الليلة كيف يا عبدالله” ، فأجاب : “ماهو زي كل يوم .. من البيت لي جامع خميسة وبالعكس فقلت :

يعني إنت مريّح نفسك .. ما عندك شغلة بالحلة ومناسبات الحلة !!”

“تعرف يا أبو عبدة أنا في حالي .. ما عندي شغلة مع زول ولا بغلّط علي زول .. مرّات بمشي بيوت عزاء أشيل الفاتحة وأطلع .. ناس يمدّو ليك إيد واحدة و ناس أصبعين بس .. وتقعد شوية تشوف الناس زي تقول في حفلة .. شيء سياسة وشىء كورة وواحدين كمان يتناقشوا في الفنانين والقونات .. لا شفت زول ماسك مصحف لا زول يترحّم علي الميّت .. والدقون ما تديك الدّرِب وساعة الصلاة يزوغوا وساعة الأكل يظهروا .. وبرضو يجي شيخ النذير ربّنا يرحمه ويغفر ليه ويمرقنا نحن كُفّار “!!

ضحكت على ما أدلى به وأتتني الفرصة لأخبره بأن شيخ النذير لم ينتقل إلى الدار الآخرة لكنه إنتقل إلى حيّ آخر . عندها أحسست بفرح غامر يملأ نفسه : “يازووول .. الحمدلله .. ربنا يمد في أيامه .. والله لما بقيت ما بسمع صوته في الصلاة إفتكرته إتوفّى .. ربنا يطوّل في عمره !!”

عندها صمتّ طويلاً أقارن فيما بين رجل دين يكفّر من إبتلاه ربّه ومُبتلىً يدعو بالرحمة وبطول العمر لمن رماه بالكفر وحكم عليه بالجحيم وهو من ظل يرتّل القرآن في كل صلاة دون أن يتأمل معاني ما يقرأه وان الله غفور رحيم !!

ولمّا طال صمتي بادرني صديقي قاطعاً ذلك الصمت وكأنه كان يقرأ خواطري : “شوف يا ابو عبدة .. انا لقيت الجو الأنا عائش فيه دا أحسن بكتير من غيرو .. تعرف هسه أنا شيخى بقى منو ! .. شيخي صاحبي (حسن الضرير) .. الزول دا قبل ما يرفع كورة العسلية علي خشمو يقول بسم الله ولما يختّها ويتكرّع يقول الحمدلله ولما واحد يقول نكتة ونضحك يضحك من آخر قلبه ويستغفر الله يمكن عشرين مرّة ولو جبنا سيرة زول يوقّفنا على طول ويقول يا جماعة خلونا في سجمنا دا وما تزيدوا نارنا حطب ، .. عشان كدا أنا شايل حطبي فوق راسي .. يعني دا مش إعتراف بالذنب !!؟ ” .. ساعتها وبعد أن لذت بالصمت لأمد طال إستأذنت صديقي مودّعاً وأنا أردّد بصوت يكاد يكون مسموعاً للسائرين من حولي : “شتّان مابين شيخ النذير وحسن الضرير!! ” .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *