اخر الاخبار

لبنان والعبور من حافة الانقسام: نحو جمهورية واحدة وجيش واحد

أمد/ خمسة عقود على اندلاع الحرب الأهلية، ولبنان ما يزال يتلوى تحت رمادها الساخن. لم تهدأ نيران الذاكرة، ولم تتأسس دولة قوية تُلملم شظايا الطوائف، ولم يُطوَ بعد ملف السلاح الخارج عن سيطرة الشرعية. اليوم، يقف لبنان من جديد على شفا هاوية: بين ازدواجية عسكرية تُقوّض السيادة وتُغذّي الشكوك، وبين فرصة نادرة، وإن ضئيلة، لبناء مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار إلى الدولة كضامن للسلم الأهلي والمواطنة المتساوية.

في قلب هذه المعادلة المستعصية، يقف حزب الله. ليس كجماعة مسلحة فحسب، بل ككيان متكامل له أذرعه العسكرية والسياسية والاجتماعية، له جمهوره وشبكاته، له سرده وله شرعيته داخل بيئة مهمّشة تاريخيًا. هذا الكيان، بكل ما يحمله من تناقضات وأحمال، لا يمكن ببساطة تفكيكه بشعارات نزع السلاح أو بضغط خارجي لا يأخذ بعين الاعتبار هشاشة التوازنات الداخلية، ولا يخاطب مخاوف الطائفة الشيعية وسردياتها التاريخية عن الحرمان والإقصاء.

بين تفكيك السلاح وتفكيك الدولة

لطالما طُرحت معادلة “سلاح حزب الله أو الدولة”، وكأن المطلوب الاختيار بين الاثنين في لحظة حاسمة. غير أن الواقع أكثر تعقيدًا، والمقاربة الثنائية هذه لم تنتج إلا مزيدًا من الشلل. فالسلاح في ذاته ليس جوهر الأزمة، بل هو عرضٌ من أعراض غياب الدولة القوية العادلة. دولة غابت فحلّت محلها بنى رديفة، ملأت فراغها، وراكمت شرعية اجتماعية تتجاوز الخطاب السياسي التقليدي.

وإن كان سلاح الحزب يشكّل تهديدًا على سيادة الدولة، فإن القفز إلى نزع هذا السلاح بالقوة أو بالإنذارات الخارجية لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام وربما الاحتراب. الإصلاح لا يكون بالسيف بل بالحوار، لا بالإنكار بل بالاعتراف، لا بالإقصاء بل بالاحتواء. فلبنان لا يُبنى إلا بتوازن دقيق بين الحقوق والهويات، وبين مقتضيات السيادة وأسس العدالة الاجتماعية.

خارطة طريق نحو التحول: من السلاح إلى الشراكة

المقترح السياسي الجديد لا يقدم وصفة جاهزة، ولا يبشّر بانقلاب جذري، بل يرسم خارطة طريق طويلة المدى، واقعية ومنظّمة، تقوم على ركيزتين متلازمتين:

أولًا، تكامل القدرات العسكرية لحزب الله داخل الدولة، من خلال اندماج تدريجي ومدروس في القوات المسلحة اللبنانية، بإشراف ومواكبة دولية. هذا الاندماج لا يُقصد به تذويب الحزب أو تفكيكه، بل إعادة توجيه دوره العسكري نحو مظلة وطنية شرعية، في إطار استراتيجية دفاعية لبنانية شاملة، تكون الدولة فيها صاحبة القرار الوحيد في الحرب والسلم.

ثانيًا، دمج الشبكات الاجتماعية والخدماتية للحزب في مؤسسات الدولة، ضمن إصلاح مؤسسي واسع يُعيد للدولة فعاليتها في الرعاية والتعليم والصحة والعدالة. فالتكامل الأمني لن يكتمل ما لم يصحبه إصلاح اقتصادي واجتماعي شامل، يُنهي التهميش ويعيد بناء الثقة بين المواطنين والدولة.

المصالحة كمدخل للتحول

لا يمكن لهذا التحول أن يتم من دون مصالحة وطنية حقيقية، تعترف بمظالم الماضي، وتبني سردية جديدة للمستقبل. مصالحة تُطمئن الطائفة الشيعية أن اندماج حزبها في الدولة لا يعني تهميشها أو تجريدها من عناصر الحماية، بل يُعدّ خطوة نحو مواطنة كاملة متساوية. مصالحة تعترف أيضًا أن الدولة الحالية مصابة بالشلل لا فقط بسبب سلاح حزب الله، بل بسبب منظومة مالية وسياسية نخبوية اختطفت مقدراتها وسرقت مستقبلها.

في هذا السياق، لا بد من إعادة هيكلة النظام المصرفي المنهار، وإنهاء زواج السلطة والمال الذي دمّر الثقة وأفرغ الدولة من مضمونها. لا يمكن بناء دولة فعلية من دون مواجهة الأوليغارشية التي تحكم باسـم الطائفة وتنهب باسم الدولة.

الفرصة الأخيرة: لحظة تحوّل أو نكسة جديدة

الزمن ليس مفتوحًا. اللحظة الإقليمية نادرة، وربما لا تتكرر. انهيار النظام السوري، تحولات الموقف الإيراني، الانسداد الإسرائيلي الداخلي، انتخاب رئيس إصلاحي في لبنان، كلّها عناصر تهيّئ المسرح لخطوة جريئة، تاريخية. لا أحد ينتظر المعجزات، لكن البناء الصبور والمثابر ممكن. وما هو مطروح ليس خطة مثالية، بل خيار عقلاني وسط ركام الفوضى.

لبنان اليوم لا يحتاج إلى شعارات نارية ولا إلى شتائم ضد “الدويلة”، بل يحتاج إلى شجاعة سياسية، وواقعية وطنية، وقرارات قاسية تُعيد الاعتبار إلى الدولة، لا بإلغاء الآخرين، بل بإشراكهم ضمن عقد اجتماعي جديد.

إنها ليست نهاية الطريق، بل بدايته. إما أن نغتنم الفرصة، أو نستعد لمزيد من التفكك والانهيار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *