اخبار السودان

الاستخبارات كأداة استراتيجية نحو فهم مُعقَّد للعمل الأمني الدولي

زهير عثمان حمد

 

*من الرصد إلى التشكيل كيف أعادت التكنولوجيا والأخلاق صياغة قواعد اللعبة؟ .

في عالم لم يعد يُقاس فيه التهديد بعدد الدبابات أو طول الحدود، بل بحجم البيانات، وسرعة انتشار الفيروسات، ودقة السيناريوهات الافتراضية، تحولت الاستخبارات من نشاط سري تقليدي إلى فلسفة أمنية شاملة.

لم تعد الأجهزة الأمنية تكتفي برد الفعل تجاه خصوم ظاهرين، بل باتت تخلق أعداء افتراضيين في الفضاء السيبراني، وتتنبأ بأزمات صحية قبل أن تظهر، وتعيد صياغة مفهوم “السيادة” في عصر تتداخل فيه القوة الناعمة بالحرب الهجينة.

التكنولوجيا هنا لم تعد مجرد أدوات، بل باتت هي نفسها ساحة المعركة ومصدر التهديد. الذكاء الاصطناعي، مثلًا، لم يكتف بتحليل البيانات الضخمة كما في مشروع “بالانتير” الأميركي الذي يتنبأ بتحركات إرهابية عبر خوارزميات التعلم الآلي

بل أطلق إمكانيات جديدة لحروب غير مألوفة. أوكرانيا اعتمدت في 2022م على الاستخبارات المفتوحة لتتبع تحركات الجيش الروسي باستخدام صور الأقمار الصناعية المتاحة للعموم، فيما لجأت روسيا إلى تقنيات التزييف العميق لبث خطابات مزيفة لقادة أوكرانيين بهدف زعزعة الثقة.

 

الأمر لا يتوقف عند السايبر، فالصين، مثلًا، تعيد رسم مشهد الاستخبارات البيئية عبر رصد الانبعاثات الكربونية من خلال أقمارها الصناعية، بينما تطور إسرائيل أنظمة استخباراتية قائمة على الحوسبة الكمية لفك تشفير اتصالات خصومها.

لكن هذا التقدم يفتح الباب أمام أسئلة وجودية : من يملك الفضاء الإلكتروني؟ وما مصير السيادة الوطنية حين تُخترق الحدود افتراضيًا دون أن تطأها أقدام جندي؟

وعندما تفشل الأجهزة الاستخباراتية، لا يكون ذلك مجرد خطأ في التقدير، بل تعبيرًا عن أزمة بنيوية في التفكير. تقرير لجنة 11 سبتمبر وصف الفشل الأميركي بأنه “انهيار في الخيال الاستراتيجي”، حيث تم تجاهل تحذيرات العملاء الميدانيين

لأنها لا تتماشى مع الرواية الرسمية عن العدو. على النقيض، تمكنت الاستخبارات الأوكرانية من التنبؤ بالغزو الروسي بدمج مصادر غير تقليدية مثل تحليل المشتريات الطبية للجيش الروسي، وهو ما يؤكد أن الخروج من أسر البيروقراطية

قد يكون المفتاح لإعادة الفاعلية.

 

الاتجاه الجديد الذي بدأت بعض الأجهزة الأمنية تتبناه هو “الاستباقية الإبداعية”، وذلك من خلال مناهج الاستشراف الاستراتيجي التي تعيد تركيب مشاهد المستقبل قبل وقوعها. مثال ذلك دراسات “مركز راند” حول الذكاء الاصطناعي وتداعياته على الأمن القومي، والتي تسعى إلى خلق وعي استباقي بمسارات التهديد لا ينتظر وقوع الحدث بل يصنع التفاعل قبله.

 

لكن هذه القفزات التكنولوجية تصطدم بجدار الأخلاقيات. فالسلطة الاستخباراتية باتت أحيانًا تتجاوز الحكومات ذاتها. فضيحة “بيغاسوس” كشفت كيف تحوّلت أدوات المراقبة إلى سلاح ضد الصحفيين والنشطاء من قِبل كل الأنظمة .

وفي الصين، أصبح نظام “الائتمان الاجتماعي” منظومة استخباراتية تقيم المواطنين وفقًا لسلوكهم وولائهم، مما يجعل الحياة اليومية عرضة للفرز السياسي.

 

وفي مقابل هذا التوحش الرقمي، ظهرت مقاومات من المجتمع المدني كما في تايوان، حيث طوّر نشطاء منصة “vTaiwan” لرصد محاولات القرصنة الصينية، واستخدموا الشفافية كوسيلة دفاعية. هذا التفاعل يطرح سؤالًا أساسيًا:

هل يمكن بناء استخبارات ديمقراطية تحقق الأمن دون أن تجهز على الحريات؟ .

 

العالم العربي، من جهته، ما زال متأخرًا عن ركب التحولات العالمية في هذا المجال. رغم التحديات الأمنية المتزايدة، من الإرهاب إلى الأزمات المائية، إلا أن معظم أجهزة الاستخبارات في المنطقة لا تزال تقليدية الطابع، موجهة في

الغالب لقمع الداخل بدل استشراف الأخطار. بعض الاستثناءات موجودة، كالمركز السعودي للأمن السيبراني الذي تصدى لهجمات إلكترونية واسعة، أو التعاون المغربيالأوروبي في رصد شبكات الهجرة غير الشرعية، لكن غياب الأطر القانونية والرقابة البرلمانية يجعل هذه الجهود جزئية وهشة.

 

أضف إلى ذلك أن معظم الأنظمة العربية تعتمد على شركات أجنبية متخصصة في الاستخبارات الرقمية مثل “هاكينغ تيم”، بدل بناء منصات تكنولوجية محلية، مما يعرض بيانات المواطنين ومصالح الدول للخطر ويزيد من التبعية الرقمية.

بناء استخبارات عربية ذكية يتطلب تشريعات واضحة، واستثمارات في التعليم والبحث، وتحولًا ثقافيًا يربط الأمن بالمعرفة لا بالقمع.

 

ولا تقتصر الاستخبارات الحديثة على تتبع الأعداء أو إدارة المعارك، بل أصبحت أداة مركزية في الصراعات الاقتصادية. من اتهام الولايات المتحدة للصين بسرقة أسرار شركة “هواوي”، إلى استخدام فرنسا لجهاز استخباراتها الخارجية للتجسس على صفقات أفريقية لصالح شركة “توتال”، إلى مراقبة إسرائيل لاحتياطات الغاز في البحر المتوسط، وصولًا إلى استخدام تركيا للطائرات المسيّرة لرصد الأراضي الزراعية في أفريقيا باتت الاستخبارات سلاحًا غير معلن في معركة السيطرة على الموارد.

 

ومع صعود الفاعلين من غير الدول، مثل “بلاك ووتر” الأميركية أو “فاغنر” الروسية، أصبح من الصعب فصل الاستخبارات عن السوق، والمعلومات عن المصالح الرأسمالية. كيف نميز بين الأمن القومي والمكاسب التجارية في عالم تسيل فيه المعلومات كما تسيل الدماء؟ .

 

في السنوات الأخيرة، تجاوزت الاستخبارات حدود التنبؤ بالمستقبل إلى محاولة صنعه. منظمة الصحة العالمية، مثلًا، استعانت خلال جائحة كوفيد19 بمعلومات استخباراتية من الوكالة الطبية البريطانية لتتبع تحورات الفيروس، فيما تعمل “داربا” الأميركية

على تطوير نظم قادرة على محاكاة تفشي الأوبئة والتدخل قبل وقوعها.

 

ومع تزايد التهديدات الوجودية، من التغير المناخي إلى الذكاء الاصطناعي غير المُسيطر عليه، تبرز الحاجة إلى استخبارات لا تكتفي بالرد، بل تفكر في البقاء.

وإذ قد تصبح الحروب المستقبلية خوارزميات تُدار من غرف البيانات، لا جبهات مشتعلة والمصير البشري نفسه قد يكون على المحك.

 

في النهاية، لم يعد السؤال المركزي هو “كيف نجمع المعلومات؟”، بل “لماذا نحتاجها؟”. في عصرٍ تحكمه البيانات وتُعاد فيه صياغة مفاهيم مثل الدولة والسيادة والخطر، لا بد من عقد اجتماعي جديد يُوازن بين الشفافية والأمن، وبين الخصوصية والمصلحة العامة .

ربما يكون الطريق نحو استخبارات إنسانية هو تحويل هذا المجال من “فن الحرب” إلى “علم البقاء”، حيث تصبح حماية الإنسان لا فقط الدولة هي الهدف الأعلى.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *