بين الشعر والدبلوماسية علاقة وشيجة.. ورقة السفير جمال محمد إبراهيم في الندوة التمهيدية الثانية لتأبين الراحل محمد المكي إبراهيم


دار نقابة اتحاد الكتاب في مصر
23 أبريل 2025
ورقة السفير جمال محمد إبراهيم
بين الشعر والدبلوماسية، ثمة علاقة دون شكٍّ، وإلا كيف رأينا دبلوماسيا مثل نزار، يصير أميراً للشعر الوجداني في القرن العشرين بلا منازع…؟ عمل نزار في وزارة الخارجية السورية، في عدة عواصم منها: القاهرة، مدريد، ولندن وبيروت وبكين. وفي العام 1959 بقي في الحقل الدبلوماسي إلى أن قدم استقالته في العام1966.
ثم انظر معي كيف يسطع نجم السفير اللبناني الرّاحل عمر أبو ريشة، شاعراً أكثر من سطوع نجمه دبلوماسياً، ثم نرى التشيلي بابلو نيرودا سفيراً وهو الشاعر المفوّه الذي كرمته نوبل بجائزتها. وهنالك الرّاحل صلاح عبد الصبور، ثم الفيتوري، نراهما قد سلكا في الدبلوماسية من مداخلها الثقافية، ثم الشاعر السفير صلاح أحمد إبراهيم، والرّاحل الذي نتداعى هذه الأيام لتأبينه محمد المكي إبراهيم، غشته شآبيب الرحمة، وجميعهم سفراء كبار.
أقول لكم: إنّ السفير يرحل في أسفاره ببدنه، أما الشاعر فهو سفير إلى الخيال البعيد، وظنّي أن بين الرحلتين تلاقٍ واستلهام. دعوني أقولُ لكم أيضاً، إنّ في طيات اللغة وفي استعمالاتها ما أعاننا، نحن من امتهنا الدبلوماسية في بعض معالجاتنا. وأعني اللغة الشاعرة. أهل السياسة والكياسة، من جهة وهم قد لا يحفلون كثيراً بنصح الدبلوماســية تجدهم يتوسّـلون اللغة لتخفي عيوب السياسة، ونتوءاتها وجراحاتها. لقد خسر العرب فلسـطينَ كلها في هزيمة عام 1948، لكن من سمّى الأشياء بأسمائها وقال إنها هزيمة؟ كلنا ارتضينا الوصف الشاعري الذي يعفي السياسيين من المسئولية، فسميناها: “نكـبـة “. أما الحالمون من أهل السياسة، فقد سمّوا هزيمة يونيو/حزيران عام 1967: “نكـسـة”. كم هي مخادِِعةُ لغةُ الشِعرِ فقد أخفتْ الفاعلَ والمفعول بهِ، بكلمة رومانسـية واحــدة!
الشاعر في أسفاره يهرب من أسر الضوابط والمقيّدات، مثلما يضيق كثير شعراء محدثون بقواعد الخليل وبحور الشعر، ضيقاً أنبت ثمراً طيباً قوامه الشعر الحديث المنثور الذي انطلق مواكبا حركة الحداثة التي انتظمت مجتمعاتنا في عمومها.
ولأنَّ الشعراء أكثر الناس حساسية في ضيقِهم بالقيود وبالأسر، فقد ظلوا في أغلب الأحوال في الضِّفة الأخرى، يضيقون بالطغيان يتابّون على الخضوع للأنظمة الشمولية، فتراهم إمّا فرّوا بشعرهم وإمّا هزمتهم الشموليات وقضتْ على مواهبهم، فانزوَى الشعر وضعف الإلهام. قليلُ القليلِ منهم من أمكنه التوفيق بين ضرورات الإبداع ومستلزمات الوظيفة الدبلوماسية.
عرفنا في السودان شاعراً وقامة مديدة، أصلها في دارفور وفرعها في القاهرة وبيروت، واخضرارها في ليبيا ومقامها في المغرب. جاء محمد الفيتوري إلى الدبلوماسية من باب الشعر فكان نجماً في روما، مثلما كان نجما عربياً ساطعا إبّان عمله في بيروت. ثم إلى الرباط حتى رحيله قبل أكثر من عشرة أعوام رحمه الله.
عرفنا الشاعر السفير الراحل صلاح أحمد إبراهيم، وديوانه “غابة الآبنوس” يخرج عن مطابع بيروت في أخريات خمسينات القرن العشرين، تتالت أعماله الشعرية في سنوات النصف الثاني من القرن الماضي. حساسيّة صلاح الشعرية كمثل حساسيته في السياسة. عرف اليسار واختلف مع بعض مجايليه، ثم لما ضاقت به مكائد السياسة لا الدبلوماسية ومساكنها وحقائبها، فرّ بشعره من أوشابها وارتحل إلى باريس، مدينة الشعر والنور حتى وفاته. هي باريس التي فتحت حضنها لسيدار سنغور شاعرا وعالما في اللغة الفرنسية، قبل أن تعتمده رئيساً سياسياً في بلاده. هي باريس بودلير وايلوار، وباريس اللبنانيين جورج شحادة وأمين معلوف. لباريس رؤساء عمالقة مثل “ديجول” و”بومبيدو”، ذلك الذي قال: إن بين السياسة والشعر خطوة واحدة، وأن لا سياسة بدون عملٍ شعري. قول رجلٍ يعرف أين تكون مكامن الخلود . . .
الشاعر السفير الرّاحل محمد المكي ابراهيم، وحديث عن “أمّـتـي” يطول، ويخلد في الذاكرة. لو بهتتْ في الذاكرة ثورة مجيدة مثل ثورة أكتوبر 1964 في السودان، فإن “أكتوبريات الشّـعر” من محمد المكي، أبقت أوارها حيّاً مجيدا. وللمكيّ دواوينُ زاخرة بمجيد الشِّـعر، برتقالاً خِلاسـياً ذا مذاقٍ رائق ولغةٍ منعشة، وخِباءات دافئة لعاشقات مثل العامرية
ويطول الحديث لكن دعني أحدث عن شاعر التشيلي “بابلو نيرودا”. ولقد دفعه إصراره وتمسكه بمعتقده السياسي، فاضطر إلى دفع ثمنٍ باهظٍ، فتقدم باستقالته من عمله الدبلوماسي.
وفي21 أكتوبر من عام1971، يفوز نيرودا بجائزة نوبل في الأدب، وعند عودته للتشيلي يجد عسكر “بينوشيه” قد اغتالوا الرئيس الشرعي للبلاد، وبدأوا حملة شعواء ضد اليساريين في تشيلي، شيء يشبه ما حلّ باليسار على يد نظام النميري في السودان عام 1971، لكنه كان الأكثر دموية وعنفا..
في تلك الهوشة الجنونية في تشيلي، جاء عسكر “بينوشيه” برشاشاتهم إلى بيت الشاعر الكبير بابلو نيرودا، يبحثون عن السلاح المخبّـأ في بيته. ابتسم الشاعر الكبير، وردّ عليهم قائلا:
“إن الشعر هو السلاح الوحيد المختبئ عندي..” بعدها بأيام توفي نيرودا فيعام 1973 متأثراً بمرضه. كان الشاعر هو الذي مات لا صوته الشعري.
الشِعر الذي لم يتصالح مع قهر السياسة، قتل بابلو نيرودا . وسقط دثار سقط الدبلوماسية من كتف الشاعر فخلدت قصائده بدبلوماسيتها، شهــادة على القهــر..
لنا أن نقول بكل اطمئنان، أن الدبلوماسية هي شعر السياسة. هي التي تستخرج من السياسة آفاقها التي تستشرف المستقبل.
لكن كيف يسلم الشاعر من لهب السياسة، وهو في دبلوماسية الشعر، يتنفّس من خيالها، فتحاصره من طرف آخر ألاعيب السياسيين.؟
لهذا نجد شاعراً مثل نيرودا، يخنقه العسكر فلا يطيق المهنة، ولا تطيقه لأسباب السياسة، فيهجر الدبلوماسية. وشاعراً مثل نزار قباني، وهو في مدريد تتلبّسه حالة الوجد الأندلسي القديم، فلا يحتمل غثاء السياسة وهو في سفارة بلاده هناك، فلا يصبر على خياله، فيندفع إلى واحة الشعر طليقاً من قيود السياسة ومؤامراتها. استقال نزار من السياسة، لا من دبلوماسية الشعر..
ثم نأتي للأديب الشاعر الرّاحل والسفير المميّز محمد المكي ابراهيم رحمه الله، وقصته مع السياسيين. دخل شاعرنا الراحل الغابة وجاب الصّحراء، فنشر راية الشعر عالية في الوجدان. ثم فجأة نتزعه من مهنته نظامٌ حكم السودان بالشِّدة والقه ليمثل الدبلوماسية في برلمان معيّن في الخرطوم. يؤدّي المَهمّة، ولكن هنا أيضاً يضيق الشاعر بضغوط السياسة. لو كانت دبلوماسية صافية لكان الأمر أهون، ولكن تنفصم الوشيجة بين الشعر والسياسة، وليس مع الدبلوماسية. يخرج الشاعر خروجاً داوياً من الوطن الذي تغنّى لها، والأمّة التي ناداها: “أمّتي”، ويغادر إلى الولايات المتحدة ليقيم فيها مقاماً، لا تعريف له سوى أنه مقام المضطر.
حقيقة الأمر، إذن: أنّ الوشيجة بين الشعر والدبلوماسيّة، لا تنفصم، فإنْ هجر الشاعر مهنته فبسبب تغوّلات السياسة، لا الدبلوماسية. لهذا أقول إنّ بين الشعر والدبلوماسية، ما صنع الحبّ، ولكن بين الشعر والسياسة ما صنع الحـدّاد!
المصدر: صحيفة الراكوبة