غزة: أول الحرب وأخر الحل …!

أمد/ تحاول إسرائيل جاهدة إلى تحويل لطمة السابع من أكتوبر 2023، إلى فرصة تاريخية تمكنها من تحقيق الحلم الإسرائيلي الكبير في إعادة ترتيب الإقليم وفق الرؤية الإسرائيلية، وتحقيق تطلعاتها في قيادة الشرق الأوسط، وجعل الإقليم يدور في الفلك الإسرائيلي بما يحقق لها الهيمنة والسيطرة الكاملة على كافة دول الإقليم، ويمكنها من إزالة كافة التهديدات التي تواجهها في إطار سعيها لذلك الهدف، خصوصا مما كان يعرف بمحور الممانعة بقيادة إيران.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بن يامين نتنياهو قد أشار صراحة في عدة تصريحات إعلامية سابقة إلى تغيير وجه الشرق الأوسط، وهو ما نجح نسبيا في تحقيقه حتى الأن من خلال استهداف أذرع إيران في المنطقة، وخصوصا حزب الله على الحدود الشمالية والذي نجحت إسرائيل في توجيه صفعة قوية له، الأمر الذي أدى لتحجيم قوته ودوره على الساحة اللبنانية، ونجحت نسبيا في تأمين حدودها الشمالية عقب فرض الانسحاب على مقاتلي حزب الله إلى شمال الليطاني، وتفكيك سلاحه الثقيل في الجنوب اللبناني وتسليمه إلى الجيش اللبناني، كما نجحت في استغلال فرصة انهيار نظام الأسد في سوريا لتتمدد على الحساب السوري في الجولان وريف دمشق وتفرض منطقة عازلة على طول حدودها، تأمن بها مستوطنات الشمال الإسرائيلي.
تأملت إسرائيل مع تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، أن تنجح في إقناعه بتوجيه ضربة قاضية للبرنامج النووي الإيراني باعتباره العقبة الأساسية أمام الطموحات الإسرائيلية في التمدد داخل الإقليم واستكمال عقد اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية وخصوصا دول الخليج العربي، وفي المقدمة منها السعودية.
تصطدم الرؤية الإسرائيلية بالرؤية الأمريكية التي يقودها ترامب والقائمة في جوهرها على ركيزتين أساسيتين الأولى حفظ التوازنات داخل الإقليم كما كرسها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسجنر، في إحداث التوزان ما بين الحفاظ على إسرائيل من ناحية، وتلبية الحد الأدني للمطالب العربية من جهة أخرى.
أما الثانية فهي تطلعات ترامب نفسه والذي يرى في الاقتصاد مدخلا هاما لاستعادة الهيمنة الامريكية المطلقة على العالم باعتبار أن المعركة الأساسية هي مع الصين، ولتحقيق ذلك فأن المطلوب تحقيق الاستقرار في أماكن مختلفة من العالم وتحديدا في الشرق الأوسط وكذلك في الصراع الأوكراني الروسي، حيث أن النمو الاقتصادي يحتاج إلى بيئة مستقرة لكي ينجح في تحقيق رؤية ترامب لاستعادة البريق الأمريكي.
صحيح أن الصناعات العسكرية الأمريكية تتضخم بفعل الحروب، وتحقق أرباح مأهولة، إلا أن الصناعات التقليدية الأمريكية تتأثر بالسلب نتيجة تلك الصراعات، وبما أن ترامب في أصله هو رجل اقتصاد تقليدي يحتاج لإستقرار سياسي عالمي لنجاح سياساته الاقتصادية الرامية لتحقيق رؤيته في استعادة أمريكا لهيبتها وتفردها في العالم.
من هنا يأتي ذلك الاصطدام الإسرائيلي الأمريكي في الرؤية نحو حرب غزة، والتي تريد إسرائيل إطالة أمدها لسببين يتمثل الأول في حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالمنظور الإسرائيلي من خلال استهداف الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين، باعتبار لك الوجود هو المعضلة الأساسية أمام إسرائيل في حسم الصراع بشكل نهائي، وكانت السياسات الإسرائيلية المتتالية قد حاولت في مرات سابقة لحسم الصراع من خلال إخفاء الفلسطينيين في جيوب منفصلة وغير متصلة، ومن خلال فرض قانون يهودية الدولة، إلا أنها لم تنجح في حسم الصراع.
لذلك توجهت إسرائيل نحو الحل الأمثل في حسم الصراع، من خلال فرض التهجير القسري على الفلسطينيين، وهو الحل الذي يمكنها باعتبارها نظاماً استعمارياً احلالياً من الاستقرار وعدم الانهيار أمام التوزان الديمغرافي للكتلة الفلسطينية على أرض فلسطين التاريخية في الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، وأراضي 1948.
حاولت إسرائيل ولا تزال توظيف أحداث السابع من أكتوبر، كذريعة لتسهيل عمليات التهجير القسري وجعله مقبولا، من خلال فرض وقائع إنسانية كارثية في حياة الفلسطيني تجبره على التوجه نحو خيار الهجرة الطوعي بحثا عن حياة كريمة، الأمر الذي تفسره الإبادة الممنهجة إسرائيليا في قطاع غزة والتي هدفت إلى نقل التفكير في الهجرة في العقل الفلسطيني باعتبارها واحدة من المحرمات الفلسطينية، إلى فكرة قابلة للنقاش والتنفيذ، وبذلك تكون قد عملت على تهيئة الكل الفلسطيني والعربي بشكل أو بأخر لقبول الفكرة والبحث عن حل لها.
تدلل تصريحات نتنياهو المتكررة عن حصار قطاع غزة، وضرورة إخراج سكانه من السجن الكبير، دون أن يعترف بدوره وبسياساته في تحويل غزة لسجن كبير وحصار سكانها، على محاولته الجادة لنقل المسئولية عن الحياة البائسة في قطاع غزة من إسرائيل إلى الدول العربية التي ترفض تسهيل خروج الفلسطينيين من القطاع، وتحديدا جمهورية مصر العربية التي اعتبرت منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية أن مسألة تهجير الغزيين لسيناء مساس بالأمن القومي المصري ويهدد بنسف اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل.
تفاءل نتنياهو كثيرا مع مقترح الرئيس الأمريكي لمستقبل غزة وتحويلها إلى ريفيرا الشرق الأوسط، والذي يتطلب تهجير سكانها لإعادة إعمارها من جديد وفق تصور ترامب، وهو ما يتفق تماما مع رؤية اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل.
إلا أن هذا التفاؤل اصطدم من جديد بفتح الإدارة الامريكية الجديدة مباحثات غير مباشرة مع إيران في العاصمة العمانية مسقط، حيث تسعى إدارة ترامب إلى إعادة ترتيب الإقليم بما يمهد الطريق لسياسات ترامب الاقتصادية في السيطرة على العالم، ويفسح له المجال في معركته الاقتصادية مع الصين.
يحتاج ترامب لتمرير رؤيته الاقتصادية للاستناد على المال السعودي، في زيارته المرتقبة للمنطقة في مايو المقبل، ولكي يحصل على الدعم المالي السعودي اللازم، فأنه بحاجة أن يقدم للسعودية العربية ما ترغب به من دور إقليمي يمكنها من قيادة النظام العربي الرسمي، خصوصا بعد سقوط بغداد ودمشق، وانحسار دور القاهرة بفعل الأزمات الاقتصادية.
تذكرة وصول السعودية لقيادة النظام العربي الرسمي تتمثل في نجاحها بتمكين الفلسطينيين من النجاح في الوصول إلى حقوقهم في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفقا لقرارات الشرعية الدولية، علما بأن السعودية تقود تحالفا دوليا يتكون من 66 دولة من أجل حل الدولتين، كما أنها ترفض خطة التهجير الإسرائيلي، وتعتبرها عقبة كبيرة أمام أي اتفاق تطبيعي مع إسرائيل.
تدرك الإدارة الأمريكية الحالية جيدا حجم التعارضات والتناقضات في المواقف والرؤى، إلا أنها تعمل في نهاية المطاف وفق المصالح والطموحات الأمريكية، وإن كانت تلك المصالح والطموحات تأخذ بعين الاعتبار المصالح والتطلعات الإسرائيلية، إلا انها لا تستطيع أن تتماهي معها كليا، ولذلك هي بحاجة لخلق حالة من التوازنات بينها.
لذلك فأن الترتيب الإقليمي بالمنظور الأمريكي هو الذي سيفضي في نهاية الأمر إلى إنهاء الصراع المشتعل في الشرق الأوسط، ويهذب كثيرا من العنجيهة الإسرائيلية في فرض رؤيتها وهيمنتها على الإقليم بما يضر في نهاية المطاف بالمصالح الأمريكية.
لذلك فإن نجاح المباحثات الأمريكية الإيرانية الغير مباشرة الأن، ومن ثم الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي للسعودية في مايو القادم، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية مصر ودورها المحوري في الشرق الأوسط، سيجعل من الترتيب الإقليمي الجديد بداية لتفكيك الصراع، وهو ما يعني أن غزة وإن كانت أول الحرب، فإنها ستكون أخر الحل، أو نهايته بما يتوج إدارة ترامب في النجاح لفرض رؤيتها والتفرغ للمعركة الاقتصادية الكبرى مع الصين.