مؤسسات الحكامة بين الموقع المؤسساتي وتحدي تدبير الاستقلالية

شهدت الساحة المجتمعية المغربية في الآونة الأخيرة دينامية متجددة على صعيد مؤسسات الحكامة، وذلك على خلفية التعيينات الملكية الجديدة التي طالت رئاسة كل من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الوسيط، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
ومن المفترض أن تُعزز هذه الدينامية الزخم الذي راكمته مؤسسات الحكامة خلال السنوات الأخيرة، بالنظر إلى الأهمية التي تكتسيها تقاريرها التقييمية، والتي تُعد مرجعًا أساسيًا في تشخيص السياسات العمومية.
هيئات الحكامة في مرمى السجال السياسي
في هذا السياق، لا يمكن قراءة التعيينات الأخيرة في هذه المؤسسات الدستورية بمعزل عن المناخ العام الذي طبع علاقة الحكومة ببعض هذه الهيئات. فالسجالات العلنية التي اندلعت أخذت طابعًا هجوميًا في بعض الأحيان، عكست ميلًا مقلقًا نحو التشكيك في أدوار مؤسسات من المفترض أن تكون محصنة من منطق التجاذب السياسي. فالعلاقة التي يُفترض أن تكون تكاملية بين بعضها وبين الحكومة، استبدلت أحيانًا بسجالات مشحونة ونفي رسمي للمعطيات.
فرئيس الحكومة لم يتردد في التشكيك في مضامين تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي رصد وجود 4.3 ملايين شاب مغربي لا يشتغلون، وليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين، بقوله قبل حوالي سنة أمام مجلس المستشارين: “أتمنى أن تكون ظرفية طرح هذا التقرير عادية صدفة بالتزامن مع تقديم الحصيلة المرحلية للحكومة، وإلا سيكون ذلك إشكالية تطرح في المؤسسات الدستورية”. وفي أكتوبر الماضي، رد مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي باسم الحكومة، بحدة على تصريحات الرئيس السابق للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، إذ رفض “المزايدة على الحكومة في شأن محاربة الفساد”، مطالبا الهيئة بكشف ما قامت به للاضطلاع بأدوارها المنصوص عليها في الدستور.
وبعدهما جاء الدور على محمد أوجار، القيادي في حزب “التجمع الوطني للأحرار”، الذي انتقد سيطرة ما وصفه “تيار واحد” على رئاسة معظم مؤسسات الحكامة، في إشارة إلى حزب الاتحاد الاشتراكي.
هذا التوتر في التعاطي الحكومي مع مؤسسات الحكامة، تزامن مع تأويلات سياسية طالت خلفيات بعض التغييرات في رئاسة هذه المؤسسات، حيث جرى ربطها برغبات ضمنية لرئيس الحكومة في إبعاد بعض الأسماء التي لم تكن على توافق تام مع اختياراته. ورغم أن هذه التأويلات تظل غير مؤكدة وتفتقر للمعطيات الدقيقة، إلا أن المناخ العام ساهم في إذكاء الشكوك. ويمكن القول إن هذا التوتر ليس بالضرورة ناتجًا عن نوايا مبيتة، بل أحيانًا عن غياب آليات مؤسساتية للحوار.
ولفهم خلفيات هذا التوتر، لا بد من العودة إلى المرجعية الدستورية التي تُحدد موقع مؤسسات الحكامة وطبيعة أدوارها.
استقلالية دستورية ومكانة مركزية
منح دستور 2011 لمؤسسات الحكامة مكانة مركزية في البناء المؤسساتي المغربي، باعتبارها ركيزة أساسية لترسيخ مبادئ الشفافية، النزاهة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وقد أفرد لها الباب الثاني عشر من الدستور تحت عنوان “الحكامة الجيدة”. ويعد هذا التنصيص تعبيرًا صريحًا عن إرادة دستورية لإحداث توازن بين السلط، وتقوية دور الهيئات المستقلة في مراقبة وتقييم السياسات العمومية، دون أن تكون خاضعة للسلطة التنفيذية أو التشريعية.
ينص الفصل 160 من الدستور على أن “المؤسسات والهيئات المشار إليها في هذا الباب تعمل على تقديم تقرير عن أعمالها مرة واحدة في السنة على الأقل، يكون موضوع مناقشة من قبل البرلمان”. وهو ما يعكس وظيفتها التقييمية والاستشارية، دون أن تكون في موقع الخصومة مع الحكومة، بل في موقع الشريك في البناء الديمقراطي، بمرجعية موضوعية تنطلق من معطيات ودراسات وأبحاث ميدانية.
وتتوزع هذه المؤسسات إلى ثلاث فئات بحسب الدستور:
هيئات حماية حقوق الإنسان (كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الوسيط).
هيئات الحكامة الجيدة والتقنين (كالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مجلس المنافسة، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري).
هيئات النهوض بالتنمية البشرية والديمقراطية التشاركية (كالمجلس الأعلى للتربية والتكوين، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والشباب والعمل الجمعوي).
وتزداد أهمية هذا الإطار الدستوري في ضوء التعيينات الأخيرة، التي تعكس دينامية جديدة تستدعي إعادة تقييم العلاقة بين المؤسسات التنفيذية وهيئات الحكامة.
فقد حملت هذه التعيينات رسائل سياسية واضحة، سواء من حيث دلالات اختيار الأسماء أو من حيث توقيتها. فقد عُيِّن عبد القادر عمارة على رأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فيما نُصّب محمد بنعليلو على رأس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، كما تم تعيين حسن طارق وسيطًا للمملكة، وعُيّنت رحمة بورقية رئيسة للمجلس الأعلى التربية والتكوين والبحث العلمي، كما تم تجديد الثقة في آمنة بوعياش على رأس المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
هذه التعيينات اعتُبرت بمثابة إعادة تموقع استراتيجي لمؤسسات الحكامة، في لحظة تشتد فيها الحاجة إلى تعزيز استقلاليتها، ورفع منسوب الثقة في أدوارها، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصا وأن المبدأ الدستوري يظل هو الحَكَم في هذا النقاش، إذ أن تعيين رؤساء هذه المؤسسات يتم بمقتضى ظهير ملكي، باعتبار جلالة الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية والمؤسسات الدستورية، وهو ما يُفترض أن يُحصن هذه الهيئات من التسييس أو التموقع في صراع الأغلبية والمعارضة.
مؤسسات الحكامة وتجويد السياسات العمومية
غير أن القيمة الحقيقية لهذه التعيينات لا تكمن فقط في أسماء الشخصيات المختارة، بل في ما يمكن أن تُحدثه من أثر على وظيفة هذه المؤسسات في توجيه السياسات العمومية.
ومن هذا المنطلق، تستمد مؤسسات الحكامة قوتها الرقابية والاقتراحية. فعلى الرغم من الطابع الاستشاري الذي يميز صلاحياتها، إلا أن عملها لا يقتصر على مجرد إصدار تقارير تقنية أو موضوعاتية أو شاملة أو بيانات إخبارية، بل لعب دور أساسي في تجويد السياسات العمومية من خلال تنبيه السلطة التنفيذية إلى مكامن الخلل، واقتراح توصيات عملية مستندة إلى دراسات دقيقة ومعطيات ميدانية.
تُعد هذه المؤسسات بمنزلة مرايا تعكس صورة واقعية للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي للمغرب، وتقوم بدور “الضمير المؤسساتي” الذي يراقب ويُقيّم ويقترح.
لكن ضعف التفاعل الرسمي في بعض الأحيان مع مضامين هذه التقارير، وتحويل النقاش حولها إلى سجالات سياسية، يُفقدها أحيانًا فاعليتها المرجوة. كما أن غياب آليات مُؤطرة لإلزام الحكومة بالتعاطي الجدي مع هذه التوصيات يجعل من تقاريرها مجرد وثائق للنشر، بدل أن تكون منطلقًا لتصحيح الاختلالات أو إعادة توجيه السياسات.
ورغم كل ذلك، تظل هذه المؤسسات رافعةً ضرورية لحماية التوازن المؤسساتي، وتعزيز الشفافية والمساءلة، شريطة تفعيل مقتضيات الدستور بشكل فعلي، وتكريس ثقافة القبول بالنقد والتقييم داخل الجهاز التنفيذي.
تفاعل البرلمان مع هيئات الحكامة
رغم التنصيص الدستوري الواضح على ضرورة التفاعل المؤسسي بين البرلمان ومؤسسات الحكامة، بما في ذلك عرض ومناقشة تقارير هذه المؤسسات في جلسات عمومية بشكل سنوي، إلا أن الممارسة التشريعية ظلت دون هذا السقف الدستوري الطموح. فمضامين هذه التقارير، على ما تحمله من تشخيصات دقيقة وتوصيات محورية، غالباً ما تُستقبل داخل المؤسسة التشريعية بشكل بروتوكولي، ولا تُترجم إلى ديناميات تشريعية أو مساءلة سياسية حقيقية، بالرغم من أن بعض التقارير والمذكرات تُنجز بطلب مباشر من غرفتي البرلمان.
هذا القصور في التفاعل يُنتج نوعاً من القطيعة غير المعلنة، تُفقد مؤسسات الحكامة جزءاً من دورها كرافعة مؤسساتية لتقويم السياسات العمومية، وكآلية لتعزيز التوازن بين السلط. وهو ما يبرز الحاجة الملحة إلى ترسيخ ثقافة سياسية ومؤسساتية جديدة، تقوم على مبدأ التكامل والتفاعل البناء، بدل الانغلاق والاحتكام الحصري إلى الشرعية الانتخابية.
صحيح أن البرلمان يُراعي في بعض الأحيان آراء مؤسسات الحكامة ضمن مهامه الرقابية والتشريعية، لكن هذا التقدير يظل في حدود رمزية، ولا يرقى إلى مستوى الأثر التشريعي والسياسي المطلوب. لذا، فإن تجاوز هذا الوضع يقتضي إرادة سياسية واضحة وإصلاحات عملية تُعلي من قيمة العمل التشاركي والتقاطع بين المؤسسات في خدمة الصالح العام.
تكريس ثقافة الحوار وتدبير الاختلاف
في دولة المؤسسات، لا يمكن اعتبار التقييم والمساءلة تهديدًا، بل ركيزة أساسية لتعزيز الحكامة وتجويد الأداء العمومي. والتقارير التي تصدرها مؤسسات الحكامة، وإن لم تكن ذات طابع إلزامي، فهي تعبّر عن يقظة مؤسساتية يجب أن تُقابل بالإنصات، لا بالتحفظ.
إن المطلوب اليوم ليس فقط احترام استقلالية هذه الهيئات، بل تفعيل آليات الحوار المؤسساتي معها، من خلال لقاءات دورية، أيام دراسية مشتركة، وإحداث آليات للتفاعل العملي مع توصياتها، سواء على مستوى الحكومة أو البرلمان.
كما أنه على الحكومة أن تنتقل من منطق “رد الفعل السياسي” إلى منطق “التفاعل العمومي”، خاصة وأن هذه المؤسسات لا تُمارس أدوارًا حزبية، بل تتحدث غالبا باسم معطيات وتقارير موضوعية، أُعدّت من طرف خبراء وكفاءات مؤسساتية، لا من منطلقات أيديولوجية أو مواقف انتخابية.
إن تكريس هذا التوجه من شأنه أن يُعزز صورة المغرب كدولة مؤسساتية حديثة، تحترم التعدد داخل بنيتها المؤسساتية، وتُؤمن بأن النقد البنّاء جزء لا يتجزأ من دينامية الإصلاح، لا من “معارضة سياسية مقنّعة”.
* صحافي وباحث في قضايا الإعلام وحقوق الإنسان
نبذة عن الكاتب
سامي المودني: صحافي ورئيس تحرير بقناة ميدي 1 تيفي الإخبارية. يمتلك خبرة واسعة في الصحافة الاستقصائية، حيث أنجز العديد من التحقيقات المكتوبة والتلفزيونية، وأشرف على إعداد وإخراج عدة أفلام وثائقية. حاز على عدة جوائز في الصحافة الاستقصائية، من أبرزها جائزة دبي للصحافة العربية سنة 2014.
باحث في سلك الدكتوراه بـالمعهد العالي للإعلام والاتصال، متخصص في حرية الصحافة وأخلاقياتها، تحليل الخطاب الإعلامي، التواصل السياسي، وحقوق الإنسان.
على المستوى المدني، يشغل عدة مناصب، فهو الرئيس المؤسس للمنتدى المغربي للصحافيين الشباب، وعضو المكتب التنفيذي للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان منذ سنة 2018، كما يشغل مهمة منسق “الشبكة المغاربية لحرية الإعلام”.
المصدر: العمق المغربي