اخبار المغرب

سيدي عبد الرحمن عليوي محيي السنة ومجدد الفقه

هو الفقيه العلامة الهمام الجامع بين المعقول والمنقول، سيدي عبد الرحمن عليوي شيخ الجماعة بالدار البيضاء، عالم المدينة وعلمُها ومنارتها الحية، بقية السلف الصالح من علماء المغرب الأفذاذ، الذين تخرجوا من المدرسة العلمية المغربية العتيقة، وتربوا على مناهجها وتشربوا منهجها وسلكوا نهجها، وحافظوا عليه وبلغوه وأدوه كما تسلموه بكل صدق وإخلاص وأمانة.

أمضى عمره في رحاب العلم، أخذا وعطاءَ، طلبا ومنحا، فهو بحر زاخر في العلم وجبل راسخ في الوطنية وصمدي مصطبر في الذود عن حياض الثوابت المغربية التي أجمع العلماء والعوام عليها، فقها وسلوكا واعتقادا وحكما. وارتضوها خلفا عن سلف. وهو في هذا صافي المقصد ثابت الوجهة والتوجه مالكي ملكي، بعلم قويم ونهج سليم، منذ ما يقارب الخمسة عقود قضاها من عمره عامرة بالغيرة الدينية والفكرة الوطنية كما هم علماء المغرب، متشبثون بهويتهم الدينية وبوحدتهم الوطنية وقيادتهم السامية لمولانا أمير المؤمنين حرصه الله.

هذا الرسوخ والثبات الذي قلناه لا يأتي من فراغ، بل ينبني على معارك حامية الوطيس خاضها مولانا الإمام العلامة الهمام، ليس من باب القاصد (أي راغب في افتعال المعارك) ولكن من باب الصامد الحامي للثوابت الدينية.

هذه الثوابت التي تكالبت عليها الانتقادات والهجومات، من التيارات الوافدة التي لها غايات قاصدة، وفي مقدمها انحراف المغاربة عن الثوابت الجامعة المحصنة المانعة، المؤسسة للأمن الروحي للجماعة المسلمة. جاء هذا الفكر النابت في غير منبت وعلى غير قواعد الاستنبات الاجتماعي للأفكار والمعتنقات، جاء مدفوعا بالأموال الطائلة والأقوال الفاسدة والأحوال المتشددة، وافدا علينا من تيار يدعي احتكار التوحيد والسنة، منصبا نفسه ناطقا باسم السلف، مدعيا دعاوى كبرى لم يْسلم له بها علماؤنا الأفذاذ العاملين، المؤصِلين والمؤصَلين.  هذا الفكر النابت الذي جذب بعض الشباب المراهقين، الذين بَعُدت الشقة بينهم وبين علوم الدين، فلَبسُوا عليهم بباطل الأقوال وغرروهم ببريق الأموال، وحصروا دائرة فهمهم للدين بعناوين عامة كمفهوم السلف، وبمراجع محصورة = (مراجع “علمية” أقصد أي بعضا من الشيوخ على سبيل الحصر) تدعي أنها خير الخلف، واستغلوا حمية الشباب للدين، وإقبالهم على رب العالمين.

وقد رصدت لذلك جهود وطبعت مؤلفات بعينها، وتم توزيعها في صفوف الشباب والعاملين في الحقل الديني، فمجلدات فتاوي ابن تيمية  كانت توزع مجانا، وعليها يهدى ولا يباع، وفتحت الجامعات السعودية أبوابها للطلبة المغاربة لتفريخ سفراء للدعوة الوهابية النجدية في المغرب، ثم بدء بعض الشباب الذين لم يسعفهم عقلهم في درك العلوم أو ممن حرموا من الدراسة وخرجوا لسوق الشغل بحثا عن عمل يدوي، مغيرين وجهتم نحوا طلب العلم من أقصر طريق، وهي دراسته على المنهج الوهابي الذي يكفيك معه شهور وجلسات هنا ونتف هناك حتى تصيرك شيخا، فيأتي الواحد منهم بإجازة من بلاد الحجاز ليصير عالما ( ومن أراد التأكد من خلوهم المعرفي فليتأمل حال بعض من انقلب منهم على المنهج الوهابي كالملقب بأبي حفص) والحمد لله أن بارت سلعة هذا التيار حيث قلب عليهم من كان يدعمه ظهر المجن، وانكشف وضع أغلبهم، وابتلع الكثير منهم لسانه، إلا البقية الصادقة منهم ممن هو صادق مغرر به، ولا يخلوا التيار الوهابي من صادقين صلحاء، غرر بهم وكبروا في هذا التيار إلى أن شاخوا.

1/ جهود الشيخ في التحصين والتمكين لثوابت البلد الأمين

ومع تنامي المد الوهابي النجدي، وانتشاره في صفوف الشباب، خصوصا ممن فاتتهم الخلفية العلمية الشرعية، ولذلك قل ما تجد طالب علم أصيل يتبنى هذا الفكر، بل جل من يتبنونه منذ وفوده، إما عوام أميون لا صلة لهم بالقراءة والكتابة أصلا، أو طلبة المعاهد التقنية والعلمية وكليات الطب، الذين تختلط عليهم حماسة التدين و قوة الاقبال عليه بالشدة المنهجية الموجودة في الفكر الوهابي، من نزعات التحريم وصلابة الرأي وخشونة المخالفة ( وهذا حال بداية التدين فنظرة الشاب للعالم الحق هو المتحوط النزاع نحو التحريم وكثير الصياح الذي يوحي بأنه يقول الحق أو المعارض ) ، وما يتبعها من الناحية السيكولوجية بالشعور بالاغتراب والرغبة في المخالفة والامتياز على مستوى الشكل من تقصير ثوب ولبس الأفغان وبرقع الخليج (للنسوة = رغم أن اللباس المحتشم هو الأصل مع اختلاف العرف فيه من حيث شكله نقصد)  ، وعلى مستوى المضمون من أخذ بالشدة والمغالاة  (والغلو توأم للخلو، فكل من خوا علمه غلا فكره)  في الرأي والتنكير على المخالف ، وهذا التنكير له دافعه النفسية وسياقاته الاجتماعية والتاريخية قد نفصل في بعضها في القادم من المقالات.

وظل هذا الوافد يلبس على معتقدات الناس وأفكارهم، محاولا كسر اجماعهم وإحلال نفسه بديلا لاختيارات المغاربة في التدين والتمذهب، معتبرا نفسه هو الفرقة الناجية وهو الدين الحق ( وهنالك تيار آخر وهو التيار الإخواني الذي استورده بعض المغاربة لكنهم وإن كانوا وهابية من حيث الاعتقاد إلا أنه لم يشغلوا أنفسهم كثيرا بمعتقدات المغاربة لأن غايتهم كانت سياسية ومبرر وجودهم الحكم= دائرة صراعه الوصول إلى السلطة  والدعوة مطية، وهو الذي يصطلح عليه بالإسلام السياسي على مستوى الأكاديمية الغربية وما يعبر به هذا التيار عن نفسه هو الحركات الإسلامية، سيأتي التفصيل في  الباقي من المقالات) واصفا نفسه بالسنة والجماعة، لما لهذا المفهوم من دلالات في السياق التداولي الإسلامي، وفي هذا الادعاء حمق كبير وخرف لا دواء له مما يدل دلالة صريحة على خبل هذا الفكر، حيث وبجرة قلم يلغي جمهور الأمة في قفز أحمق على التاريخ ( أكثر من 12 قرن من الفكر العقدي ومدارسه  ) وعلى الجغرافيا ( عموم الدول الإسلامي السنية إما أشاعرة أو ماتريدية )  وعلى  المكتبة الإسلامية وما تزخر به من جهود في علم الكلام والتوحيد، وما أنتجه الأعلام المنتسبين للمدرستين الكبيرتين في الاعتقاد ( الغزالي/ ابن رشد/ الجويني/ الشاطبي…) .

وقف عالمنا الفذ الفريد الأوحد، أمام هذا التيار، محاولا إرجاع شباب المغرب إلى رشده وداعيا إياه إلى التشبث بما خلفه أجداده من علوم ومناهج، وما توارثه من شريعة وحقيقة وعقيدة، مذكرا إياهم بالثوابت الجامعة التي أوجزها بإحكام العلامة الفقيه الهمام سيدي ابن عاشر رحمه الله في منظومة المرشد المعين على الضروري من علوم الدين :

في العقد الأشعري وفقه مالك/// وفي طريقة الجنيد السالك

وهكذا ظل عالمنا الجليل ينشر علوم الأمة بين طلبة العلم في المساجد والمعاهد العتيقة، شارحا للكتب والمنظومات المختصرات منها والمطولات (مختصر خليل/ جمع الجوامع/ الالفية/ ابن أبي زيد/ المرشد المعين…….)  محييا  لما اندثر مبينا لما غبش وصادا ورادا لما علق من الفكر الوافد وقد نجح ولله الحمد في ذلك، وأعماله وجهوده التي قام بها شاهدة عليه، فلا يوجد عالم معتبر متحدث إلا وهو من طلبته أو أخذ عنه أو سمع منه، أو تتلمذ عليه بالواسطة، أي أخذ عن أحد تلامذة الشيخ، ودونكم بعض الأسماء لا كلها التي تملؤ الساحة الان، فهذا الدكتور المحدث عدنان زهار، العالم الفقيه، صاحب التصانيف المفيدة والتحقيقات الفريدة، ودونكم كتبه الكثير التي يستحيل ذكرها في هذا المقام، وها هو العلامة الفقيه الدكتور عبد الكريم قبول الأستاذ الجامعي بمعهد محمد السادس للقراءات القرآنية، ورئيس المجلس العلمي للبرنوصي سابقا ، وله من التواليف الشيء الكثير. ولا يخفى عليكم الداعية الأديب الأريب الذي عن أسئلة الناس الفقهية يجيب سيدي محمد برة، المقيم بفرنسا الان، والذي تابعه الناس وتابعناه عبر أثير المذياع. ومن تلاميذه كذلك من الشباب الذين غرفوا من معين الشيخ الوافر وبحره الزاخر، الشاب الفقيه سيدي عمر نهراي، الذي حقق للتو قريبا كتابا للفقيه، وضمنه أطول ترجمة للشيخ ( يرجع اليه لمن أراد مزيد التعرف على الشيخ من حيث سيرته ومن حيث صنعته الفقهية = والكتاب من اصدار دار الرشاد الحديثة المباركة بالدار البيضاء وعنوانه ” من أقوال الأئمة الأعلام في المقابر والمصليات في الإسلام” وقد اعتنى به وأخرجه للوجود البحاثة الموفق الشاب سيدي عمر نهراوي داعين الله أن يوفقه لإخراج باقي كتب ومؤلفات الشيخ العلامة )  وهذا الشاب من بركات الشيخ الكثيرة ومن تلامذته كذلك سيدي ياسين بن علوين وهو فقيه مشارك وعضو مجلس علمي بالدار البيضاء ، وطلبته ومحبوه ومريدوه كثر لا يحصرهم حد ولا يعدهم عد، من الدكاترة والباحثين والطلبة والأساتذة الجامعيين والعدول وغيرهم ، ناهيك عن ناكري الجميل وقاطعي الود الذي نهلوا منه وتنكروا له بل وصل ببعضهم أن يجاوز النكران والهجران ومقابلة الاحسان بالإحسان إلى الطعان والكذب والبهتان.

 2/ الشيخ عليوي حامي السنة ومجدد الفقه  

كثير ما يدعي الوهابية بأنهم حماة السنة وناصروها، وقد صيروا جهالا رؤساء عليهم يحلونهم بألقاب لا تليق بهم ولا عليهم (ناصر السنة) ولم يشهد بها عليهم سوى أنفسهم، حيث يلقب العامي العالم ويحليه، بل وصل به الحال إلى أن يحلي العاميُ العاميَ بالأوصاف العلمية حتى صار كل ذي لحية طويلة وسروال قصير وشارب محفوف شيخا، من دون ثني الركب ولا درك العلوم ولا ترويض الفهوم. الأمر سهل عندهم، بل شروط التخرج عندهم من جامعة المشيخة سهلة، قميص وطاقية سعودية وشهرين من الصلاة وتحلية بكنية (أبو سامة والشاب لم يتزوج) وها أنت صرت شيخا.

وفي مقابل هذا الجو المليء بالدعاء ظل الشيخ حاميا للسنة تعليقا لا تحقيق، ساردا لمتونها ضابطا لروايتها وموجها لدرايتها التوجيه الصحيح، وهو الذي ظل يقول دوما (الحديث مضلة إلا للفقهاء)، مرسخا المنهج السليم في التعامل مع الحديث وما يتطلبه من عدة لغوية ومنطقية وأصولية وتربوية، على طريق العلماء المغاربة الذين لا يفصلون الفصال النكد بين العلم والتربية، فهم تشربوه شريعة وحقيقة، صنوان لا يفترقان كما لقاه مولانا رسول الله لصحبه، وتلقوه عنهم علماء الأمة كابرا عن كابر.

ولا أدل على ذلك جهوده العلمية التي قام بها من تأطيره لجلسات سرد صحيح البخاري والذي ختم ليلة السبت 12 أبريل 2025 برحاب الزاوية الدرقاوية الشاذلية فرع سباتة بالدار البيضاء عمرها الله بالخير، والذي حضره الفقراء والفقهاء والعلماء، وأطره الشيخ العلامة سيدي عبد الرحمن عليوي مع بعض طلبته الذين سبقت الإشارة إليهم. في جو من إحياء ما اندرس من جهود الزوايا في نشر العلم، والتي خلفت تراثا علميا لا يخلو سند من أسانيد العلوم الإسلامية المعتبرة من رجالات التصوف فيه، وهذا ما لا يستطيع إنكاره الوهابية في السر ولا البوح فيه بالعلن، بل وفي إطار ما يسميه الوهابية بفقه المدارات (دارهم ما دمت بدارهم) حج الجم الغفير منهم لمنزل الشيخ طلبا لعلامه، وهم على أتم الاعتقاد الفاسد عندهم بضلاله حسب زعمهم الفاسد، وهذا المنهج يتعامل به الوهابية مع علماء الأمة وصلحائها في إطار خذ علمه وسبهم ولا حرج.

و بالإضافة إلى جهود شيخنا العلامة في نشر السنة وعلومها فقد انصبت جهوده على تجديد الفقه، بما تحميل كلمة التجديد من دلالات إعادة الأمر إلى جدته الأولى أي ما كانت عليه، حيث عمل على إعادة إحياء طريقة الفقهاء المتقدمين في التدريس والتعليم والفتوى، ولا أدل على ذلك من إجاباته على استفتاءات الناس في البرنامج الإذاعي والتلفزي اسأل العالم على قناة وإذاعة محمد السادس دام له العز والتمكين.

وهذا هو عين التجديد ، وهو أن ترسخ في طلبتك محبة العلم والعلماء، وتحيي فيهم شغف طلب العلم والصبر عليه والانفاق في سبيله ( وللشيخ حال عجيب مع اقتناء الكتب والقراءة والمطالعة وهذا الموضوع يحتاج مقالا منفردا خاصا وحبذا لو تحدث عنه سيدي عادل الهاوي وهو الذي يكلفه الشيخ بجلب الكتب وبتتبع حركة التأليف العلمي، ولا يظن ظان بأن الشيخ يقرأ في العلوم الإسلامية فقط، بل الشيخ يقرأ في كل شيء ، علم نفس قانون اقتصاد علم اجتماع، كل ما يتاح له الخصول عليه إلا ويقرؤه ) ومحبته والانهمام به، والأقدر على الحديث على هذا الجانب هو سيدي عادل الهاوي الذي لازمه مدة من الزمن وذلك لما علمه منه الشيخ من صدق طوية وصفاء حال وكريم خصال ولا يخفى على منور البصيرة أن الشيخ له حال مع ربه أعطاه ملكة خاصة وتفرسا منقطع الناظر يجعله يدرك خباي المخاطب بالنظرة وهو ما يسميه أهل الله بالكشف. وهذا الباحث الشاب والفقيه المتواضع سيدي عادل ، لا يستحمل كلمة سوء في الشيخ، من شدة المحبة والقرب ، والأمر الاخر كون  الشيخ ليس فيه ما يساء ولا يعاب  أصلا إلا ما تراه عين خبيث أو يتحسسه قلب مريض أوحدس حاقد ، بل الشيخ حب كله علم كله وطنية كله صدق كله ،  رضي الله عنه وأرضاه.

وفي الختام، إن جهود الشيخ العلامة تحتاج إلى بحث خاص ولو أطلقنا العنان للكلام لما توقفناـ، بل تحتاج إلى يوم دراسي تقوم بها إحدى الكليات أو المؤسسات الدينية، تكريما لجهود الرجل العلمية والدعوية والتحصينية والتأمينية للفكر والاعتقاد، وكاتب هذه الكلمات إن جاز له أن يقول أنه من حسنات هذا الرجل التحصينية ، فق جعلتني كلماته أقلب النظر وأعيده في المسار والمسير، وها أنا أخطو الخطوات الأولى في طريق العودة لموروث الأمة المغربية وثوابتها، أرجوا من الله أن أوفق في طريق العودة  أو على الأقل أن أموت وأنا على الطريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *