قريبا من زوكربيرغ… ما خفي من “فيسبوك”

تحت عنوان “’ميتا‘ تسعى إلى حظر بيع سيرة لاذعة كتبتها موظفة سابقة”، نشرت “نيويورك تايمز” قبل أيام تقريراً عن موقعة قضائية بين شركة “ميتا”، أو “فيسبوك” بحسب الاسم الشائع لدى مستخدمي الموقع في العالم كله، وسارة وين وليمز موظفة الشركة السابقة، في شأن كتابها السيري الصادر حديثاً، وسط اهتمام صحافي ممتد من الولايات المتحدة وحتى الهند مروراً ببريطانيا، بعنوان “الطائشون: حكاية للتحذير من السلطة والجشع والمثالية الضائعة”.
كتب مايك إيزاك في تقريره عن الواقعة القضائية [“نيويورك تايمز”، الـ12 من مارس (آذار) 2025] أن شركة “ميتا” حققت انتصاراً قانونياً الأربعاء الماضي على موظفتها السابقة التي نشرت سيرة “مثيرة للجدل”، إذ أصدر المحكم “منعاً موقتاً” للكاتبة من “ترويج سيرتها أو توزيع نسخ منها”.
يصف الكتاب الذي صدر خلال الأسبوع الماضي سلسلة “ادعاءات مثيرة للجدل بالتحرش الجنسي وسلوكات غير لائقة أخرى”، ارتكبها كبار المديرين التنفيذيين خلال فترة عمل سارة وين وليمز في الشركة. واستندت “ميتا” في لجوئها إلى التحكيم ومطالبتها بحظر الكتاب إلى توقيع الموظفة السابقة على اتفاق توجب عدم التشهير. وخلال جلسة استماع طارئة عقدت الأربعاء الماضي انتهى المحكم نيكولاس غوين إلى أن “ميتا” تقدمت بأدلة كافية، تشير إلى احتمال انتهاك وين وليمز بنود تعاقدها مع الشركة. وسوف يبدأ الطرفان الآن إجراءات تحكيم خاصة.
جوعى للمكانة
قد تنتهي المتاهة القضائية هذه إلى أي شيء، لكن الكتاب صدر بالفعل وقرئ بالفعل، وسارع محررو أقسام الكتب بالكتابة عنه. ولا عجب في ذلك، فمليارات من البشر لا شك يعتريهم الفضول إلى ما يجري في الخفايا من وراء الشاشة الزرقاء التي ترتبط بها حياتهم اليومية منذ أعوام طويلة، وأخرى قادمة من يدرى مداها.
كانت سارة وين وليمز مؤلفة كتاب “الطائشون”، أو المهملون إن شئتم، عملت على مدى سبعة أعوام ابتداء من عام 2011 في شركة “فيسبوك” (المعروفة حالياً بـ”ميتا”)، وكان آخر منصب تولته هو مديرة السياسة العامة العالمية. ويمثل كتابها شهادة من الداخل، أو لنقل إنه شهادة شاهدة من أهل الشركة تقول فيها بحسب ما يرد في استعراض جينيفر سالاي [“نيويورك تايمز”، الـ10 من مارس) إن “الشركة يديرها قادة جوعى للمكانة مفتونين بأنفسهم، ضاقوا ذرعاً بأعباء المسؤولية وازدادوا إهمالاً في وقت تحول فيه ’فيسبوك‘ إلى أداة لحملات المعلومات المضللة، وتوددوا إلى الأنظمة الاستبدادية”.
“الطائشون” كتاب قاتم الطرافة وصادم بشدة، يرسم صورة قبيحة تفصيلية لإحدى أقوى الشركات في العالم. ولا شك في أن ما تكشف عنه وين وليمز سيثير غضب رؤسائها السابقين. فهي لا تمتلك حرفة سرد القصة بما يمكنها من تقديم قصة شيقة وحسب، لكنها أيضاً تمتلك بضاعة مقنعة.
تكتب جينيفر سالاي أن وين وليمز “خلال وقت قضته في ’فيسبوك‘ عملت من كثب مع رئيسي الشركة التنفيذيين مارك زوكربيرغ وشيريل ساندبرغ. وهما في هذا الكتاب بمثابة توم وديزي الطائشين في رواية (غاتسبي العظيم) اللذين تنقل وين وليمز من الرواية وصفاً لهما بأنهما (هشما أشياء وكائنات وتركا لغيرهما مشقة ترتيب ما أحدثا من فوضى)، بل إن وين وليمز تجعل من هذه الجملة مفتتحاً للكتاب”.
كانت سارة وين وليمز شديدة اللهفة على العمل في “فيسبوك” إلى حد أنها ظلت تعرض نفسها على الشركة لشهور قبل أن توظفها الشركة فعلاً. وولدت وين وليمز ونشأت في نيوزيلندا، وكانت تعمل دبلوماسية في سفارة بلدها لدى واشنطن، وقبل ذلك عملت ضمن البعثة النيوزيلندية لدى الأمم المتحدة. ثم انجذبت إلى قضايا حقوق الإنسان والبيئة.
ونظراً إلى اعتمادها على “فيسبوك” في التواصل مع أصدقائها داخل نيوزيلندا، فقد آمنت بأن المنصة قادرة على “تغيير العالم”. وفي وقت أدركت الحكومات ما بوسع “فيسبوك” عمله، استطاعت وين وليمز أن تقنع الشركة بنفسها، وقالت للمسؤولين إن بوسعهم توظيف دبلوماسية. ولما وظفوها في نهاية المطاف اعترتها سعادة غامرة لدرجة أن تكتب “إنني لا أصدق أن الفرصة سنحت لي لأعمل في أعظم أداة سياسية عرفتها على مدى عمري”.
وما يعقب ذلك ليس إلا تحذيراً بطول الكتاب من الانتباه عند التمني. فها هي مثالية تصورها لقدرات “فيسبوك” باعتباره “أعظم أداة سياسية” تكشف الآن عن مفارقة مريرة بعد 14 عاماً. ففي نهاية مسيرتها، يقال لوين وليمز إن لدى رؤسائها “تخوفات” من أدائها، فيعتريها إحباط هائل إزاء الفترة التي قضتها عاملة في شركة، إلى حد أن تصف تعرضها للفصل بـ”الموت الرحيم السريع”.
تحولات زوكربيرغ
ترصد وين وليمز تغير مارك زوكربيرغ خلال وجودها في “فيسبوك”. فـ”في ظل افتتانه بأن يكون محط إعجاب، يزداد جوعه إلى لفت الأنظار واجتذاب الإطراء، ويتحول تركيزه من الاقتصار على وضع الشيفرات والهندسة إلى ألاعيب السياسة. في جولة داخل آسيا، طولبت وين وليمز بحشد جمع من الناس يتجاوز المليون حتى يتوافر لزوكربيرغ ’حشد لطيف‘، ’وفي النهاية لا تضطر إلى ذلك، إذ تتحقق رغبته هذه من خلال ظهوره في مركز تسوق بجاكرتا برفقة رئيس إندونيسيا المنتخب‘. وفي موضع آخر من ’الطائشون‘ يقول زوكربيرغ للكاتبة إن أندرو جاكسن ’الذي وقع على مشروع قانون طرد الهنود ليصبح قانوناً‘ هو أعظم رئيس عرفته أميركا، لأنه كان ’قادراً على الإنجاز‘”.
أما عن شيريل ساندبرغ “فعندما بدأت وين وليمز العمل في ’فيسبوك‘، كانت تشعر بالرهبة تجاه ساندبرغ، التي نشرت عام 2013 بيانها النسوي العملي الأكثر رواجاً بعنوان ’ثابري‘. لكن وين وليمز تعلمت بسرعة ألا تثق في مكر هذا البيان، وقد رأته غطاء رقيقاً لـ’قواعدها المكتومة‘ الخاصة بـ’الطاعة والقرب‘”.
تفزع وين وليمز إذ تكتشف أن “ساندبرغ أصدرت تعليمات لمساعدتها البالغة من العمر 26 سنة بأن تشتري لكليهما ملابس داخلية دونما مراعاة للموازنة (فبلغت الكلفة الإجمالية 13 ألف دولار). وخلال رحلة طويلة بالسيارة في أوروبا، تتناوب ساندبرغ ومساعدتها النوم في حضن إحداهما الأخرى، والتمسيد على الشعر. وفي رحلة الرجوع الطويلة إلى الوطن على مدى 12 ساعة بطائرة خاصة انفردت ساندبرغ وهي مرتدية البيجامة بالسرير الوحيد في الطائرة، داعية وين وليمز مراراً إلى أن ’تعالي لتنامي‘، فترفض وين وليمز مثيرة استياء ساندبرغ”.
وليست ساندبرغ الشخص الوحيد في الكتاب الذي يعاني مشكلات واضحة في مراعاة الحدود الشخصية. إذ واجهت وين وليمز مواقف غير مريحة مع جويل كابلان، صديق ساندبرغ السابق من جامعة “هارفرد”، الذي عُيِّن نائباً لرئيس “فيسبوك” لشؤون سياسة الولايات المتحدة، ثم أصبح نائباً للرئيس لشؤون السياسة العالمية، أي مديراً لوين وليمز. وكان كابلان جندياً سابقاً في مشاة البحرية، وعمل كاتباً لدى القاضي أنطونين سكاليا وكان مشاركاً في “أعمال الشغب في بروكس براذرز” عام 2000 التي أسهمت في وصول جورج دبليو بوش إلى السلطة، فشغل كابلان منصب نائب رئيس الأركان في إدارته.
تصف وين وليمز ضغط كابلان عليها بقوة في حلبة رقص خلال فعالية خاصة بالعمل قائلاً لها إنها تبدو “ساخنة”، ومعلقاً بـ”تعبيرات غريبة” على زوجها. وعندما أنجبت وين وليمز طفلها الثاني وكادت تفقد حياتها بسبب انسداد السائل الأمنيوسي، ظل كابلان يراسلها عبر البريد الإلكتروني أثناء إجازة الوضع، مصراً على إجراء مقابلات أسبوعية عبر الفيديو. وحينما قالت له إنها لا تزال في حاجة إلى مزيد من العمليات الجراحية لأنها لا تزال تنزف، لاحقها بقوله “ولكن من أين تنزفين؟”. وقد تم التحقيق داخلياً في “فيسبوك” حول “تجربتها” مع كابلان، لكن التحقيق برأه من أية مخالفة.
إنه يكذب
وعلى رغم أن مشاهد الإهانة الشخصية هذه مريعة في ذاتها، فإن وين وليمز كانت شاهدة أيضاً على عدد من الوقائع المهينة بطريقة أخرى، ومنها بحسب ما تكتب جينيفر سالاي أن موظفي “فيسبوك” المندمجين في حملة دونالد ترمب خلال انتخابات 2016 كانوا يساعدون على استهداف الناخبين المحتملين استهدافاً دقيقاً، ويزودون الحملة بإعلانات مليئة بـ”المعلومات المضللة والمنشورات المحرضة، ورسائل جمع التبرعات”.
وخلال العام التالي في دولة ميانمار التي يعتمد سكانها اعتماداً كبيراً على “فيسبوك”، أدت الأكاذيب البغيضة التي انتشرت على المنصة إلى التحريض على الإبادة الجماعية ضد أقلية روهينغا العرقية.
تقول وين وليمز إنها بدأت تنبه إلى ميانمار منذ أعوام عديدة قبل ذلك، محاولة أن تقنع “فيسبوك” بتعزيز عمليات المراقبة عندما علمت بانتشار خطاب الكراهية على المنصة. ولكن إدارة المحتوى بحسب ما تكتب كانت بطيئة بطئاً مؤلماً (وقاتلاً)، لأن الشركة اعتمدت على متعاقد واحد يجيد اللغة البورمية وهو رجل من ميانمار يقيم في دبلن، أي في منطقة زمنية مختلفة عن توقيت ميانمار، وعن توقيت مقر “فيسبوك” في ولاية كاليفورنيا الأميركية، لذلك فإن حال ميانمار تظهر أفضل من أية حال أخرى إلى أي مدى يمكن أن يكون “فيسبوك” مدمراً عندما يكون منتشراً فعلياً في كل مكان.
ويتضمن الكتاب فصلاً مليئاً بالتفاصيل عن “أولدرين”، وهي التسمية الشفرية لمشروع “فيسبوك” للتغلب على حظره في الصين. ووفقاً لوين وليمز اقترحت شركة “فيسبوك” كل أنواع الترتيبات بما فيها من عقد شراكات مع كيانات مقرها في الصين، وإتاحة أدوات لجمع البيانات والرقابة، راجية من ذلك أن تسترضي الحزب الشيوعي الحاكم في الصين.
ونظراً إلى معرفة مسبقة بأن الكونغرس قد يوجه أسئلة لمارك زوكربيرغ في شأن الصين، فقد أعطاه فريقه مواضيع للحديث مُحكمة الصياغة، تكتب وين وليمز أنه “لا يبدو أن هناك حرجاً في تضليل الكونغرس، وبخاصة أن أعضاء مجلس الشيوخ سيطرحون أسئلة محددة للغاية للوصول إلى الحقيقة”. وعندما مثل زوكربيرغ في نهاية المطاف أمام لجنة تابعة للمجلس عام 2018، سأله أحد الأعضاء عن كيفية تعامل “فيسبوك” مع عزوف الحكومة الصينية عن “السماح لمنصة تواصل اجتماعي أجنبية أم محلية بالعمل في الصين ما لم توافق على الانصياع للقانون الصيني”، ليؤكد زوكربيرغ في إجابته أنه “لم تتخذ أية قرارات في شأن الشروط التي قد تتاح بموجبها أية خدمة مستقبلية محتملة في الصين”، فتعلق وين وليمز على ذلك بقولها “إنه يكذب”.
رئاسة العالم
تقدمت وين وليمز لسوق الأوراق المالية الأميركية بشكوى تبلغ فيها عن هذه المخالفات. وعلى الصعيد المهني، انتقلت للعمل على قضايا السياسات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، فضلاً عن سكبها حسها الفكاهي المقبض في كتابها هذا. وفي حين أن كتاب “الطائشون” قد يحوي جملة كبيرة من الطائشين، يظل زوكربيرغ في نهاية المطاف هو الذي “يريد أن يكون صاحب القرار”. إذ تظهره الكاتبة وهو يحاول العدول عن نظام المراقبة الداخلي الذي وضعته هي وفريقها على مدى أعوام، مستعيضاً عنه بقرارات رئاسية تتلاقى دائماً مع مصالحه في العمل، وتنتهي من ذلك إلى أن “(فيسبوك) نظام أوتوقراطي يترأسه شخص واحد”.
والأنظمة الأوتوقراطية لا تعرف فرض حدود على الولاية. ففي عام 2016 خلال قمة لزعماء العالم عقدت في بيرو، لاحظت وين وليمز أن كثيراً من الوجوه مألوفة، وأن عدداً من القادة اختفوا، فتكتب “أذهلني فقدان المكانة. غير أن مارك سيظل في رئاسة قادة العالم لـ50 عاماً أخرى. سيرى قادة يذهبون وأجيالاً من القادة تعقبهم. ويبقى هو شأن صاحبة الجلالة”.
نقل مايك إيزاك في تقريره لـ”نيويورك تايمز” عن مطالبة “ميتا” القضائية بحظر الكتاب قول متحدثة باسم الناشر، إن الدعوى القضائية لا تمنع دار النشر “فلاتيرون بوكس” أو شركتها الأم “ماكميلان” من مواصلة نشر المذكرات، مضيفة أن الشركة ستواصل ترويج الكتاب.
وقالت المتحدثة مارلينا بيتنر إنه “أصابنا الفزع من أساليب ’ميتا‘ لإسكات مؤلفتنا باستخدام بند عدم التشهير في اتفاق إنهاء الخدمة”، مضيفة أن “الكتاب خضع لعملية تحرير وتدقيق شاملة، وما زلنا ملتزمين بنشر هذه النوعية من الكتب المهمة”.
أما شركة “ميتا” فأنكرت ما ورد في الكتاب من مزاعم جملة وتفصيلاً، فجاء على لسان المتحدث باسمها أن الكتاب “خليط من ادعاءات قديمة سبق إعلانها من قبل حول الشركة، واتهامات زائفة لمديرينا التنفيذيين”، وأضاف المتحدث في بيان أن وين وليمز مفصولة من الشركة بسبب ضعف أدائها، وأن تحقيقاً سبق إجراؤه انتهى إلى أنها “قدمت ادعاءات مضللة ولا أساس لها في شأن التحرش”.
ولم يكتف موظفو “ميتا” بتعقب سارة وين وليمز قضائياً، بل عمدوا إلى الرد عبر الإنترنت أيضاً، واصفين مزاعمها جميعاً بالزيف الصريح.
ويقول مايك إيزاك إن من غير الواضح هل ستكلل مساعي “ميتا” بحجب “الطائشون” بالنجاح. “ففي عام 2023 قضت الهيئة الوطنية لعلاقات العمل بأنه من غير القانوني عموماً أن ترغم الشركات موظفيها على اتفاقيات إنهاء خدمة، تمنعهم من الإدلاء بتصريحات قد تسيء إلى أصحاب العمل السابقين، بما في ذلك مناقشة اتهامات التحرش الجنسي أو الاعتداء الجنسي”.
أحمد شافعي
اندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة