اخر الاخبار

ظاهرة التسول : آفة إجتماعية تنخر جسد المجتمع التونسي..فهل آن الأوان لمعالجتها والحد من استفحالها.. ؟!

أمد/ ظاهرة التسوّل من الظواهر الاجتماعية التي تفشّت في السنوات الأخيرة بشكل كبير في مجتمعنا،وباتت تمثّل هاجسا كبيرا للدولة وللمجتمع،  فاليوم لا تكاد تخلو شوارع المدن التونسية ومختلف أماكنها العامة من انتشار المتسوّلين بمختلف شرائحهم العمرية،  ومن الجنسين.

إن لإنتشار هذه الظاهرة أسبابا تعود بالأساس إلى الفقر والحاجة إلى الموارد الماليّة،فالمتسوّل يطلب المال متنقلا بين مختلف الأماكن التي تكتظ بالنّاس.

في هذا السياق،أكّد لنا مصدر مسؤول بوزارة الشؤون الإجتماعية كنا اتصلنا به عبر الهاتف (طلب منا عدم ذكر إسمه) أن ظاهرة التسوّل استفحلت في تونس، وأصبحت تمثل خطرا على الفرد وعلى المجتمع، مشيرا إلى أن القانون مقصّر ولا يجرّم هذا السلوك ولا يتعامل معه بالردع اللازم.

وأشارمحدثيإلى أن وزارة الشؤون الاجتماعية تسعى دوما إلى معالجة هذه الظاهرة واحتواء هؤلاء المتسولين،في ظلّ مقاومتها لمظاهر الفقر والتهميش بمختلف الآليات.

في السياق ذاته،يرى أخصائيو علم الإجتماع أن ظاهرة التسول، هي مظهر من مظاهر الفساد الإجتماعي ونتيجة طبيعية للإخلالات التي تصيب التوازنات الإقتصادية والإجتماعية ويعتبر أهل الإختصاص أن هذه الظاهرة تزداد خطورة عندما يقع توظيفها في مجالات أوسع وأخطر في صلب تشكيلات وتنظيمات وعصابات منظمة تعمل في مجال المخدرات والسرقة ورصد تحركات وتنقلات أصحاب المحلات والمنازل مستغلين في ذلك المراهقين والأحداث ممن أقصوا مبكرا من الدراسة لأسباب اقتصادية واجتماعية أو لقصور في دور المؤسسة التربوية مما يجعل من التسول حاضنا لكل الظواهر الإجتماعية السلبية من عنف وغضب اجتماعي وجريمة منظمة، فما نعيشه اليوم إنما هو في الأصل نتيجة لإختلال اقتصادي وثقافي وتربوي يستوجب اصلاحا جذريا لعديد المناهج والمنظومات وإعادة النظر في منوال التنمية والتوزيع العادل للثروات.

واعتبر أحد المختصين والمتكونين في جرائم الإتجار بالبشر أن ظاهرة التسول باستغلال القصر لا يجب أن ننظر إليها من زاوية  التسول والحاجة، وإنما اعتبارها جريمة موصوفة ومكتملة الأركان في استغلال البشر،ورأى أنه للقضاء على ظاهرة التسول بإستغلال الأطفال أو الرضع لابد أولا من الإشعار المحمول على كل مواطن، وعلى كل من له علاقة بالطفل( مربون، أطباء..) يرون طفلا مهددا ليتدخل بذلك قاضي الأسرة ويتم بإذن منه استدعاء الولي الذي يثبت تورطه في توظيف طفله في التسول وإلزامه بقوة القانون على التوقيع على تعهد بعدم عرض منظوره للخطر مجددا أو إرغامه أو تشريكه في التسول، وفي صورة عدم الإلتزام يقع تتبع الولي قضائيا وإيواء الطفل بأحد مراكز حماية الطفولة،ورأى محدثنا أن الحرص على تفعيل قانون 2016 كفيل بالحد من تنامي ظاهرة التسول والإتجار بالبشر غير أن ضعف الجهاز التنفيذي من ناحية أولى ونقص تكوين بعض القضاة في مجال الإتجار بالبشر يجعل عددا منهم لا يكيفون الواقعة بالشكل المستوجب رغم وضوح معالمها في أنها جريمة اتجار بالبشر مما يجعل عددا من المتورطين يفلتون من العقاب ويتمادون في استغلال الطفولة وتوظيفها.

أماكن التسوّل بجهة تطاوين:

يتنقّل المتسوّل بهذه الربوع الشامخة(تطاوين) التي عرف أهلها بدماثة الأخلاق فضلا عن الكرم والأخذ بيد المحتاج من مكان إلى آخر، ويتخيّر أماكنه بدقة، وينوّعها من أجل توفير أكثر ما يمكن من المال، ومن ضمن الأماكن التي يعتمد عليها المتسوّل المساجد والمستشفيات والأسواق المكتظة بالحرفاء..إلخ كل هذه الفضاءات توفّر له ما يطلبه من شفقة وتعاطف..

ومن هنا،فإنّ استدرار عطف الناس ومحاولة الإستحواذ على مشاعرهم من بين الأهداف الرئيسية للمتسول لإكتساب ودهم ومن ثمّ نقودهم،قاعدة ينتهجها كافة المتسولين “لمحترفين” والهواة”،  وكلما زادت حاجة المتسولين للمال طوّر هؤلاء أساليب استجلابه، وكحالة ميدانية أضحى التسول ظاهرة مقلقة بشوارع البلاد التونسية بشكل عام انعكست سلبيا على كافة مناحي الحياة.

 هذا،وأكّد لي أخصائي في علم الإجتماع أن التسول أصبح “ظاهرة مرضية” بالمجتمع التونسي، موضحا “إذا قلنا إنها ظاهرة اجتماعية فهذا لا يحدّد بالدقة اللازمة هذه الظاهرة، بل أضحى التسول مرضا اجتماعيا يجب البحث في أسبابه التي قد تكون كامنة في الثقافة التونسية”.

والخطير،وفق محدثي،أن هذه الظاهرة تمسّ جميع الفئات العمرية، حيث تجد أطفالا صغارا وشبابا وكهولا وشيوخا ونساء ورجالا.

وظاهرة التسول في تونس،حسبمحدثي الأخصائي في علم الإجتماعأصبحت معضلة اجتماعية حقيقية “رغم أن امتهانها يحط ّمن كرامة الإنسان،وهي جريمة يعاقب عليها القانون”.مضيفا”نعتبر هذه الظاهرة وصمة عار على جبين مؤسساتنا الرسمية والمجتمعية،وفي طليعتها الحكومة بكل مرافقها الاجتماعية..”

وينفيمحدثيأن تكون الأسباب ناتجة عن الفقر،رغم أن هناك من يوجد في وضعية اجتماعية صعبة لكن هذا لا يفسر نهائيا ظاهرة التسول،مؤكدا أن الذين هم في أمسّ الحاجة للمساعدة يتعفّفون،أمّا النسبة الكبيرة من المتسولين في الفضاءات العمومية لا تستحق المساعدة والصدقة، نافيا أن تكون الأسباب ناتجة عن الفقر، رغم أن هناك من يوجد في وضعية اجتماعية صعبة لكن هذا لا يفسر نهائيا ظاهرة التسول، مؤكدا أن الذين هم في أمسّ الحاجة للمساعدة يتعفّفون، أمّا النسبة الكبيرة من المتسولين في الفضاءات العمومية لا تستحق المساعدة والصدقة.

ويكمُن الحلّ الأمثل للحد من ظاهرة التسول حسبما يرىالأخصائي في علم النفس الإجتماعي جمال.س،في إعادة الإعتبار للمدرسة العمومية،واستعادة مكانتها لتربية أجيال على العفّة والكرامة والعمل الجادّ وتعليمها أن مدّ اليد عيب، مضيفا”لا بد من ترسيخ المسجد كمؤسسة تنشئة اجتماعية ما دمنا دولة مسلمة، إذ لا بد من ربط المقوّمات الدينية والحضارية مع التحوّلات التي تقع في المجتمع، وتمرير خطابات تحث التونسيين على ترك أسلوب التسول الذي ينتقص من كرامتهم..”.

من جهته يقول لي ح.ب وهو تاجر بجهة تطاوين(طلب منا عدم ذكر إسمه)“سنوات طوال وأنا أشتغل بهذا المحل التجاري لا يمكن أن يمر يوم دون أن يأتيني متسول طالبا صدقة أو كي استبدل له قطعا نقدية معدنية بفئات ورقية، ومع مرور الزمن أصبحت أميّز بين المتسول الحقيقي والمزيّف.وأعرف عددا من النساء والرجال يملكون أموالا كثيرة جنوها من مهنة التسول..”

مقيمون بتطاوين منذ مدة ليست بالقصيرة، لاجئون سوريون هربوا من جحيم الحرب والقتل والتنكيل والذبح والموت المجاني الذي يتربّص بهم في كل مدينة وفي كل شبر من وطنهم السليب والمستلَب..

متسللون عبر الحدود الليبية أو الجزائرية..بعضهم هارب من مليشيات “الرايات السوداء” ومن عصابات المتاجرة بالدم والأرواح والأسلحة في ليبيا،تكّبدوا الأهوال ليبلغوا الأراضي التونسية التي دخلها البعض خلسة، في حين انقطعت السبل بالآخرين وعلقوا على الحدود دون أن يعلم أحد علم اليقين ماذا حلّ بهم وبعائلاتهم وأطفالهم..

توجهنا إلى وسط مدينة تطاوين،فشدّت انتباهنا تلك النسوة اللواتي اخترن كل واحدة منهن زاوية أو موقعا خاصة بها،وبمجرد مرورك على إحداهن تطلب منك المساعدة والتصدق عليها، وما يثير الانتباه هو أن جميعهن سوريات من مختلف الأعمار.(مع تقديرنا للشعب السوري الشقيق رجالا ونساء)

حاولت التقرّب من إحداهن،إلا أنّها لم تتجاوب منذ الوهلة الأولى وأبدت تحفظا وتخوفا كبيرين مثل باقي النساء الأخريات،وبعد محاولات عديدة تمكّنت من التواصل معها وإقناعها بالحديث معي، وعند سؤالي لها عن سبب تخوفّها قالت «لا أريد إثارة الحساسية،كما أن عائلتي دائما ما توصيني بعدم الدخول في أي نقاش مع أي كان..»

وهنا أشير إلى أنّ أحد الأئمةبجهة تطاوينأكّد لي أنّ التسوّل لا يجوز شرعا،بما في ذلك تسوّل اللاجئين السوريّين بتونس، داعيا الحكومة إلى فرض عقوبات صارمة في حق المستغلين لوضعية الإخوة السوريّين.واعتبرمحدثيظاهرة تسوّل السوريّين الموجودين بتونس أمرا لا يجب أن يكون في دولة مسلمة، بإعتبار أن الدين واللغة المشتركة بين البلدين تدعو إلى التآخي والتعاون، داعيا الحكومة إلى العمل على حفظ وصون كرامة السوريّين وعرضهم، بما أن هناك فتيات سوريات تقفن على حافة الطرقات للتسول، ما يجعلهن عرضة للتحرش والإبتزاز، مبيّنا أن هناك من يريد المتاجرة بهذه الوضعية التي يعاني منها السوريّون جراء الحرب الأهلية التي عصفت ببلادهم، من أجل تحقيق أرباح على حساب كرامة الشعب السوري، مضيفا في الوقت ذاته أن الحكومة مطالبة بالعمل قصد الحد من هذه الظاهرة التي تفاقمت بشكل كبير، خصوصا أمام المساجد والطرقات، كما طالب التجار التونسيين الكبار ورجال الأعمال..هنا..أو هناك بالمساهمة في إعانة السوريّين..

وكانت تونس قد باشرت برنامجًا لمكافحة كل أشكال التسول منذ عام 2000* قامت من خلاله بتوفير وحدات تتكون من أخصائيين اجتماعيين وأعوان أمن لمراقبة الشوارع والفضاءات العامة، وأطلقت خدمات اجتماعية تتيح تمكين المتسولين من موارد رزق قارة ومساعدات في السكن ودعم مالي مباشر، بيدَ أن البرنامج توقف خلال الثورة التونسية، ممّا رفع من أعداد المتسولين.

ويمنع الفصل 171 من القانون الجنائي التونسي التسول،وينصّ على عقوبات تصل إلى ستة أشهر لكل من يتحايل على الناس ويكذب عليهم كي يحصل على الصدقة،وترتفع العقوبة إلى عام كامل إذا كان المتسوّل يستغل طفلًا للتأثير على المارة.

ولنا عودة إلى هذا الموضوع الشائك (تفاقم ظاهرة التسوّل ببلادنا) عبر مقاربة مستفيضة..

*إلى غاية سنة 2011 كان التعامل الرسمي مع المتسولين يعتمد على تنفيذ حملات شبه يومية مع التعهد اجتماعيا مع كبار السن والنساء مما يمكن من تقليص الظاهرة دون اجتثاثها لأن البقية يعيدون الإنتشار دون خوف خاصة بالنسبة للشركات المنظمة التي تعتمد على الهاتف الجوال لتنسيق تحركاتها واتقاء عيون المراقبين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *