اخبار

حروب العشرية الثالثة (26)..

حروب العشرية الثالثة (26)..

2025 Apr,22

يحتدم السجال العام حول مسؤولية حماس عن تدمير غزة. ولا أجد ضرورة لاختزال المرافعات ذات الصلة، فوجبة الأخبار اليومية المجبولة بالدم، والكلام الفارغ على لسان الناطقين باسمها، وما يتداول الناس، في غزة، على منصّات التواصل الاجتماعي، شواهد في متناول الجميع، وفيها ما يكفي ويزيد.

لذا، لا أُضيف جديداً إلى آراء برهنت على مسؤولية حماس عن الكارثة، ولا يمنحني الموقف السلبي الدائم والثابت، بالمعنى الشخصي، من الجماعة الإخوانية على مدار ما يُحسب بالعقود لا بالسنين، إحساساً بالامتياز. فقد توّقعت فشل كل محاولات «المصالحة»، التي وصفتها بالمستحيلة، كما شخّصت غزة بما فيها من بشر وحجر في صورة الرهينة بعد الاستيلاء عليها في العام 2007. تلك، وغيرها، توقعات ليتها خابت، ونجت غزة.
 على أي حال، ومع هذا في البال، فلنقل إن ما يندرج في الإطار العام للمسؤولية، وما ينبثق عنها من تجريم وإدانة، يضيق كثيراً إذا اقتصر على الجماعة المعنية، وينطوي على قابلية عالية للاندماج في، وخدمة، رواية أكبر هي «لوم الضحايا». وهذا لن يكون مفهوماً ما لم نضع في الاعتبار أن الكلام عن مسؤولية من نوع ما، سواء لتأكيدها أو نفيها، وكذلك عن المُعتدي والمعتدى عليه، والمنتصر والمهزوم، مكوّن رئيس في كل رواية محتملة للحرب، وفي كل حرب بين روايات مختلفة تتنافس على موقع السيادة والأولوية.
والمفارقة أن الطبيعة الإشكالية لفكرة المسؤولية لن تتجلى، في أوضح صورها، إلا في حقيقة أن استثمارها السياسي، والدعائي، سواء لتأكيدها أو نفيها، لا يصبح قابلاً للتداول دون انتخاب وإقصاء، أي دون مسكوت عنه من نوع ما. فحصر المسؤولية في حماس، مثلاً، يستدعي استبعاد عوامل فلسطينية داخلية، وكذلك السياسات والحسابات الإسرائيلية، والإقليمية، والدولية، التي أوصلت الفلسطينيين في قطاع غزة إلى الكارثة. وبالقدر نفسه، فإن نفي المسؤولية، يعني إلقاء تبعاتها على عاتق آخرين.
يمثل تأكيد المسؤولية النواة الصلبة في رواية «المعتدلين العرب» والإسرائيليين (وهذه مفارقة لافتة) مع كل ما يتصل بها من بلاغة ومهارات في صياغة وتعميم مرافعات مُقنعة، وذات قابلية عالية للتسويق. والواقع أن بعض مقدمي البرامج التلفزيونية في العالم العربي (أذكر إبراهيم عيسى، مثلاً) قد حوّلوا الكلام عن مسؤولية حماس، والإخوان أحياناً، والفلسطينيين أحياناً (وكل هؤلاء في سلة واحدة أحياناً) إلى ميلودراما صارت تشكو مع مرور الوقت تناقص عناصر التشويق.
وفي المقابل، يمثّل نفي المسؤولية النواة الصلبة لرواية الممانعين، التي تتولى الجزيرة القطرية تسويقها، وفي القلب منها إلقاء مسؤولية الكارثة على عاتق «الاحتلال الإسرائيلي» و»الصمت العربي». وغالباً ما يُستدرج هذا وذاك كقناع لمناكفات بين إبراهيميات مختلفة على موقع الأولوية والأهمية. ولا ضرورة للتدليل على «الصمت على الصمت العربي» في حالات بعينها، ولا على التعاون مع الاحتلال.
 المهم، تُلقى المسؤولية، أحياناً، على عاتق السلطة الفلسطينية، و»التنسيق الأمني» خدمة لرواية الإسلاميين في صراعهم على الأولوية في الحقل السياسي الفلسطيني. ومقابل هذا كله، تتجلى سياسات حماس، التي أدت إلى الكارثة، بوصفها دفاعاً عن الشعب، ومعركة فاصلة من معارك التحرير، مع كل ما يتصل بهذه وتلك من تمثيلات وتأويلات أغضبت كثيرين، خاصة من شخص يدعى الدويري.
المسكوت عنه في الحالة الأولى أن انفصال المسألتين «العربية» و»الفلسطينية» قد تحقق وتجلى منذ اليوم الأوّل للحرب. يمكن البحث عن الأسباب العميقة في انهيار الحواضر العربية، وصعود الابراهيميات. وكل ما يعنينا، الآن، أن تأكيد المسؤولية يُسهم في حجب حقيقة الانفصال، وما ينطوي عليه من مخاطر تتكشف ملامحها في كل بلاد الشام، وقد صيّرتها أوهام القوة الإسرائيلية نطاقاً أمنياً جديداً، إضافة إلى الحد المصري بطبيعة الحال. ومن سوء الحظ أن الدلالة الحقيقية لسلام إبراهيم لم تنل، حتى الآن، ما تستحق من عناية واهتمام.
أما المسكوت عنه في نفي المسؤولية فيتمثل في الحيلولة دون الاعتراف بأن وجود جماعة حماس الإخوانية كان مطلوباً لتحقيق حاجة إسرائيلية، هي فصل الضفة عن القطاع. وكان مطلوباً في حسابات إقليمية تركية وإيرانية، ناهيك عن حاجة القطريين لشراء دور اللاعب الإقليمي بالمال. الأمر الذي لم يتعارض مع حاجات الإسرائيليين. لذا، وصلت حقائب المال القطرية إلى غزة عن طريق تل أبيب.
وإذا شئنا الذهاب بعملية تحليل المسكوت عنه أبعد قليلاً، فلنقل إنها تنطوي في الحالة الأولى على إنكار لدور سياسات التأقلم العربية والدولية مع نظام الأبارتهايد المفروض على الفلسطينيين، على الأقل منذ نهاية الانتفاضة الثانية.
أسهمت سياسات التأقلم، التواطؤ أحياناً، في تمكين الجماعة الإخوانية، التي نشأت في آخر سني الحرب الباردة، وكانت من ثمارها، من استغلال خيبة أمل ما لا يُحصى من الفلسطينيين، الذين أغلق نظام الأبارتهايد طريق المستقبل أمامهم، في محاولة كانت مكشوفة دائماً لاختطاف القضية الوطنية، بما يخدم مصالح وحسابات تدل على تفوّق «الإسلام» و»مشروعه العظيم» على الأيديولوجيات والوطنيات العلمانية. ومن سوء الحظ، أن حسابات إسرائيلية، وخصوصيات سياسية واجتماعية وجغرافية جعلت قطاع غزة وسيلة إيضاح لهذا كله.
بمعنى أكثر مباشرة: في رفض القبول بمنطق حصر الكارثة بالجماعة الإخوانية، وفي استنطاق المسكوت عنه، ما يحول دون السقوط في لعبة لوم الضحايا، وما يحول دون اختزال كارثة إنسانية مُفزعة، تمثّل لحظة فارقة في تاريخ العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتقع مسؤوليتها على عاتق الإسرائيليين و»العرب» والأميركيين، والمجتمع الدولي (إذا كان ثمةَ من شيء كهذا). فاصل ونواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *