اخر الاخبار

حين يصبح التنازل ضرورة وطنية وليس وصمة عار … تأملات في المشهد المقاوم والمطلب الشعبي

أمد/ في اللحظات المصيرية التي تمر بها الشعوب، لا يُعدّ اتخاذ قرار التراجع أو التنازل بالضرورة خيانة أو وصمة عار، إلا إذا تم في لحظة قوة، أو عندما تتوفر فرصة حقيقية للاستمرار وتحقيق الأهداف. آنذاك، يصبح التراجع تخليًا عن الكرامة، وعن الواجب الوطني، واستسلامًا غير مبرر يُحسب على صاحبه وليس له.

ولكن من ناحية أخرى، قد يكون التنازل قرارًا وطنيًا شجاعًا، عندما يكون الهدف هو حقن الدماء، أو تفادي كارثة إنسانية، أو عندما تكون الاستمرارية في المواجهة ضربًا من الانتحار السياسي أو العسكري. 

ففي مثل هذه الحالات، لا *يُنظر للتراجع بوصفه فشلًا، بل كحكمة واقعية تفرضها المعطيات الصعبة، ووعي عميق بالممكن والمستحيل.

العار الحقيقي لا يكمن في التراجع ذاته، بل في الأسباب التي دفعت إليه:  من تحالفات هشة ودعم مشروط و وهمي، وقيادات رهنت قرارها لمصالح إقليمية خارجية أو حسابات غير واقعية. 

هنا تتحول لحظة التنازل إلى مرآة تعكس إخفاقًا استراتيجيًا سابقًا، لا يمكن تجميله بخطابات الصمود أو شعارات النصر الواهية.

إن الوعي الاستراتيجي لا يُقاس بالشعارات، بل بالقدرة على تقدير اللحظة، ومعرفة متى نقاتل ومتى نفاوض، ومتى ننسحب، وفق قراءة دقيقة للقدرات والإمكانيات. 

فالهزيمة لا تكون في الانسحاب بحد ذاته، بل في الوهم الذي سبقه: وهم الدعم و وهم النصر القريب، وهم وحدة الساحات ، ووهم الانسجام الداخلي. وعندما تبنى القرارات على تقديرات خاطئة، تكون النتيجة كارثية: وهي مزيد من الاستنزاف، وصولا إلى الانهيار الكامل.

السؤال الجوهري ليس: هل التنازل عار؟ 

بل: هل كان يمكن تجنب هذا التنازل؟ 

وهل كان الشعب شريكًا في اتخاذ القرار؟ فإن لم يكن كذلك، فالوصمة لا تعود بالفعل ذاته، بل في كيفيته وسياقه، ومن هم صناعه.

إن المقاومة الفلسطينية، برغم محاولات بعض الفصائل احتكارها، ليست حكرًا على فصيل أو جهة، بل هي حالة شعبية متجذرة في وجدان الناس، قائمة على فكرة البقاء والكرامة. وإن سقطت الفصائل، فالفكرة باقية والشعب باق أيضا. ولكن، إذا ما كُسرت ثقة الناس، وتحوّلت المقاومة إلى عبء ثقيل لا يؤمن الحياة الكريمة، فإن مشروع التحرر سيتآكل من الداخل.

ولذلك، يجب ألا يُنظر إلى المقاومة بوصفها مشروعًا عسكريًا فقط، بل باعتبارها مشروع حياة. مشروع يوفّر للمواطن أسباب البقاء: الأمن، التعليم، الاقتصاد، والكرامة. فإن لم يتحول مشروع المقاومة إلى مشروع حياة، فإن كل قطرة دم ستتحول من تضحيات إلى تكرار بلا جدوى.

التحدي الفكري الأخطر اليوم، هو تلك العقلية الغيبية المطلقة التي ترفع المسؤولية عن القيادة، وتجعل من المقاومة رد فعل دائم وليس مشروعًا وطنيًا مدروسًا. هذه الذهنية تقتل التخطيط الواقعي، وتخلق وهمًا كاذبًا بأن النصر مضمون بغض النظر عن المعطيات. وفي حال الهزيمة ستتهرب ويتم التذرع بالآخرين: كالشعوب، والأنظمة، أو المجتمع الدولي، لتبرئة الذات من المسؤولية، والهروب من المراجعة النقدية.

ما يحتاجه الشعب الفلسطيني اليوم هو قيادة مؤمنة، نعم، ولكن ليست غارقة في الغيبيات. قيادة تُشرك الناس، لا تستخدمهم كوقود معركة. قيادة تعيد صياغة المشروع الوطني وفق رؤية واقعية، وتمنح للمواطن أدوات الصمود، وليس وعودًا معلقة في الهواء.

إن أي مشروع تحرري جديد يحتاج إلى شجاعة في نقد الذات، والقدرة على كسر التابوهات السياسية، حتى وإن كانت “مقدسة”. فالكثير من القيادات التاريخية فقدت شرعيتها، وليس بالإمكان بناء مستقبل على إرث مأزوم. المقاومة يجب أن تكون شاملة: سياسية وثقافية، واقتصادية، وتربوية.

واليوم، في ظل الحرب المستعرة على غزة، لم تعد الشعارات القديمة قادرة على تفسير هذا الكم الهائل من الدمار والدماء. آلاف الشهداء، ومئات آلاف المشردين، وعائلات تُمحى من السجلات المدنية قبل أن تُدفن. وبينما يصرّ البعض على الاستمرار في المعركة تحت عنوان “الصمود”، لم يعد الناس يرون في هذا العنوان ما يكفي لتبرير نزيفهم المستمر.

الناس في غزة لا يطلبون المستحيل ولا يطالبون بالهزيمة، بل بالحياة ولا يرفضون المقاومة، بل يريدون مقاومة تُبقيهم أحياء. يريدون مشروعًا وطنيًا حقيقيًا يوازن بين الكرامة والواقعية، بين المقاومة والسياسة، بين الحق في الدفاع عن النفس والواجب في حماية الأرواح.

إن المطالب الشعبية بوقف الحرب ليست خيانة، بل شجاعة. هي تعبير عن إرادة الحياة في وجه ماكنة الموت، وهي صوت الأغلبية الصامتة التي لم تعد تقبل أن تكون مجرد رقم في نشرات الأخبار أو ذخيرة في معركة بلا نهاية.

وجود قيادة لا تسمع هذا الصوت، ولا تستوعب حجم الفجوة بين الخطاب والواقع، لا تُعبّر عن نبض الناس، ولا تستحق تمثيلهم. والثبات الحقيقي لا يكون على الموت، بل على مشروع يُعيد للناس إيمانهم بأن هناك ما يستحق العيش من أجله، لا فقط الموت لأجله.

فإذا لم يتحول مشروع المقاومة إلى مشروع حياة، فإن دماء الشهداء ستتحول إلى مجرّد تكرار لا يُفضي إلى التغيير، بل إلى الفقد وحده دون مراعاة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *