اخبار السودان

في رواية «موعدنا في شهر آب»: أسئلة مفتوحة حول معنى الحرية وثمنها

رواية «موعدنا في شهر آب»، صدرت بعد عشرة أعوام على رحيل مؤلفها غابرييل غارسيا ماركيز (1937 2014 ) ولاشك في أنها تُعدّ واحدة من الأعمال الأدبية التي تثير تساؤلات عميقة حول الحرية، الندم، التحول الذاتي، وأسرار الحب. هذه الرواية القصيرة، التي تتألف من 122 صفحة، تتبع مسار آنا مجدولينا باخ، امرأة في منتصف العمر، تعيش حياة زوجية مستقرة لمدة 27 عاما، لكنها تجد نفسها مدفوعة إلى رحلة سنوية غامضة تكشف عن طبقات مخفية في شخصيتها ورغباتها.

آنا مجدولينا: من الاستقرار إلى التمرد

تبدأ الرواية بتقديم آنا مجدولينا، امرأة متزوجة سعيدة، تعيش حياة روتينية مع زوجها دومينيكو وابنتها، دون أي دافع واضح للهروب من هذا العالم المستقر الذي بنَتْه بيديها. لكن في السادس عشر من شهر آب/ أغسطس من كل عام، تقوم برحلة إلى جزيرة نائية لزيارة قبر والدتها، حيث تضع باقة من الزنابق وتمضي ليلة واحدة بعيدا عن حياتها اليومية. هذه العادة السنوية، التي تبدو في البداية كطقس تقليدي للحداد، تتحول تدريجيا إلى بوابة لاستكشاف ذاتها العميقة. في سن السادسة والأربعين، تحدث نقطة التحول الأولى في حياة آنا. خلال إحدى زياراتها، تلتقي رجلا غريبا في حانة الفندق وتمضي الليلة معه، في خطوة تمثل أول خيانة لزوجها. هذا اللقاء، الذي يظن فيه الرجل أنها مومس، يترك في نَفْس آنا هوسا غريبا، ليس فقط بالرجل نفسه، بل بما يمثله من تحرر من القيود الاجتماعية والأخلاقية التي كانت تكبلها. هنا تبدأ رحلة آنا في استكشاف ذاتها، حيث تتحول كل زيارة سنوية إلى مغامرة جديدة: لقاء مع قواد وقاتل، علاقة مع أسقف، أو مصادفة صديق طفولة. هذه التجارب، التي قد تبدو عشوائية، تشكل في الحقيقة نمطا من التمرد الداخلي ضد حياتها المستقرة.

التحول الذاتي وصراع الحرية والندم

ما يميز تجربة آنا مجدولينا هو التوتر الداخلي بين رغبتها في الحرية وشعورها بالندم. ماركيز، بأسلوبه الحسي والمدهش، يأخذنا إلى أعماق رغباتها المكبوتة والخوف الذي يتربص في قلبها. في كل مغامرة، تتحرر آنا من قيد جديد، لكنها في الوقت نفسه تدرك تدريجيا تفكك زواجها. هذا الصراع يبلغ ذروته عندما تكتشف سبب اختيار والدتها للدفن في تلك الجزيرة بالذات، وهو اكتشاف يدفعها للتساؤل عما إذا كانت مغامراتها قد بلغت نهايتها. هنا، يبرز ماركيز كسارد بارع في تصوير التحول الذاتي، حيث لا يقدم إجابات نهائية، بل يترك القارئ مع أسئلة مفتوحة حول معنى الحرية وثمنها. تجربة آنا ليست مجرد سلسلة من العلاقات العابرة، بل هي محاولة لاستعادة جزء من ذاتها، كانت قد فقدته وسط استقرار حياتها الزوجية. وكل لقاء يمثل مرآة تعكس جانبا مختلفا من شخصيتها: الشغف، الخوف، الشوق إلى الماضي، أو الرغبة في تجاوز الحدود. ومع ذلك، فإن هذا التحرر يأتي مصحوبا بثقل الوعي بما تفقده، مما يجعلها شخصية مأساوية بمعنى ما.

أسلوب ماركيز والواقعية السحرية

على الرغم من أن «موعدنا في شهر آب» لا تحمل الطابع الصريح للواقعية السحرية التي اشتهر بها ماركيز في أعمال مثل «مئة عام من العزلة»، إلاَّ أن الرواية تحتفظ بلمحات من هذا الأسلوب. الجزيرة النائية، التي تتحول إلى مسرح لمغامرات آنا تبدو كفضاء رمزي يتجاوز الواقع العادي، حيث تتداخل الحياة اليومية مع لحظات من الغرابة والدهشة. ماركيز يستخدم لغة حسية غنية، لوصف تفاصيل صغيرة مثل رائحة الزنابق أو أجواء الحانة ما يضفي على السرد عمقا شعريا يعزز تجربة القارئ.
مع ذلك، يمكن نقد الرواية من حيث عدم اكتمالها، فقد أراد ماركيز تدميرها في حياته، معتبرا أنها لم تصل إلى مستوى الكمال الذي يطمح إليه. هذا الشعور يتجلى في بعض الفجوات السردية، حيث تبدو بعض المغامرات مفككة أو غير مترابطة بشكل كامل مع الخط الرئيسي للرواية. ربما كان هذا الجانب مقصودا ليعكس فوضى التحول الداخلي لآنا، لكنه قد يترك القارئ متعطشا لمزيد من الوضوح أو العمق.

الدلالات والتأملات

الرواية في جوهرها، مغامرة لتأمل الحرية الشخصية وأسرار الحب. ومن خلال رحلة آنا مجدولينا، نجدها تتحدى الأدوار التقليدية للمرأة كزوجة وأم، لكنها لا تفعل ذلك بوعي ثوري واضح، بل بنوع من الانجراف الغريزي. هذا يجعلها شخصية معقدة، تجمع بين القوة والهشاشة. فالرواية تطرح أسئلة حول ما إذا كانت الحرية تستحق التضحية بالاستقرار، وما إذا كان الحب ـ سواء كان عابرا أو دائما ـ يمكن أن يكون مفتاحا لفهم الذات.
في النهاية، تظل تجربة آنا مجدولينا شاهدة على عبقرية ماركيز في استكشاف النفس البشرية. رغم أن الرواية قد لا ترقى إلى مستوى أعماله الكبرى، فإنها تقدم هدية أدبية متأخرة تثير الفكر وتدعو إلى التأمل. إنها قصة امرأة تائهة بين ما كانت عليه وما يمكن أن تكونه، وفي هذا التيه تكمن قوتها وضعفها على حد سواء. وعلى الرغم من أن الرواية تركز بشكل أساسي على آنا، إلا أن الشخصيات الثانوية ـ مثل زوجها دومينيكو، والدتها، والرجال الذين تلتقيهم في مغامراتها ـ تلعب أدوارا حيوية في تعميق الصراع الداخلي للبطلة وإبراز موضوعات الرواية.

دومينيكو: رمز الاستقرار والغياب

دومينيكو، زوج آنا مجدولينا، قد تمثل هذه الشخصية العالم الآمن والمستقر الذي تعود إليه آنا بعد كل مغامرة. وعلى مدار 27 عاما من الزواج، يظهر دومينيكو، شخصية غامضة إلى حد ما، حيث لا يُمنح مساحة كبيرة للتعبير عن مشاعره أو أفكاره بشكل مباشر. هذا الغياب المتعمد في السرد يجعله رمزا للروتين والالتزام، وهو ما يدفع آنا، وربما دون وعي، إلى البحث عن شيء أكثر إثارة خارج إطار حياتها الزوجية. مع ذلك، فإن دومينيكو ليس مجرد خلفية باهتة. فمن خلال ردود فعل آنا وشعورها بالذنب المتزايد، ندرك أن علاقتهما تحمل عمقا عاطفيا لم يتم استكشافه بالكامل. على سبيل المثال، عندما تبدأ آنا في الشك بأن زواجها يتفكك، لا يظهر دومينيكو كفاعل مباشر في هذا التفكك، بل كشخصية صامتة تترك القارئ يتساءل: هل هو ضحية خيانات آنا أم أنه، بطريقة ما، مسؤول عن دفعها إلى هذا التمرد؟ هذا الغموض يعكس براعة ماركيز في ترك الفراغات لتفسير القارئ، ما يجعل دومينيكو شخصية مركزية رغم حضوره المحدود.

والدة آنا: المحفز الصامت

والدة آنا مجدولينا، التي تظهر فقط من خلال ذكريات البطلة وقبرها في الجزيرة، هي شخصية محورية رغم غيابها الجسدي. اختيارها للدفن في تلك الجزيرة النائية يشكل لغزا يحيط بحياتها وموتها، وهو ما يدفع آنا إلى تكرار الزيارة السنوية كطقس حداد في البداية. لكن مع تقدم السرد، نكتشف أن هذا الطقس ليس مجرد تعبير عن الحزن، بل هو بوابة لاستكشاف آنا لذاتها، وربما محاولة لفهم والدتها بشكل أعمق.
الوالدة تمثل الماضي الذي يلقي ظلاله على الحاضر. عندما تكتشف آنا سبب دفن والدتها في الجزيرة، وهو سر لم يُفصح عنه بشكل كامل في الرواية ، يبدو أن هذا الاكتشاف يعكس شيئا من تاريخ الوالدة الخاص، ربما تمردا أو علاقة سرية مشابهة لما تعيشه آنا. هذا الارتباط بين الأم وابنتها يضيف طبقة رمزية إلى القصة، حيث تصبح الجزيرة مساحة لتوارث الصراعات الداخلية عبر الأجيال.

الرجال العابرون: مرايا الذات

الشخصيات الذكورية التي تلتقيها آنا خلال زياراتها السنوية، مثل الرجل الأول الذي يظنها مومسا، والقواد القاتل، والأسقف، وصديق الطفولة،لا تُمنح أسماء أو خلفيات تفصيلية، ما يجعلها أقرب إلى رموز أو انعكاسات لجوانب من شخصية آنا بدلاً من كونهم شخصيات مستقلة. كل لقاء يمثل تحديا أو اختبارا لها، يكشف عن رغباتها المكبوتة أو مخاوفها العميقة.
فالرجل الأول: يمثل بداية تمرد آنا، حيث يدفعها سوء فهمه (ظنّه أنها مومس) إلى مواجهة صورتها الاجتماعية وتحطيمها. هذا اللقاء يوقظ فيها شعورا بالقوة والخجل في آن واحد. .القواد والقاتل: يجسد الخطر والممنوع، وهو ما يبرز جانبا مظلما من فضول آنا ورغبتها في استكشاف الحدود.. الأسقف: يقدم تناقضا مثيرا بين الروحانية والجسد، ما يعكس صراع آنا بين الضمير والرغبة.. صديق الطفولة: يمثل الحنين إلى الماضي، وربما محاولة للتوفيق بين آنا السابقة وآنا الحالية. .هؤلاء الرجال، رغم طابعهم العابر، يشكلون العمود الفقري لرحلة آنا الداخلية. هم ليسوا مجرد أدوات للإثارة السردية، بل مرايا تعكس تطورها النفسي وتناقضاتها.

الشخصيات الثانوية

على الرغم من قصر الرواية، فإن ماركيز ينجح في تقديم شخصيات ثانوية غنية بالدلالات، لكنه لا يمنحها مساحة كافية للتطور بشكل مستقل. دومينيكو، على سبيل المثال، يبقى ظلاً بعيدا، ما قد يُفسَّر كجزء من تركيز الرواية على آنا، لكنه يترك القارئ متعطشا لمعرفة المزيد عن تأثير مغامراتها عليه. كذلك، فإن الوالدة، رغم أهميتها الرمزية، تبقى غامضة بشكل مفرط، ما يجعل الربط بينها وبين آنا يعتمد على التخمين أكثر من الوضوح. أما الرجال العابرون، فهم يخدمون الغرض السردي ببراعة، لكن غياب التفاصيل عنهم قد يُنظر إليه كنقص في العمق. هذا الجانب قد يكون مقصودًا، فماركيز انصب تركيزه على تجربة آنا الذاتية، بدلاً من بناء عالم خارجي متكامل، لكنه قد يُضعف من التأثير الشامل للرواية بالنسبة لبعض القراء.
والشخصيات الأخرى ليست مجرد أدوات مساعدة، بل هي عناصر أساسية في نسيج الرواية، تساهم في إبراز الصراع الداخلي لآنا مجدولينا وتعميق موضوعات الحرية، الندم، والبحث عن الذات. مع ذلك، فإن محدودية تطور هذه الشخصيات تعكس طبيعة الرواية كعمل غير مكتمل، مما يتركنا مرة أخرى مع مزيج من الإعجاب ببراعة ماركيز والشعور بأن هناك المزيد الذي كان يمكن استكشافه لو طال به العمر واشتغل فترة أطول على الرواية.

مروان ياسين الدليمي

كاتب عراقي

القدس العربي

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *