كَفَى عَبَثًا.. حِينَ تُصْبِحُ الصَّوَارِيخُ طَعْنَةً فِي قَلْبِ غَزَّةَ!

ليس كلّ من أمسك بندقيّة صار مقاومًا، ولا كلّ من أطلق صاروخًا كتب سطرًا في سفر البطولة. فثمة ما هو أعمق من الصوت والانفجار… ثمة دم، وبيوت، وأطفال ينهضون من نومهم على صيحات الفقد. في غزة، حيث الحياة متعلّقة بخيط من دعاء، ليس هناك مكان للعبث. ومن بين الحطام، تنهض أسئلة موجعة: هل صار بعضنا يقتلنا باسمنا؟! هل تحوّلت المقاومة إلى قناع يتوارى خلفه العابثون؟!
لم نعد نحتمل مزيدًا من الوجع. غزة التي تسحق تحت نيران الإبادة الجماعية لم تعد قادرة على تحمل عبث الصواريخ العشوائية التي تُطلق من بين الأزقة والبيوت، كأنها ألعاب نارية لا تؤذي إلا أهل هذا الحي أو ذاك. تُطلّ علينا أخبار جديدة كل يوم عن صاروخ انطلق من حي مكتظ، أو من شارع يعج بالحياة، فتنهال بعدها القذائف والنيران، ويبدأ العدّاد من جديد: عشرات الشهداء، أطفال تحت الركام، وبيوت تحوّلت إلى رماد.
نقف أمام المشهد مذهولين: من يطلقون هذه الصواريخ يسمون أنفسهم "مقاومة"، ويتغنون بالبطولة والردع والكرامة، بينما الواقع يقول عكس ذلك. في كل مرة تنطلق فيها صواريخ لا تُحدث أثرًا عسكريًا حقيقيًا، لكنها تأتي بعواقب دموية مرعبة، يتساءل الناس: من المستفيد؟ أهو العدو الذي يجد في ذلك ذريعة للقتل والتدمير؟ أم هؤلاء الذين يريدون تسجيل حضور إعلامي على حساب دماء الأبرياء؟!
المشهد يتكرر حتى بات مألوفًا ومؤلمًا في آن. ما إن تهدأ العاصفة قليلًا، ويبدأ الناس بمحاولة التقاط أنفاسهم، حتى تأتي صواريخ "اللا جدوى" لتعيد تسخين المشهد، وتمنح العدو غطاءً دوليًا جديدًا للفتك بنا. لا يهم من الذي مات، ولا من الذي تهدم بيته، فهؤلاء مجرد أرقام على الشريط الإخباري.
منذ متى كانت المقاومة تستخف بأرواح الناس الذين تقاتل لأجلهم؟ أليست المقاومة الحقيقية هي التي تحمي الشعب لا أن تضعه درعًا بشريًا؟ منذ متى صار من "الوطنية" أن نُطلق صاروخًا من بين أقدام الأطفال، ثم نهرب ونتركهم ليموتوا؟ بل منذ متى صار العبث دمًا، والصوت العالي بطولات زائفة؟
العدو يراقب، يرصد، ويترصّد. وكلما رأى انطلاقًا من حي سكني، دوّن الهدف، واستعد للهجوم. وعندما يسقط الرد، لا يقع على مطلق الصاروخ، بل على العائلة التي كانت تحتمي في بيتها، أو على الطفل الذي كان يملأ دلو الماء من الشارع.
هل يدركوا أنهم صاروا شركاء في الجريمة؟ نعم، شركاء. من يطلق هذه الصواريخ العبثية هو شريك في حرب الإبادة، حتى لو ادّعى أنه يقاوم. لأن النتيجة واضحة، والتجربة تتكرر، والدم ذاته هو الذي يسيل، فلماذا الإصرار على ذات الطريق؟ لماذا نصرّ على دفع الناس إلى الجحيم باسم "الممانعة" و"المقاومة"؟ أليست هذه خيانة لمعنى المقاومة ذاته؟!
ثم نسمعهم يقولون: "نريد أن نقول للعدو إننا موجودون." لكن بأي ثمن؟ أنتم موجودون، نعم، لكن على جثث الناس. موجودون في الصور التي تنقلها الطائرات قبل القصف، وموجودون في تقارير الأجهزة الاستخباراتية التي تنتظر لحظة انطلاقكم لتسجل الهدف القادم. وجودكم صار مبررًا للدم، لا رادعًا له.
نحن نعيش حرب إبادة حقيقية، لا تحتمل مزيدًا من التهور. المقاومة ليست شعارًا، بل مسؤولية، وأول أركانها: حماية الشعب. أما أن نرميه في وجه الموت، ثم نُطلق الخطب عن الصبر والصمود، فهذا ليس نضالًا، بل مقامرة رخيصة.
لنغلق هذا الباب، ولنصرخ بصوت واحد: كفى عبثًا! كفى تلاعبًا بحياة الناس! لا نريد صواريخ ألعاب تقتلنا من حيث لا تدري. نريد عقلًا يقاوم، ونضالًا يحمي، ومشروعًا يعرف متى يتقدم، ومتى يتوقف.
هذه ليست دعوة لليأس، بل للوعي. فغزة تستحق من يحبها أن يُفكر، لا أن يركب موجة المجد الزائف. وغزة بحاجة لمن يبكيها في صمت، لا من يصرخ فوق أنقاضها ليتفاخر.
أخيرًا، نقولها بكل وضوح: كل من يُطلق صاروخًا من بين الناس، هو شريك العدو في مذبحة شعبنا، شريكه في الخسارة، شريكه في إيقاع المزيد من الألم، هو شريكه بأن تبقى غزة بين نيرانه وعبثهم.. ولن يغفر له التاريخ.