كيف خان أبناء السودان وطنهم

نبيل منصور
منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة كان الأمل معقودًا على أن يتجاوز السودان مرحلة الاستبداد الطويل ويبني دولته المدنية الديمقراطية التي حلم بها شعبه لعقود.. لكن ما حدث بعد ذلك وحتى لحظة اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 كشف عن تراجيديا سياسية وأخلاقية كبيرة تمثّلت في خيانة القوى الفاعلة لأهداف الثورة، وتغليب المصالح الشخصية والفئوية على المصلحة الوطنية.
هل الحرب كانت حتمية؟
أحد الأسئلة المحورية في هذا التحقيق ،، إذا لم يُشعل الكيزان الحرب هل كانت الإمارات والدعم السريع سيبادرون بها ؟
الإجابة الأقرب للواقع نعم ،، فالحرب لم تكن رد فعل مباشر علي خطوة مفاجئة بل جزء من خطة استراتيجية أعدّت مسبقًا بعناية .. الإمارات من خلال محمد دحلان وأجهزة استخباراتها كانت تعمل على تنفيذ مشروعها القائم على تفكيك الجيش الوطني السوداني وتأسيس نموذج “المليشيا الحاكمة”، وهو النموذج ذاته الذي نفذته في اليمن وليبيا .
تحركات الدعم السريع كانت تدل على نيّة مسبقة للصدام ،، التمركز داخل الخرطوم والتوسع العددي والحصول على أسلحة نوعية وأجهزة متطورة كمنظومة الإتصالات الحديثة التي سمح لها بامتلاكها دون الجيش وإنشاء ارتكازات قرب مواقع حساسة .
حتى لو لم تُطلق “الطلقة الأولى” من الكيزان، كانت هناك سيناريوهات جاهزة لافتعال الصدام ،،
حادث أمني مفبرك.
عملية اغتيال تُتهم بها جهة معينة.
تصعيد إعلامي ضد الجيش.
تبرير الصراع بأنه محاولة لحماية الانتقال المدني.
الاتفاق الإطاري ،، هل كان شرارة الحرب؟
الاتفاق الإطاري رغم نواقصه، تضمّن بنودًا واضحة لإصلاح المؤسسة العسكرية، ودمج الدعم السريع تحت مظلة جيش وطني واحد، وإنهاء التمكين في مؤسسات الدولة.
الكيزان شعروا بالخطر وإعتبروا الإتفاق تهديدًا وجوديًا لهم.
الدعم السريع وجد فيه فرصة لإضعاف الجيش وتحقيق طموحه في السلطة .
الحرية والتغيير رأت فيه وسيلة لتفكيك الدولة العميقة دون أن تتنبه لخطر الاعتماد على مليشيا طامعة في الحكم .
الإمارات رأت فيه لحظة مناسبة لتصفية الجيش وتثبيت حليفها (حميدتي) على قمة المشهد.
ماكينة التعبئة ضد الإتفاق عملت على تشويه كل من شارك فيه وركّزت على البرهان والدعم السريع لكن الحقيقة أن الحرب كانت نتيجة لتقاطع مصالح ومشاريع متعارضة ،، مشروع الإمارات،، مشروع الثورة،، مشروع الكيزان،، وطموح حميدتي الشخصي.
هل كانت مؤامرة بين البرهان وحميدتي؟
نعم وبدرجة كبيرة .. فبعد سقوط البشير شكّلت اللجنة الأمنية (البرهان، حميدتي، وآخرين) السلطة الفعلية وحاولت السيطرة على الإنتقال.
الثوار رفعوا شعارات واضحة ،، “العسكر للثكنات” و”الجنجويد يتحل” وهذا أصاب الطرفين بالخوف والذعر .
البرهان خشي على سلطته ومصير الجيش ومصير حلفاءه الكيزان .
حميدتي خاف على ثروته ومصيره الجنائي.
التنسيق بينهما بلغ ذروته في فض الاعتصام ثم في انقلاب 25 أكتوبر لكن عندما بدأت ترتيبات الدمج شعرت الإمارات وحليفها حميدتي أن الوقت ينفد فبدأت عملية التسليح والاستعداد للمواجهة.
كيف كانت الإمارات ستسيطر على السودان؟
في حال إنتصار الدعم السريع كانت الخطة كالتالي ،،
1. نموذج الدولة المليشياوية بلا مركز قوي ولا جيش وطني بل سلطة موزعة بين حميدتي والحركات المسلحة .
2. الاعتماد على الإدارات الأهلية والطرق الصوفية كغطاء إجتماعي.
3. الحركات المسلحة تصبح قوات رديفة.
4. اقتصاد ريعي قائم على الذهب والموارد دون رقابة مؤسسية .
5. الدعم الإعلامي الإماراتي لتضليل الرأي العام .
6. إضعاف القوى الثورية وشيطنة لجان المقاومة .
7. دعم روسي محتمل عبر أفريكا كور التي ورثت فاغنر .
كل ذلك كان يجري ضمن مشروع إقليمي لإضعاف السودان وتحويله لمنطقة نفوذ بدلاً من كونه دولة ذات سيادة.
أبناء عاقون
الجيش، الدعم السريع، الحركات المسلحة، الكيزان، بعض المدنيين داخل “قحت”، بل وحتى دول الإقليم… الجميع خان الثورة بطريقته.
خان البرهان الثورة حين تحالف مع الجنجويد ورفض الخضوع للمدنيين.
خان حميدتي الثورة حين قتل المعتصمين وحاول الإستيلاء على السلطة بالقوة.
خانت “قحت” الثورة حين راهنت على دعم مليشيا من أجل مكاسب سياسية .
خان الكيزان الوطن حين تحصّنوا داخل الجيش وأشعلوا الفتنة لحماية مصالحهم.
ولذلك، لم تكن الحرب سوى نتاج خيانة جماعية أبناء السودان من كل المعسكرات تخلّوا عن مشروع الوطن وارتموا في أحضان المشاريع الإقليمية والطموحات الذاتية .. هذه الحرب ليست قضاءً وقدرًا بل نتيجة مباشرة لخيانات موثّقة ومؤامرات مفضوحة ولا خلاص منها إلا بوعي جماهيري حقيقي يرفض إعادة تدوير النخب ويعيد بناء الدولة من القاعدة عبر لجان المقاومة والنقابات والتنظيمات الثورية الحقيقية .
فقد خانونا جميعًا لكن لا يجب أن نخون نحن أحلامنا.
٢٠ أبريل ٢٠٢٥
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة